حينما تتأمل في قناة تصويت السودان تذهل لهذا العدد الكبير من الأحزاب، مسميات ما أنزل الله بها من سلطان، أسماء لم نسمع بها من قبل، ولم تر لها أي حياة على أرض الواقع، كيف انبثقت؟! كيف تولدت؟! كيف تطورت؟! ماذا قدمت للإنسان البسيط؟! وبعملية حسابية لعدد هذه الأحزاب تجد أن كل حارة من حارات أو أحياء العاصمة المثلثة يمكن أن تعطيها حزبًا خاصة بها، ولك أن تسبحن الله وتذهل.
كيف انبثقت هذه الأحزاب من ظلام الحكم الأحادي ومن حياة القهر التي يقودها وعمل على تصنيع هذه المسميات ليعطينا صورة أن الوضع قد تغير وأن أحزابنا قادرة على خوض انتخابات مهرجانية بهلوانية، تعمل على إنتاج نفس الحزب ونفس الوجوه وتستمر الدوامة، حتى يخرج من رحم الغيب الشباب الجديد، إن كانت الأحزاب الكبيرة قد تشظت وتكاثرت بمباركة الحكومة المسرورة بهذه الانقسامات، إن كانت أحزاب الأمس – والمولودة حتى قبل أن يولد رئيس الحكومة الحالية – قد بهتت وخفتت أضواءها وذبلت ورودها وجفت أوراقها، فكيف تقنعنا أن السلام العادل سيكون له دور في قيادة الحياة الجديدة، أو أن حزب الحقيقة الذي لا يعرف حقيقة سيكون له دور في الحياة المستقبلية؟!
إن كل المؤشرات والدلالات تنبئ بأن الحزب الحاكم سيأتي مرشحه الموجود منذ ربع قرن من الزمان، سوف يفوز بكرسي الرئاسة وسيشكل حكومته من نفس المنتفعين الذين يسيرون مع كل من كانت السلطة والأموال في يده،
ولك أن تسأل لماذا سيفوز البشير، الأمر ببساطة أن الرجل وحزبه لم يعملوا طوال ربع قرن إلا على الفوضى والدجل والسيطرة على منابع الأموال، إن كانت هناك منابع، لذا لا يمكن مقارنة من يملك موارد الدولة مع أحزاب هشة هامشية.
هل تصدق أن دوائر الفساد والسيطرة في التجارة الخارجية والداخلية والجمارك والموارد المائية والحيوانية، سوف تتنازل ببساطة عن قيادة طويل العمر ليكون جمعها لرجل آخر؟! كل التراكمات لمن يقولون إننا نمثل الإسلام والحركة الإسلامية هل ستجعل منهم ديمقراطيين يقبلون بوصول قائد من البجا أو الحزب الشيوعي أو حزب البعث؟! وهل يستطيع إن وصل أن يطبق مبادئ حزبه؟ كلا .. إن الأمر بكل هذه الجبال الضخمة من المصروفات والتي لا داعي لها، إن إطلاق قناة تصويت السودان بكل مصاريفها وأتعابها وقمرها الصناعي لكانت جديرة هذه الأموال أن تجلب عشرات الأجهزة لمرضى الفشل الكلوي، ولكن نحن نعيش بين يدي قيام الساعة وبين يدي رجال الفساد والإفساد.
فإذا كانت انتخابات روسيا قد أعادت بوتين إلى سدة الرئاسة مرة تلو أخرى، وأصبح هو ومدفيديف يتبادلان الأدوار في بلد يتمتع بالكثير من العلم والتطور؛ فهل يقنعني أحد أن انتخابات السودان ستأتي بوجه جديد لحكم السودان وسيطمع أن يطبق أفكاره ومبادئه الحزبية و يشكل الحكومة على هواه.
إنك في الوقت الذي تسمع فيه الكلام عن الانتخابات وحرية الرأي، تجد أن الصحف تصادر، والناطق العسكري يتكلم عن صيف حاسم .. ما الذي تغير عندنا حتى نقتنع أننا نخوض انتخابات الحرية وعملية التداول السلمي للسلطة، إن خروج أحد العسكريين في مؤتمر دعم الكرامة و العزة و غيرها من المصطلحات غير المناسبة فيقول إن هناك صيف حاسم كما كان من قبل صيف العبور الذي انتهى لمفاوضات فيغاشا، إن تصريحات مثل الصيف الحاسم وإنهاء التمرد، لا تتناسب والمرحلة الانتخابية، إن كان هؤلاء القوم في صدق ونية حسنة وطيبة تجاه أبناء جلدتهم، لطرحوا مبادرة شجاعة تنهي الحرب في كل ربوع البلاد، لكن النية هي السحل والقتل والقهر ومواصلة السير على نهج إسكات كل من يحاول أن يقول لا؟ فكيف تصدق أن هناك انتخابات ستأتي بسلطة جديدة؟ نسأل الله العافية من إنتاج الفساد والإفساد والرأي الواحد والحزب الواحد والمجموعة المجرمة الواحدة.
والمتأمل للانتخابات الإيرانية يرى أن الثورة الإيرانية منذ سنواتها الأولى في ثمانينيات القرن الماضي وصل أبو الحسن بني صدر كأول رئيس للجمهورية وتوالت انتخاباتهم حتى وصلت إلى الرئيس السابع حسن روحاني، فأين أصحاب الحزب الواحد والقمع المتواصل مما قدمته الثورة الإيرانية من نموذج المرشد والانتخابات؟ كان الترابي مرشدًا لما أسموه الإنقاذ، ولكن تلاميذه الذين لا يضعوا أي اعتبار لأي قيمة أو لصغير أو كبير أو أي إرث تاريخي فككوا كل شيء، والآن يحاولون إقناعنا بأن النزاهة والشفافية والموضوعية هي من أدواتهم وأصولهم، من يقنعنا بهذا الزخم البالوني بما يسمى انتخابات سوف يأتي برئيس جديد وحكومة جديدة، تعمل على تغيير الواقع الذي يحتاج إلى جهود جبارة ومجتمع مدني غير موجود أصلاً.
إن الانتخابات اليهودية تعمل على إنتاج نفس المجاميع منذ سنوات (نتنياهو -أولمرت – إيهود باراك – بيريز)، وانتخاباتنا هي على نفس المنوال، أو هي على الطريقة البنجلاديشية (حسينة وخالدة).
هنيئًا لمؤيدي صاحب الست وعشرين عامًا، هنيئًا لهم بقاءه في الكرسي لسنوات قادمة، سنوات بالطبع لن تكون نضرة، بل عبوسًا قمطريرًا، ورغم أني متفائلة حد الجنون إلا أن عزائي أقدمه لكل أكاديمي عظيم في السودان، وكل بروفيسور وكل طبيب وكل عالم وكل طالب علم وكل باحث، أقدم عزائي لهم جميعًا في أن يصل أحد منهم إلى سدة الحكم، طالما أن السل والعلل المؤلمة تنهش في جسد اسمه السلطة.
أما عزائي الكبير فلكل امرأة شاي شريفة، ولكل بائعة تفرش في أسواق معفرة مغبرة وتستنشق عوادم السيارات وهي تبيع أشياء لا تؤمن لها عيشًا وتظل قابعة متكورة قرب حائط متهالك ولا يشعر بها أحد من الذين عملوا على صرف ميزانيات ضخمة على انتخابات وهمية، وعلى بناء قصور وصرف ماله حدود.
عزائي لجيش عرمرم أهله يمضغون الصمت ويلتحفون المساكن الخالية من كل ما يجعل الحياة كريمة، لمن من الصحفيين الشرفاء يخرج لنا ما تم صرفه وما سيتم حتى الثالث عشر من أبريل من أموال كانت تكفي لصرف رواتب الذين لم يستلموا رواتبهم في الأصقاع البعيدة وتأهيل المدارس الحكومية، إن بقيت هناك مدارس!