في دراسة منشورة بمجلة الرؤية التركية عنوانها: حزب العدالة والتنمية وتطور السياسة الخارجية للإسلام السياسي التركي للباحثين “غالب دالاي – دوف فريدمان “، تناولت بشيء من التفصيل عمق السياسة الخارجية التركية في ظل حزب العدالة والتنمية، وموقع الأبعاد التاريخية الحضارية فيها، وانطلقت الفرضية الأساسية للدراسة أن محاولات تعريف السياسة الخارجية التركية في ظل حزب العدالة والتنمية إلى أن توصلت غالبها لاستنتاجات خاطئة؛ لأنها لم تتناول البعد والرؤية التاريخية.
ربطت الدراسة في محورها الأول بين سياسات العدالة والتنمية وبين تاريخ قادته الحزبي، حيث الانتماء والمعين لحزب الرفاه الذي أسسه رئيس الوزراء السابق نجم الدين أربكان، هذه الصلات والروابط القوية والتقاليد السياسية المشتركة التي تجمع بين الإسلاميين المؤسسين لكلا الحزبين، فإن رؤاهم في السياسة الخارجية يمكن أن تفهم على نحو أفضل في سياق السرد التاريخي، مع تأكيد الدراسة على استيعاب الطريقة التي يفهم بها حزب العدالة والتنمية فشل حزب الرفاه وسعيه إلى تجاوز ذلك الفشل، لأن ذلك بحسبها يساعد على وضع إطار لتطور سياسة حزب العدالة والتنمية الخارجية لاسيما في مراحلها الأولى.
أربكان الإسلامي
هكذا أصلت الدراسة على ما يبدو لحقبة أربكان في كونه جاء برؤية مغايرة لم تكن تركيا شهدتها منذ خمسين عامًا، اعتمد فيها على الروح الإسلامية وتاريخ تركيا في قيادة العالم الإسلامي ليدعو إلى تبني مبادرة مجموعة الدول الثمانية الإسلامية النامية في مقابل مجموعة الدول الصناعية الثمانية، وتألفت مجموعة الدول الثمانية الإسلامية النامية من تركيا، إيران، باكستان، إندونيسيا، ماليزيا، بنغلاديش، مصر، ونيجيريا.
وكانت طموحات أربكان وفقًا للدراسة مقلقة، ومع دخوله في حكومة مشتركة مع حزب الطريق القويم بعد فوز الرفاه بخمس الأصوات والذي كان من شأنه أن منح حزب الطريق القويم وزارة الخارجية التي عادت للتقليدية التركية والتوجه أكثر نحو الغرب، فبدا أربكان غير مرغوب مع تخوف الجيش والقوى الداخلية والخارجية من طموحاته التي اعتبرت تهديدًا لعلمانية تركيا؛ فتم الانقلاب عليه ومنعه من ممارسة العمل السياسي برغم تقديمه التنازلات وتنفيذ إملاءات 28 فبراير العسكرية.
شباب الرفاه فضيلة
إغلاق الرفاه كان المرة الثالثة التي أغلق لأربكان حزب، وفي كل مرة كان يكسب الرجل التعاطف أكثر، إلا أن هذه المرة على ما يبدو تصاعدت روح جديدة مع تأسيس حزب الفضيلة وظهور قيادات نهلت من أربكان ومعينة، لكنها اختلفت عنه في الوسائل بل ثارت عليه إن صح التعبير – لم يرد ذلك التعبير في الدراسة – وكان أول بوادر ذلك عندما نافس عبد الله غول، رجائي قوتان، أقرب حلفاء أربكان، على قيادة الحزب، وعلى الرغم من خسارة غول، إلا أن المنافسة شحذت الاختلافات الأيديولوجية لجيل الإسلاميين الجدد من الشباب الأتراك، وأسس جزءًا من هذا الجيل الجديد حزب العدالة والتنمية، وأدرك جيدًا أن حزب الرفاه انتهج رؤية الاستقطاب وفشل في نهاية المطاف في تنفيذه سياسات ملموسة.
ثم جاء المظهر الثاني عندما أعلن جيل الشباب في حزب الفضيلة دعمه للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وهو ما وافق معطيات تركيا المحلية؛ مما قلل من نفوذ الجيش وسيطرته على السياسة.
رؤية السياسة الخارجية والاعتبارات السياسة الداخلية
تحت هذا العنوان انطلقت الدراسة باتجاه العدالة والتنمية والذي خرج من عباءة فضيلة أربكان عام 2001م، وبحسب الدراسة فقط عمل حزب العدالة والتنمية على إقامة تحالف قوي مع الليبراليين الذين أكدوا أهمية اقتصاد السوق، وحاربوا الظلم والفساد وعدم المساواة، وتبني حزب العدالة والتنمية الدفاع عن الحريات الدينية، والتحرر الاقتصادي، والديمقراطية، وهو التحول الذي ساعد على إعادة تعريف الإسلام السياسي التركي في كنف الدولة العلمانية مع تمكين المحافظين غير الإسلاميين، هذا النهج الموجه محليًّا امتد إلى السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية أيضًا، وتجلى في أهمية عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، التي حجمت الجيش بحجة الإصلاحات وأطلقت الحريات، ففتحت للإسلاميين المنافذ المغلقة وتم إعادة هيكلة مجلس الأمن القومي الذي أصبح هيئة اسستشارية فيما يتعلق بسياسة تركيا الخارجية.
واستطاع العدالة والتنمية في بداية حكمة أن يؤصل لنفسه مكانة داخليًا وكان منذ ذلك موقفه من حرب العراق التي كان فيها أقرب للأكراد وأقرب أيضًا للرؤية الإسلامية التي رأت في الاستعانة بالأجنبي ضد مسلم من السوء وليست مقبولة، وقد حقق ذلك عدة مكاسب منها التأكيد على قرار الشعب، لأن القرار جاء من البرلمان ثم قلل من مخاوف أوروبا من تقارب تركيا مع أمريكا خاصة ألمانيا وفرنسا.
المهندس أوغلو
كان عام 2005، وبحسب ما أكدته الدراسة، عام انطلاقة جديدة وأكثر طموحًا للسياسة الخارجية التركية، حيث ترجمت السياسة الخارجية للحزب أفكار مهندسها داوود أوغلو والتي وردت ملامحها في كتابه: العمق الإستراتيجي، حيث الرجوع لإرث تركيا التاريخي وتفردها الجيوسياسي الذي يعد أساسًا لصعودها إلى مكانة وقوة مركزية من خلال سياسة خارجية متعددة الأبعاد بالاستفادة مما لديها من مزايا جيوسياسية.
ومثّلت، بحسب الدراسة، عبارة “تصفير المشكلات” الانطلاقة التي مثّلت استجابة لشرط مسبق للنهج السياسي الأكثر شمولًا، فمن خلال نزع فتيل التوتر في المنطقة، والمشاركة الإقليمية، وإقامة ترابط اقتصادي، سهّل حزب العدالة والتنمية على تركيا لعب دور دولي يركز على الوساطة في الشؤون الدولية ويعزز من مكانتها في المنظمات الإقليمية والدولية.
وساطات أعطت مكانة
هكذا على ما يبدو حاولت الدراسة أن تقول: إن العدالة والتنمية انطلق منفتحًا على قضايا وصراعات كان له فيها دور كبير ومن ذلك.
القضية الفلسطينيةال: فقد كان لأردوغان دور ولقاءات مع “الإسرائيلين” لمحاولة الوصول لتسويات وتفهمات، وكان أيضًا له تواصل مع الفلسطينيين واستقبل مشعل بعد نجاح حماس في الانتخابات، ورفض صلف إسرائيل وكانت عمليه الرصاص المصبوب صورة لرفض تركيا لإجرام “الكيان” الذي كان لها معه علاقات.
ملف إيران النووي: أيضًا تدخل أردوغان بالتعاون مع البرازيل واستطاع أردوغان أن يقنع إيران بالتخلي عن 1200 كيلوغرام من اليورانيوم المنخفض التخصيب في مقابل الحصول على وقود لمفاعل أبحاثها.
ملف البوسنة والهرسك: في عام 2009 تمكّن داود أوغلو من التوصل إلى اتفاق، تبنى من خلاله البرلمان الصربي قرارًا يدين مذبحة سربرنيتشا وبالتالي كان الاعتذار الصربي رسميًّا عن مجزرة سريبرينيتسا، وبناء عليه عينت البوسنة سفيرًا لها في صربيا.
المؤسسات الدولية
وقد اعتمد حزب العدالة والتنمية على وضعه الجديد من خلال انتهاج سياسة قيادية رسمية في المنظمات الإقليمية والدولية، في عام 2005، أصبح أكمل الدين إحسان أوغلو التركي الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، وبالتعاون مع إسبانيا أطلقت تركيا مبادرة تحالف الحضارات في الأمم المتحدة، واستضافت إسطنبول المنتدى الثاني للمبادرة في عام 2009، وفي عام 2010، تم انتخاب النائب والعضو المؤسس في حزب العدالة والتنمية التركي مولود تشاووش أوغلو رئيسًا للجمعية البرلمانية للمجلس الأوروبي، وأخيرًا والأهم شغلت تركيا مقعدًا غير دائم في مجلس الأمن خلال الفترة من 2009-2010، وفور انعقاد المجلس، قدمت تركيا طلبًا للعمل في المجلس خلال الفترة 2015-2016.
ثورات الربيع العربي
اتسعت فرص الظهور والقيادة الدولية بما يتناسب مع صعود تركيا كقوة على الصعيد الدولي، ورأى حزب العدالة والتنمية أن الثورات العربية الوليدة في أواخر عام 2010 وأوائل عام 2011 تعد فرصًا لتعزيز دور تركيا.
جاء دعم أردوغان وداود أوغلو للانتفاضات في إطار لغة ليبرالية، فرأى داود أوغلو أن شرعية الثورات تأتي من أصوات المواطنين، والكرامة الإنسانية، وحقوق الإنسان، وهو موقف مغاير بحسب الدراسة عن موقف إيران، وهذا التمايز أو التناقض كما أوضحت الدراسة بين موقف تركيا وإيران تجاه الانتفاضات ساعد على إلقاء الضوء على التطور من حزب الرفاه إلى حزب العدالة والتنمية.
المستقبل إعادة بناء المكانة الدولية
بحسب الدراسة، فإن سوريا ظلت قضية محورية واعتبرتها الدراسة أنها إحدى محددات مستقبل السياسة الخارجية التركية، وذلك بالانطلاق من نتيجة مفادها أن الأزمة السورية أثبتت أن على تركيا التريث والتراجع خطوة بدلاً من إطلاق التصريحات وأخذ مواقف تعتمد على العضلات، حيث تقول الدراسة: “لجأت تركيا إلى المادة الرابعة من ميثاق منظمة حلف شمال الأطلسي، التي تدعو إلى مجرد المشاورات داخل الحلف، وردًّا على القصف المدفعي الذي أدى إلى قتل مدنيين أتراك، قامت الدفاعات التركية بالرد الفوري والمباشر على المكان الذي انطلقت منه النيران، ومع ذلك استمرت تركيا في الحديث عن الليبرالية وخففت من حدة نهجها، فالنهج الداعي إلى التدخل العسكري ليس مناسبًا لدور تركيا الحالي”.
كما أن الدراسة أوضحت أن مستقبل السياسة الخارجية لتركيا سيستمر في نهج الدور الوسيط وأخذ المبادرة لحل النزاعات كتوسط تركيا بين أفغانستان وباكستان لإيجاد حلول للمشاكل العالقة بينهما والتوسع باتجاه أفريقيا، حيث امتدت الجهود التركية إلى مناطق بعيدة عن منطقة الشرق الأوسط، لتشمل أفريقيا، ففي يناير الماضي، زار رئيس الوزراء أردوغان الغابون والنيجر، والسنغال.
للاطلاع على الدراسة كاملة على الرابط