لا تكمن روعة الثورات العربية في كونها حققت لشعوبها الرخاء والعدل فليست تلك مهمة الثورات، وإنما في كونها أخبرت العالم أن تلك الشعوب قد قامت من سباتها وهجرت النوم وعادت إلى مسرح التاريخ لتصنع الحدث لا لتكون جزءًا منه، كما أعلنت للعرب والمسلمين أنفسهم أن ثمة قوة كامنة فيهم يستطيعون إخراجها إن أرادوا، وأن هناك أدوارًا للبطولة على مسرح التاريخ تنتظر من يؤديها!
البطولة .. ذلك السحر الذي يتجلى للعلن في صورة شخص ما في زمان ومكان لا يفطن إليه أحد، لأنه لا يخضع لقوانين الكون المادية، بل للسنن الروحية التي تدهشنا عند المنعطفات التاريخ الحاسمة بتأثيرها، أقول لا تخضع لقوانين الكون المادية لأنها لا تعبأ بالربح والخسارة، بل مرادها المجد وغايتها الكرامة وثمرتها الحرية، يقوم فيها البطل بدوره لأنه يستوجب عليه القيام به فقط، لا لأنه سيثمر مصلحة أو منفعة ما.
تخضع حركة التاريخ في ظاهرها إلى إرادة هؤلاء الأبطال، حتى وإن لم يكن ثمة ثمرة ظهرت خلال حياتهم، فنحن نعلم أنهم من بذروا البذرة في وقت لم يصدق فيه أحد أنها ستنبت وهنا تكمن البطولة! لقد آمنوا بقوة البذرة وضرورة الغرس، آمنوا بضرورة الحركة وعدم الخمول، آمنوا حين لم يكن لديهم دليل على النجاح سوى الإيمان نفسه وكانت تلك بطولتهم!
البطولة ليست حكرًا على الأشخاص؛ ففي حالة الثورات العربية رأينا (بطولة شعب) وأُسميها كذلك لأن الفئة التي ثارت تشكل كل فئات الشعب، فهي بطولة شعب كيفًا لا كمًا، ولا يلغي ذلك دور البطولة الفردية، ولكن الذي صنع تلك الردة على الظلم والرفض للعبودية هو الشعب وليس الفرد، لقد كانت الثورة سلسلة من البطولات المتتابعة التي عبّرت عن الروح الكامنة في الشعب وإرادته للتغيير فكلما قُتل أحد قام مقامه آخر، صحيح أن هؤلاء لم يكن لديهم خطة واضحة عن كيفية ذلك التغيير، ولكن كانت لديهم رؤية ثابتة أنهم لم يعودوا يرضون بالاستبداد والخضوع وسيرفضون – ولو رفضًا كامنًا – كل من يسعى لاستعبادهم بالقوة مرة أخرى، وتلك هي حقيقة الثورة.
لا تكمن بطولة شعب كالشعب السوري مثلاً في أنه صنع نموذجًا يُحتذى في النصر، وإنما في ثبات ثواره بكل فئاتهم – وليس كل الشعب – وصمودهم ضد معركة لا تختلف عن معارك الحرب العالمية الدموية إلا في أنها لم تأخذ ذلك الاسم ولم يعترف بها أحد، وإلا فماذا نسمى أجيالاً تربت على أصوات القصف وأزيز الرصاص، وصبغوا البلاد طولاً وعرضا بدمائهم، ثم ومن بين الركام والدمار والموت يستطيع طفل أن يخرج علينا بابتسامة أمل! وأن يضحك بصوت ربما طغى على صوت المعركة! جزء من بطولة ذلك الطفل أنه ابتسم رغم خذلان الكل له، ابتسم رغم أنه يعلم أن لا أحد سيأتي ليمسح جرحه، ابتسم رغم أنه لا يعلم متى النصر ولا كيف سيكون!
لا يكون البطل بطلاً كذلك الطفل إن لم يكن له موقف يستفرد به عن غيره، فقد ابتسم حين بكى الجميع، وذلك المرابط على خط النار والذي ثبت حين انخذل الجميع، وذلك الذي لم يدع القضية للزمن ليحلها بل ظل يبحث ويحاول حين استسلم الجميع! هؤلاء هم الأبطال، وفرق ما بينهم وبين أبطال التاريخ أنهم مازالوا جزءًا من الحاضر، مازالوا يسطرون بطولاتهم والتي لم يعتد الناس تقديرها إلا بعد رحيل أصحابها!
أذكر من هؤلاء الذين صرخوا صرخة الحرية الأولى في جوامع وساحات سوريا ومصر وبلاد الثورات العربية، لقد أثبتوا أن البطولة ليست كذبة طوتها صفحات التاريخ بل روح تتجدد طالما في البشرية إيمان بالحق وعشق للعدل وعطش للحرية، وأكاد أجزم أن أحدًا من هؤلاء لن يرى ثمرة بطولته أو كلها على الأقل خلال حياته، وليس ذلك بمانعه عن المضي قدمًا في دربه، فهو يؤمن بالبطولة ذاتها، وعقيدته لا تقر له بالخمول، ولا يستقيم في مذهبه الخضوع والتبعية، فهو حر في صميم فؤاده وحر في أن يختار ما يريد وحتى طريقة موته إذا اقتضى الأمر! وهو في الوقع ذاته مستعد لدفع ثمن بطولته وإن غلا، ولا يكون البطل إلا كذلك.
وفي وصف أحد الأبطال وهو عبد الكريم الخطابي يقول مالك بن نبي: “ولقد كان الأمير الأول عبد الكريم الخطابي آخر من ارتشف من كأس البطولة الموروثة عن أجدادنا الأوائل، ولم يبق بعده من يهبون للنضال ضد المستعمر من أجل البطولة المجردة، في سبيل الخلود على سنة الذين عقدوا ألويتهم للكفاح، فقد كانت القبائل العربية والبربرية تقاتل معه لا من أجل البقاء، ولكن في سبيل الخلود”.
دوافع البطولة كامنة فينا ولا يكاد ينجو منها أحد، بيد أنها قد تحتاج إلى صوت ليوقظها، تحتاج إلى نداء يخبرها كم هي عظيمة، وكم أنها قادرة على أن تصنع المعجزات، فحينما تتجلى البطولة تتقهقر الأعداد والعدة، وهؤلاء الأبطال هم أصوات القدر التي يبعثها لنا بين حين وآخر، ليخبرنا ألا يأس وأن الإرادة ما نريد، وأن إيمان اليوم هو واقع الغد!