كشف تحقيق نشرته صحيفة الجارديان البريطانية عن أن المحقق الأمريكي بمدينة شيكاغو، ريتشارد زولي، والذي ساهم في أبرز وأبشع حالات التعذيب بسجن جوانتانامو، كان له سجل طويل من استخدام الأساليب المماثلة ضد الأقليات أثناء عمله في أقسام الشرطة بولاية إلينوي الأمريكية لخمس وعشرين سنة، وهو ما أكده الكثيرون ممن تمت إدانتهم عن طريق الخطأ في جرائم بالولاية، بعد أن حصل منهم زولي على اعترافات بالإكراه.
يثير هذا التحقيق الصحافي أسئلة كثيرة عن منظومة العدالة والأمن الأمريكية في الداخل والخارج، ويشير إلى أن القمع الذي تمارسه السلطات الأمريكية في جوانتانامو ليس مقصورًا على المشتبه فيهم بالإرهاب، ولكنه امتداد لما تقوم به نفس السلطات في الداخل، خاصة تجاه الأقليات في الولايات المتحدة، وأبرزهم بالطبع الأمريكيين من أصل أفريقي، كما يبيّن لنا سِجِل زولي في شيكاغو، والمعروفة دونًا عن غيرها من المدن بعُنف مؤسستها الأمنية ضد السود.
كانت صحيفة الجارديان قد اطلعت على الآلاف من وثائق المحاكم في شيكاغو، وأجرت مقابلات مع أكثر من عشرين شخصًا على صلة بجوانتانامو، ومن داخل المنظومة الجنائية والقضائية في شيكاغو، وقد توصّلت إلى أن هناك علاقة وثيقة بين ما يحدث في غرف التحقيق في سجن جوانتانامو، وما يجري في أقسام شرطة شيكاغو، نظرًا لتماثل أساليب التعذيب هنا وهناك بشكل واضح، وهو ما قادها تباعًا إلى هوية المحقق ريتشارد زولي، رائد هذه الأساليب، والتي تشمل التهديد بعقوبة الإعدام وإيقاع الضرر بأهالي المُحتَجَزين، وربطهم بالحائط بسلاسل لساعات، وبل فبركة الأدلة أحيانًا.
يلفت النظر هنا التشابه مع ما كتبه المحتجز الموريتاني في جوانتانامو، محمدو ولد صلاحي، والذي وصف بالتفصيل في مذكراته المنشورة مؤخرًا التعذيب الذي تعرّض له للحصول على اعترافات تدينه بالتواصل مع إرهابيين والتخطيط لعمليات إرهابية، وهو تعذيب كشفت الجارديان أن ريتشارد زولي كان المسؤول المباشر عنه، بل وقد طلب وزير الدفاع آنذاك دونالد رامسفيلد إيقافه بعد أن ظهر تماديه في استخدام تلك الأساليب، رُغم رعايته لمشروع جوانتانامو ولبرامج الحصول على اعترافات بالضغط.
في هذا الصدد، يذكر أحد المسؤولين البارزين في جوانتانامو كيف نجح زولي في كسب ود وثقة القائد العسكري، ميجور جيفري ميلر، والذي تولي قيادة القوة المشتركة بجوانتانامو بدءًا من عام 2002، وهو العام الذي انتقل فيه زولي إلى العمل هناك.
يقول كاوتش، واحد ممن حاولوا الحصول على اعترافات من ولد صلاحي قبل أن يتوصل إلى استحالة الاستفادة منه بأي حال نظرًا لتعرضه للتعذيب والضغط الشديدَين، أن ميلر كان شديد الإعجاب بوسائل زولي؛ وهو ما دفع الأخير للتمادي فيها لإرضاء رئيسه في العمل والترقّي بطبيعة الحال، وليس ذلك بغريب على ميلر، الذي تقاعد عام 2006 تاركًا الخدمة العسكرية ومبتعدًا عن الأنظار، بعد أن ثبُت ضلوعه في محاولة نقل تجربة أبو غريب إلى جوانتانامو كما أشار الجنرال أنطونيو تاجوبا الذي أخرج ملف سجن أبو غريب إلى النور، وهو أمر يؤكده كثيرون ممن عملوا بجوانتانامو آنذاك، إذ أشاروا لمحاولة ميلر “جوتمة أبو غريب” (Gitmoize Abu Gharib) بعد أن رآها في زيارة قام بها للعراق ولاقت إعجابه.
في إطار التحقيق مع ولد صلاحي، وبينما ازدادت شدة التعذيب الذي تعرّض له من قِبل أفراد في الجيش الأمريكي، حاولت قوات القائد العسكري فالون، والمعارضة لتلك الأساليب، وكذلك وكالة المباحث الفيدرالية FBI، أن تتولى زمام الأمور في مسألة ولد صلاحي، لتستطيع وقف التعذيب المُفرِط، ولكن ميلر بدوره صدّق على اعتبار التحقيق مع ولد صلاحي “مشروعًا خاصًا” نظرًا للاهتمام به في السجن آنذاك، واعتقاد الكثيرين أنه متورط في التواصل مع أسماء كبيرة في القاعدة، وليجعل زولي المسؤول الرئيسي عن التحقيق، وهو ما استمر حتى قام رامسفيلد في غضون أشهر لإيقاف التحقيق مع صلاحي.
رُغم كل ذلك، لايزال المحققون يرفضون توجيه اتهام لريتشارد زولي بشكل رسمي، رُغم ورود دوره بشكل واضح في الكثير من وثائق التحقيقات الرسمية التي تقوم بها وزارتا العدل والدفاع في الولايات المتحدة، وكذلك مجلس الشيوخ، وهي تحقيقات يرد فيها ذكر أفعال زولي دون ذكر اسمه بشكل صريح في أغلب الأحيان، إلا أن صيته ذائع بشكل لا يدع مجالًا للشك، حيث تم ذكره في كتاب “محاكم الإرهاب” الذي نشره جيس بريفن، الصحافي بوول ستريت جورنال ومبعوث الصحيفة إلى المحكمة العليا في الولايات المتحدة، كما ذكرته مدوّنه “فايردوجليك” Firedoglake التي يكتبها جِف كاي، بالإضافة إلى ذلك، يرد اسم زولي بشكل واضح في تحقيق أجرى عام 2008 للجنة الخدمات العسكرية بمجلس الشيوخ.
سيُجبر نشر هذه التحقيقات العاملين بالمنظومة الأمنية في إلينوي على أقل تقدير على إعادة فتح الكثير من القضايا، والتي شارك فيها زولي على مدار رُبع قرن من الخدمة، ويُعتَقَد أن الكثير من المدانين فيها أبرياء، كما سيدفع الكثير ممن تضرروا إلى ملاحقته قضائيًا، على سبيل المثال، قضية بنيتا جونسون، والتي تقبع في السجن بعد إجبارها على الاعتراف بجريمة قتل عام 1995، وكانت قد تعرّضت للتقييد لمدة 24 ساعة بربطها في الحائط، وهددها زولي آنذاك باختطاف أطفالها؛ مما أدى لاعترافها باشتراكها مع رفيقها في الجريمة، وكذلك لاثِريال بويد، الذي يقوم الآن بالتحضير لمقاضاة زولي، بعد أن قضى نصف عمره بالسجن قبل أن تثبت براءته، وهناك قضايا مماثلة من أبرياء في الطريق، كما تتوقع لجنة الإدانة بمكتب النائب العام في مقاطعة كوك بإلينوي، ثاني أكبر مكتب بالولايات المتحدة (Cook County Prosecutor’s Office).
بدورها، رفضت المتحدثة باسم ريتشارد زولي، والذي يعمل حاليًا في قسم الطيران في شيكاغو، التعليق على ما تم نشره رغم الإلحاح، في حين تقوم شرطة شيكاغو بالنظر في طلبات بالاطلاع على ملف زولي الشخصي بموجب حرية تداول المعلومات، بينما ينتظر الصحافيون إجابة محامي زولي، والمتحدث باسم قسم شرطة شيكاغو، على أسئلة تفصيلية قاموا بإرسالها يوم الثلاثاء الماضي ولا تزال دون رد.