توجيه ضربة عسكرية لدولة جارة عن طريق الجيش المصري خبر غير مألوف بالمرة لكنه حدث بالفعل أول أمس، إذ لم يعهد أحد منذ حرب أكتوبر 1973 على مصر التلويح بدخول حرب ضد أحد أو المشاركة المباشرة في حرب دون أن يكون ذلك في إطار إقليمي أو دولي محدود كحرب الخليج أو غيرها من العمليات العسكرية التي شاركت مصر فيها كجزء من مجموع عسكري كبير في قضايا لا تمسها مساسًا مباشرًا كالذي سينتج عن توجيه ضربة عسكرية مصرية لدولة كليبيا والتي تمتلك حدود تبلغ أكثر من 1000 كيلو متر مع جارتها مصر.
فالتلويح بقيادة تحالف غربي عربي لتوجيه ضربات للداخل الليبي أمر له عواقبه على الدولة المصرية أكثر من غيرها من الدول التي طُرحت أسماؤها للمشاركة في هذه الضربة كفرنسا والجزائر وإيطاليا، وذلك بسبب تفسخ الجبهة الداخلية المصرية وسهولة اختراقها وإمداد مجموعات داخلية بالسلاح الليبي المنتشر بالفعل في مصر، فموجة التصعيد الإعلامية المهللة لهذه الضربات الغير مؤثرة حتى الآن هي من الخطورة بمكان على المستوى البعيد إذا ما فكرت القيادة السياسية في مصر التصعيد الميداني بغزو بري أو ما شابه، إذ إن أعداد المدنيين المصريين الذين يترددون على مدن ليبيا يقدر بمئات الآلاف وهو ما سيعرض أرواحهم للخطر في حالة نشوب حرب بين الدولة المصرية والمسلحين في ليبيا.
هذا التدخل المصري العسكري في ليبيا الذي يقرع طبول حرب إقليمية أوسع ليس هو الخيار العسكري الوحيد الذي يمكن أن تتخذه مصر في الأيام المقبلة، إذ إن سياسة مصر عقب الانقلاب العسكري في الـ 3 من يوليو الماضي الذي قام به الجنرال عبدالفتاح السيسي الرئيس الحالي ووزير الدفاع السابق تغيرت تمامًا على الصعيد الإقليمي وعلى صعيد مواجهة الأزمات التي تواجه السلطة في مصر، حيث تعددت مهام الجيش سياسيًا في الداخل وتم توظيف قوته خارجيًا في الإقليم للدخول في حروب بالوكالة تحت مزاعم “محاربة الإرهاب” وهي أجندة دولية بالطبع لقوى خارجية.
فالتهديدات التي تمر بمصر والتي هي أكثر جدية وقد تتطلب حسمًا عسكريًا – وهو ما لم تنكره السلطات المصرية على لسان مسؤوليها عدة مرات – لا تكاد تجد لها أولوية في أجندة الصراع المصرية، إذ تهتم مصر بدمج نفسها في تحالف دولي غير محدد الأهداف لمحاربة ما يعرف بالإرهاب، وهو في حقيقة الأمر محاولة من السلطة في مصر لاكتساب شرعية دولية لا أكثر أمام الخصوم السياسيين من الإسلاميين بسبب التوجه الإقليمي والدولي للحد من نشاطهم في المنطقة.
الصراع المصري الإثيوبي حول سد النهضة
استنكرت مصادر عسكرية مصرية معالجة الصحافة الإثيوبية لقضية عدم وجود قدرات عسكرية مصرية لتوجيه ضربات لسد النهضة الإثيوبي التي شرعت إثيوبيا في مراحل بنائه والذي سيؤثر على الحصة المائية لدول المصب؛ ما يجعل الأمر تهديدًا مباشرًا لأمن مصر المائي تتغافل عنه الدولة المصرية بانشغالها في صراعات مع الخصوم السياسيين.
وقالت هذه المصادر التي نشرت تصريحاتها في جميع الصحف المصرية تقريبًا إن الجانب الإثيوبي لا يعرف القدرات العسكرية المصرية، مشيرًا إلى أن الجانب المصري سيستنفذ أولاً كافة الطرق الدبلوماسية والدولية والشعبية أيضًا لحل مثل هذا الخلاف.
هذه القضية كانت قد اتخذت حيزًا كبيرًا في تناولها لدى الإعلام المصري في السابق كجزء من الهجوم على الرئيس السابق محمد مرسي قبيل الانقلاب عليه كنوع من التمهيد الشعبي، وهي تهديد حقيقي غير مبالغ فيه ولكن الغريب أنه ما لبثت أن اختفت القضية من الساحة الإعلامية عقب الانقلاب العسكري مع أن التهديد مستمر، بل وفشلت كافة الطرق الدبلوماسية والشعبية في إثناء الطرف الإثيوبي عن وقف بناء السد حتى اللجوء للتحكيم الدولي، والجانب المصري يمارس فضيلة الصمت إعلامًا وحكومة.
حتى تحدث البعض عن إمكانية توجيه مصر لضربة عسكرية كحل أخير لإيقاف أعمال السد، وشكك البعض أيضًا في القدرات العسكرية المصرية منهم الجانب الأثيوبي على لسان إعلامه.
ولكن في تقييم علمي لهذه القضية لمعهد “ستراتفور الأمريكي” للدراسات الإستراتيجية، سلط الضوء على الخيارات العسكرية المتاحة أمام مصر في هذه القضية بتقرير ورد فيه “أن مصر تسعى إلى جذب التدخل الدبلوماسي بالنيابة عنها لإحباط محاولة بناء السد، ولكن التوترات قد وصلت عند النقطة التى أشارت فيها مصر إلى احتمال استخدام القوى لإبعاد السد عن التخفيض المحتمل فى مياه النيل فى المصب لمستويات غير مقبولة، وسوف يكون هناك ضغوط دولية جادة، من أجل إبقاء الجدل حول السد فى إطار الدبلوماسية، إلا أن هناك قيودًا كبيرة على إمكانية الحل العسكرى المصرى بسبب التهديد الحقيقي الذي يشكله السد”.
ويشير التقرير إلى أن المسافة تمثل عقبة هائلة فى طريق أي خيار عسكري مصري، لأن إثيوبيا بعيدة جدًا عن مصر، وبما أن مصر لم تستثمر في أي نوع من القدرة على التزود بالوقود الجوي، فإن الأمر أكثر صعوبة، والعزاء الوحيد لمصر هو أن السد قريب جدًا من الحدود السودانية، إلا أن انطلاق الطائرات المصرية من السودان سيكون أمر معقد من الناحية السياسية، وسيكون له عواقب دولية للسودان ومصر، كما أن قرب السودان من إثيوبيا سيجعلها معرضة لانتقام عسكرى مباشر.
وخلص تقرير ستراتفور إلى : “إن مصر ربما تكون أمامها خيارات عسكرية، إلا أن المسافة ستعوق بشدة قدرتها على استخدام القوة الكاملة لجيشها، وأي خيار تراه القاهرة سيكون محفوفًا بالمخاطر في أفضل الأحوال، وسيأتي أيضًا بعواقب دولية ضارة”.
لكن الواقع يؤكد أن الأزمة ليست ذات أولوية عند الجنرال السيسي إذ إنه منهمك في حروب أخرى لتثبيت دعائم حكمه، بينما يؤكد محللون أن أزمة السد آتية لا محالة وأن السلطة في مصر تتهرب من الأزمة إلى الأمام لكن ستأتي نقطة وتعيد الأزمة نفسها على الساحة عند الانتهاء من مراحل معينة في بناء السد، وحينها ستكون القاهرة في مأزقها بين اللجوء للحل العسكري الغير مضمون من عدمه، ولكنها حرب جدية وعلى القاهرة أن تفكر فيها بديلًا للتورط الإقليمي الحالي.
حرب أخرى على القاهرة أن تتجهز لها وتعد لها العدة وقد تكون هي الأقرب للحدوث إذا حدثت تطورات دراماتيكية في اليمن بعد سيطرة الحوثيين عليها ووقع مضيق باب المندب رسميًا في يد إيران لتسيطر عليه وتقرر هل تخنق الخليج ومصر بإغلاقه؟
التدخل العسكري المصري في اليمن
هو ثاني الاحتمالات الجدية للتدخل العسكري المصري المباشر في المنطقة، وذلك بعدما ذكرت مصادر دبلوماسية عن زيارة عبدربه منصور هادي للولايات المتحدة منذ عامين قبل ذلك، أنه نقل للأمريكيين أن إيران تسعى لتنفيذ مخطط يستهدف السيطرة على مضيق باب المندب بالبحر الأحمر كما هو الحال بمضيق جبل هرمز في الخليج العربي وبذلك ستتمكن إيران من التحكم في حركة الملاحة في المنطقة ولاسيما المتعلقة بقناة السويس في مصر.
عقب سيطرة الحوثيين على مجريات الأمور في اليمن، انطلقت تصريحات مصرية تؤكد أنها لن تسمح بسيطرة الحوثيين على مضيق باب المندب وأن كل الخيارات متاحة أمام مصر لمنع تهديد الأمن القومي المصري كما جاء على لسان الفريق مهاب مميش رئيس الهيئة العامة لقناة السويس.
كذلك بث التليفزيون المصري حوارًا من قناة “دبي” لرئيس الوزراء إبراهيم محلب أكد فيه أن “مصر لن تسمح بسيطرة الحوثيين في اليمن على مضيق باب المندب، كما لن تسمح بأي تهديد للأمن القومي المصري، ومصر قادرة على الرد بالطريقة التي تراها مناسبة”، ونقلت وكالة “أسوشيتد برس” في نفس الصدد، عن مسؤولين مصريين، قولهم إن “مصر جهزت قوة تدخل سريع يمكنها التدخل، إذا هدد الحوثيون الممرات الملاحية في البحر الأحمر الإستراتيجي”.
هذا التحدى هو الذي يجب أن تنظر إليه مصر بعيدًا عن الهرولة خلف بضعة مسلحين في صحاري ليبيا والتورط خارج الحدود في معركة خاطئة دون إعطاء أهمية وتجهيز لأزمة كالتي من الممكن أن تنشب بين إيران ودول الخليج ومصر بخصوص مضيق باب المندب الذي وقع في أيدي الحوثيين، هذا المضيق الذي يُعد المنفذ لتصدير البترول الخليجي.
وإذا بحثت مصر في هذا الصدد عن دعم إقليمي ودولي فإن المجتمع الدولي لن يقبل بأي إعاقة لحركة الملاحة في هذه المنطقة لاسيما وأن مصالحه النفطية تمر من هناك، إذن فالمعركة مدعومة دوليًا وإقليميًا من دول الخليج وهو أمر قد لا يستوي مع التدخل العسكري في ليبيا الذي من المحتمل أن يكبد الجيش خسائر قد لا تمكنه من فتح أي جبهات أخرى مع خصم مدعوم بإيران كالحوثيين إذا ما تقرر غلق المضيق، ولكن يبدو أن السلطة في مصر لا تهتم سوى بمعارك تثبت الوضع القائم بتصويره صراع أيديلوجي بين الدولة والإسلاميين.
المعارك الخطأ المحتملة
في ظل تصاعد الوضع في سيناء وفشل الدولة في احتواء الأمر والإصرار على الحل الأمني الغير ممنهج بعيدًا عن الحل المجتمعي، تصر الدولة المصرية على خلق فزاعة في سيناء لترويج مشروع مكافحة الإرهاب في مصر حتى أصبح الإرهاب المتحمل إرهابًا يقينيًا، وبدلًا من المواجهة الحقيقة لهذا الإرهاب بطرق علمية على كافة المستويات قامت الدولة المصرية وإعلامها بإلقاء اللوم والفشل على قطاع غزة، متهمة إياه بأنه مصدر هذا الإرهاب، وبدلًا من اعتبار غزة خط دفاع أول عن الأمن القومي المصري، عزمت السلطات في مصر وإعلامها على الترويج بأنها العدو الأول لمصر بديلًا عن العدو الصهيوني الذي تنحى عن المشهد في العقل الأمني المصري، فصدرت أحكام قضائية تتهم حركات المقاومة في غزة بالإرهاب وضمها إلى قوائم الحركات المحظورة في مصر في ظل تحريض إعلامي شديد من وسائل إعلام تابعة للسطة في مصر على الفلسطنيين القادمين من القطاع مع استمرار تضييق الخناق على القطاع بغلق معبر رفح البري الذي يعمل كرئة لقطاع غزة وقد توقفت منذ الانقلاب.
فالتهديد بالتصعيد العسكري تجاه غزة لم يتوقف منذ اليوم للانقلاب والإعلاميون المصريون مازلوا يلوحون به وهو بالطبع معركة مفتعلة ضد فصيل أيديلوجي لتبرير فشل سياسي داخلي باستخدام فزاعة الإرهاب القادم من غزة.
كذلك ثمة تصعيد إعلامي تجاه دولة جارة كالسودان على أساس أيديلوجي باتهامها بدعم جماعة الإخوان المسلمين وهو الأمر الذي إن صحت فرضيته فهو غير مؤثر بالأساس في القضية، في حين أنه يجب التعامل مع دولة السودان بشيء من الأهمية الإستراتيجية للأمن القومي المصري بدلاً من استعداء الجميع من أجل هواجس ضياع كرسي السلطة من الجنرالات في مصر، فبالتأكيد الدعاوى لغلق الحدود المصرية السودانية ما هي إلا دعاوى لفتحها لتصدير السلاح والعمليات المشبوهة، والبديل لهذه الدعاوى الحمقاء هي ضبط الحدود بالتعاون بين البلدين وتعزيز قدرات السودان العسكرية في مكافحة التهريب وغيرها من الأشياء التي تشكو مصر منها.
هذه الدعاوى تبين أن العقلية الإعلامية التي تحركها العقلية الأمنية في مصر تود أن تسير بمصر كلها في طريق مسدود آخره فناء هذا الجيش الذي يتغنى الجميع بقوته دون إدارك لطبيعة المعارك التي ينتوى خوضها بالوكالة بلا ثمن سوى تثبيت قدم الحاكمين في السلطة ملتفتًا عن حروب وشيكة يفضل الحاكم في مصر أن يفك الاشتباك بها بمزيد من الانحناء وتضييع حقوق البلاد، أما عن معارك السلطة مع خصومها فلا انحناء فيها ولا بديل فيها عن حل عسكري قمعي أحمق.