ترجمة من الفرنسية نون بوست بتصرف
في أواخر التسعينات، ظهرت في التليفزيون الألماني دعاية لنوع من القهوة من تصنيع شركة “إيدوشو” نشاهد فيها صفوة المجتمع الألماني يرتدون أفخر الملابس ويجلسون على الشواطئ وفي اليخوت في جو من الارتخاء والسكينة، ثم يأتي الصوت سائلاً امرأة أنيقة عن أغلى أمنياتها فتقول “أتمنى أن يبقى كل شيء كما هو عليه”.
تلك الومضة التي تم تصويرها في زمن آخر أخذت معنى جديدًا اليوم، ففي كل مرة أقرأ فيها مقالاً حول حركة بيجيدا أتذكّر تلك الدعاية، لأن بيجيدا أيضًا اتخذت من أمنية “أن يبقى كل شيء كما هو عليه” هدفًا لها.
وبعد وقت قصير من صعود تلك الدعاية، استحوذت شركة “تشيبو” على شركة “إيدوشو” ولم يبق إلا القليل من الناس الذين يتذكرون تلك الماركة التي سريعًا ما لفها النسيان، ونفس المصير سيكون أيضًا من نصيب بيجيدا إذا عرف المجتمع المدني كيف يتعاطى معها.
ظهرت حركة بيجيدا في شهر أكتوبر 2014 على يد لوتز باخمان ومجموعة من المؤسسين وهي تقوم بالتظاهر بشكل دوري كل يوم إثنين في مدينة دريسدن، وتسمية بيجيدا PEGIDA هي اختصار لشعار”الوطنيون الأوروبيون ضد أسلمة العالم الغربي”، وفي الحقيقة، إنّ فهم هذه الحركة العنصرية منذ بداياتها هو أمر سهل، فهي لم تنجح في تعبئة أعداد كبيرة نسبيًا من الناس إلا في شرق ألمانيا، وقد قامت بذلك على طريقة حركة احتلّوا وول ستريت Occupy Wall Street في أمريكا، ومنذ البداية، أثارت هذه الحركة قلق الكثيرين وبدأ معارضوها بالحديث عنها كعلامة على الانحدار الوشيك للحضارة الغربية، وقالوا إنها تذكّرهم بحركة “احتلوا وول ستريت” في الولايات المتحدة الأمريكية وحركة “متظاهري الإثنين” المعارضة للحكم الشيوعي في ألمانيا الشرقية في أواخر الثمانينات.
سبب نجاح الحركة في دريسدن يفسره أستاذ العلوم السياسية بجامعة دريسدن وورنر بازيلت في تقرير ترجمه إلى العربية، الباحث بجامعة برلين الحرة تقادم الخطيب، قائلا: “إن سبب نجاح تلك الحركة هنا هو الجو المحافظ السائد في تلك المدينة، وكونها واحدة من آخر مدن الحزب الديمقراطي المسيحي الحاكم؛ بينما في المدن التي يسيطر فيها اليسار مثل كولن وهامبورغ وبرلين فإن فرص تلك الحركة محدودة للغاية.”
ومن الأسباب الأخري التي يراها الأستاذ بازيلت أيضا هو الخوف الذي ينتاب مواطني ألمانيا الشرقية من التهميش وعدم التمثيل؛ مما أيقظ الذاكرة مرة أخري علي ما كانت عليه الأمور إبان انقسام الدولة؛ حينما كان النظام السياسي لا يستمع للناس لكنه يتركهم فقط يصفقون للسلام الوطني. لذلك أصبح شعار بيجيدا: نحن الشعب؛ هذا تنبيه لمحاولة فهمنا، فاستمع إلينا ولا تتجاهلنا -هكذا عبر الأستاذ بازيلت- فالكثيرون من أعضاء بيجيدا يشعرون أيضا بالخطأ في عودتهم إلي اليمين المتطرف وكثير من الاتهامات ايضا توجه إلي النازيين بأنهم ساهموا بشكل كبير في الترويج لتلك الحركة والانضمام لها.
يعتقد الفيلسوف اليوناني هرقليطس أن كل شيء في سيلان دائم وأن العالم في حركة مستمرة وتغير، ويعبر عن ذلك بقوله “لا تستطيع النزول في نفس النهر مرتين”، وهذه الفلسفة تفسر بكل وضوح لماذا كل حركة سياسية تريد المحافظة على الوضع الكائن أو العودة للزمن الماضي الجميل هي حركة مصيرها الفشل والاندثار، فالمجتمعات الإنسانية في تغير دائم بحكم ديناميكيتها الداخلية، وكلما كان المجتمع منفتحًا أكثر كلما توجب عليه الاستعداد بشكل دائم لقبول تغييرات مثمرة خاصة وأن الثقافة الألمانية لا تنظر كثيرًا للماضي ولا تحبّ التباكي على الأطلال، ويبدو أن مؤسسي حركة بيجيدا فهموا الثقافة الأوروبية ولذلك لم يعبّروا صراحة على سعيهم لأن يبقى حال المجتمع كما هو عليه، بل قدموا أنفسهم على أنهم حركة أوروبية وطنية تسعى للحفاظ على مكاسب الحضارة الغربية، رغم أنهم يعارضون أبسط القيم الغربية وهي الانفتاح على الآخر وقبول التغيير.
وقد حضر بعض الأشخاص مظاهرات بيجيدا بدافع الفضول لإدراك فهمٍ أفضل لهذه الحركة واكتشفوا أن الحقيقة من الداخل ليست كما تبدو من الخارج، فمشاعر الكراهية وغياب الثقة كانت حاضرة بقوة في صفوف المتظاهرين، والحافز الأساسي لتجمعهم هو الخوف من المستقبل.
قامت شخصيات سياسية محافظة بمحاولات إنعاش لهذه الحركة الشعبوية خلال الأشهر الماضية، ولكن سياستها التي تصر على نصب العداء “للمخاطرالأربعة” الإسلاميين واللاجئين الاقتصاديين والسياسة والإعلام، لم تساعدها على كسب أي دعم أو تأييد حقيقي من قِبل الطبقة السياسية باستثناء الحزب المتطرف “البديل من أجل ألمانيا” الذي حاول تبرير خطابها وتبني بعض مطالبها المتعلقة بعدم التسامح مع الأجانب وأبناء المهاجرين والحركات الدينية، في مقابل موجة واسعة من الشجب والتنديد من قبل عدة وجوه سياسية على غرار المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي دعت صراحة المواطنين الألمان لعدم المشاركة في مظاهرات بيجيدا.
كما قام الصحفي الألماني دينيز يوسيل خلال تحقيقه في هذه الظاهرة بالتغلغل داخل المتظاهرين واكتشف أن الدافع الرئيسي لهم هو الخوف المرضي من الآخر والخوف من قدوم الأجانب للبلاد، كما يتبين أيضًا من خلال الشعار الذي يرددونه باستمرار “الإعلام كاذب اسكِتوه” أنهم يرفضون الانفتاح الاجتماعي.
ورغم أنه لا داعي لسرد الأخطار التي تمثّلها حركة بيجيدا فإنه من الضروري التوضيح أن هؤلاء المتظاهرين لا يمثّلون بأي حال من الأحوال آخر حصون القيم والمُثل الغربية كما يعرّفون هم أنفسهم، كما أن الادّعاء بأن الإسلام قد تسرب للمجتمعات الأوروبية في إطار مؤامرة والخوف من الرأسمالية والعولمة هي أيضًا كلها أفكار خاطئة.
تمامًا مثل حركة متظاهري الإثنين في ألمانيا الشرقية سنة 1989، تتغذى حركة بيجيدا من التغييرات الاجتماعية الحاصلة والعولمة والأزمات العالمية، وتحلم حركة بيجيدا بعالم بسيط وتبحث عن حلول بسيطة يفرضها زعيم سياسي قوي، وهو ما يفسر ربما تعاطف هذه الحركة مع رئيس روسيا القوي فلاديمير بوتين.
ورغم كل هذا، ليس من السهل إلقاء اللوم على كل أنصار هذه الحركة قبل فهم السياق الذي يعيشون فيه في هذه الفترة، فبيجيدا ما كانت لتكون موجودة في حالتها الراهنة لولا صور إعدام الرهائن والرؤوس المقطوعة وخاصة المجازر البربرية التي يرتكبها تنظيم داعش في سوريا والعراق والعمليات الإرهابية لتنظيم بوكو حرام، كل هذه الفظاعات لابد لها من مضاعفات، حرب الصورة وربط الإسلام بالإرهاب يدفعان الكثير من الناس للالتحاق بهذه الحركة رغم أنهم ما كانوا ليُقدموا على ذلك في الظروف العادية، الناس العاديون يشعرون بأن عليهم فعل شيء ما حيال ما يحدث مثل الالتحاق بهؤلاء المتظاهرين الذين يرفعون في الشوارع لافتات تحمل القيم الغربية دون أن يستبطنوا تلك القيم فعلاُ، وقد نجحت بيجيدا خاصة في شرق ألمانيا في جعل الناس ينضمّون إليها دون طرح أي أسئلة حول أفكار هذه الحركة أو نواياها الحقيقيّة، وبكلّ أسف فإن هؤلاء المتظاهرين محميون بقانون حرية التعبير المقدسة ويحظون الآن بالحماية أكثر من أي وقت مضى عملاً بشعار فيلسوف التنوير الفرنسي فولتير “أنا أمقت ما تكتبه ولكني مستعد للتضحية بحياتي لتواصل أنت الكتابة”.
ولكن رغم قدسية حرية التفكير والتعبير من المؤكد أنه لا يجب علينا المساومة أو التسامح مع مشاعر الحقد والعنصرية في الشوارع وأروقة السياسة الألمانية، ليس فقط لأن ألمانيا تمثل جزء من النسيج العالمي ونجاح الاقتصاد الألماني مرتبط بمدى انفتاحها ومساهمتها في العولمة، بل أيضًا لأن القيم الغربية المنبثقة من فلسفة التنوير هي قيم كاملة لا تتجزأ ويجب علينا جميعًا أخذها كاملة والاعتزاز بها.
المصدر: الهافنغتون بوست الفرنسية