في الخامس والعشرين من يناير عام 1995، أطلق باحثون صاروخًا في سماء النرويج، في إطار دراستهم للشفق القطبي، لينتهي الأمر بالصاروخ منطلقًا في نفس المسار الذي تسكله صواريخ “أمريكان مينيتمان 3” (American Minuteman III) التي تحمل الرؤوس النووية، وتعتبر واحدة من الصواريخ الموجهة ناحية روسيا حال وقعت مواجهة.
بطبيعة الحال، تم وضع الجيش الروسي في حالة تأهب حال التقاط الإشارة، وقام الرئيس بوريس يلتسين بتشغيل جهاز إطلاق الأسلحة النووية (تشيجِت)، واستغرق في التفكير ليقرر إما الرد أم لا، حيث كان الهجوم الأمريكي – كما بدا – غريبًا جدًا بالنظر للعلاقات الجيدة بين واشنطن وموسكو، والتعاون النووي الأمريكي الروسي الذي بدأ عام 1991، وهو ما تأكد لاحقًا حين أكمل الصاروخ رحلته بعيدًا عن المجال الجوي الروسي، مما دفع يلتسين في النهاية لاتخاذ القرار بعدم توجيه أي ضربة في مواجهة هذا الصاروخ بعد عشر دقائق.
عودة التوتر النووي
في نوفمبر المنصرم، وعلى خلفية التوتر في العلاقات الروسية الأمريكية، قررت موسكو مقاطعة قمة الأمن النووي المرتقبة في الولايات المتحدة عام 2016، وتبع ذلك في ديسمبر تصويت الكونجرس الأمريكي، لأول مرة من رُبع قرن، على رفض منح التمويل اللازم لتأمين المواد النووية في الاتحاد الروسي، وهو ما رد عليه الروس بعدها بأيام بإنهاء التعاون في كافة المجالات المتعلقة بالأمن النووي، بموجب برنامج التعاون لتقليص التهديدات (CTR).
كان البرنامج، والذي التزم به الطرفان على مدار عقدين، يضمن التمويل اللازم لتأمين المواد النووية في روسيا وبلدان الاتحاد السوفيتي السابقة، لكيلا تستطيع الجماعات المتطرفة أو الإجرامية الوصول إليها، وقد نجح في إبطال 7.600 رأس نووية، وتدمير حاولي 900 صاروخ عابر للقارات، وأكثر من 650 صاروخ باليستي يُطلَق من الغواضات، بالإضافة إلى تطوير الإجراءات الأمنية لـ24 مفاعلًا نوويًا وإزالة كافة الأسلحة النووية من أوكرانيا وكازاخستان وبيلاروسيا.
كان البرنامج، والمعروف باسم برنامج “نان – لوجار” على اسم مهندسيه السيناتور الديمقراطي سام نان والسيناتور الجمهوري ديك لوجار، من أنجح برامج حظر انتشار الأسلحة التي قادتها الولايات المتحدة بالتعاون مع روسيا، وهو ما دفع الكثيرين للتشاؤم والقلق جراء إعلان روسيا منذ أشهر وقف اتفاق تمديد مشاركتها فيه، بعد مباحثات دبلوماسية سرية في موسكو أبلغ فيها الروس المسؤولين الأمريكيين أنهم يرفضون الدعم الأمريكي الذي حصلوا عليه سابقًا لحماية مخزون اليورانيوم والبلوتونيوم الروسي، لينهوا بذلك التعاون الأمريكي الروسي المحوري لاستمرار السلام والاستقرار بين البلدين.
بالنظر لتصاعد الأخطار العسكرية الحادث مؤخرًا، لاسيما والمواجهات بين القوات الغربية والشرقية تحدث بوتيرة أكبر، كما ورد بتقرير شبكة القيادة الأوربية مؤخرًا، تقوم موسكو وواشنطن حاليًا باستثمار أموال طائلة لتطوير ترسانتهما النووية بعد فترة من الاستقرار النسبي بدأت في تسعينيات القرن الماضي، وهو أمر يُنذر بعودة التوتر النووي في ظل تعطيل التعاون وغياب الاتصال الوثيق بين الطرفين.
ساعة القيامة
في يناير الماضي، ضبطت نشرة علماء الذرة (Bulletin of the Atomic Scientists)، والتي ينشرها مجلس العلوم والأمن، ساعة القيامة عند ثلاث دقائق قبل منتصف الليل (ساعة الصفر)، وساعة القيامة هي ساعة رمزية تمثّل العد التنازلي نحو أي كارثة عالمية محتملة، وكلما اقتربت عقاربها من منتصف الليل، كلما كان الخطر أقرب، كما يعتقد العلماء القائمون على النشرة، والذين تضم صفوفهم 18 حائزًا على جائزة نوبل.
كانت المرة الأخيرة التي أعلنت فيها الساعة ثلاث دقائق قبل منتصف الليل هي عام 1983، حين وصلت العلاقات الروسية الأمريكية إلى الحضيض أثناء الحرب الباردة، ولم يكن هناك وضع أسوأ من ذلك سوى عام 1953، والذي توفي فيه الزعيم السوفيتي ستالين وأعلنت فيه الولايات المتحدة وروسيا تطوير أجهزة نووية حرارية على بعد أشهر من بعضهما البعض.
“أساليب الحرب المعقدة والهجينة اليوم تجعل كل المخاطر أشد من ذي قبل، وتجعل من الأسلحة النووية التكتيكية أكثر تهديدًا”، هكذا قال سام نان، وريتشارد بورت، الدبلوماسيان الذان قادا مفاوضات صياغة معاهدة خفض الأسلحة الإستراتيجية (ستارت) بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، “الأمريكيون والروس يملكون أسلحة النووية في حالة تأهب قصوى، ولدى كلٍ منهما منظومة نووية تسمح لهما بتشغيل الصواريخ الموجودة على أراضيهما في أقل من 15 دقيقة، وهي مسألة شديدة الخطورة بالنظر للتحوّل الذي تشهده طبيعة الحروب اليوم”، هكذا قال بورت.
هاتف أحمر جديد
في قمة ميونيخ للأمن التي انعقدت منذ أسابيع، تحدث وزير الخارجية الروسي السابق إيغور إفانوف عن الحادثة النرويجية مجددًا، مشيرًا إلى خطورة وقوع حوادث مثل هذه اليوم، حيث تشهد العلاقات الروسية الأمريكية تدهورًا شديدًا، وقد لا تجد القيادة الروسية غضاضة في الرد، على العكس من ضبط النفس الذي التزمت به عشر دقائق أيام يلتسين، “خمس أو ست دقائق سيكون وقتًا كافيًا جدًا للرد إذ كانت لديك ثقة في خصمك، أما إذا كانت الاتصالات بينكما مقطوعة، فإن قرار الرد يتم اتخاذه في الحال، لو وقعت اليوم حادثة مثل حادثة الصاروخ النرويجي، لا أعتقد أن القرار الصحيح قد يُتَخَذ فيها”، هكذا قال إيفانوف.
بدوره، دعا فيليب بريدلاف، رئيس قوات عمليات التحالف التابعة للناتو في أوروبا، إلى تدشين “هاتف أحمر” جديد، في إشارة إلى نظام الاتصال المباشر بين واشنطن وموسكو (وهو يُعرَف فقط بهذا الاسم ولم يشتمل في أي وقت على هاتف أحمر فعلي)، والذي بدأ بعد الأزمة الكوبية عام 1962، تأكيدًا على أهمية تعزيز التواصل حتى في أوقات الأزمات لتفادي الانزلاق إلى المواجهة، لاسيما وأن الخط الساخن بين الناتو ورئيس الأركان الروسي، والذي تم تدشينه في فبراير 2013، قد توقف هو الآخر بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية العام الماضي.
“لقد تآكلت الثقة بين الطرفين إلى حد كبير، بل وتكاد تتلاشى، هناك حرب تجري في قلب أوروبا الآن، وفي ظل انهيار معاهدة القوات التقليدية، والاضطراب الذي تمر به معاهدة القوة النووية متوسطة المدى، وانتشار الأسلحة النووية التكتيكية في كل مكان بأوروبا، يُعَد الوضع الآن خطير للغاية”، هكذا قال السيناتور سام نان.
منقول بتصرف من دير شبيغل، وبوسطن غلوب