الدنماركيون أهم أسعد شعب في العالم، هكذا يقول تقرير السعادة العالمي الذي تصدره الأمم المتحدة، وهو أمر بديهي جدًا، كما يقول السيناريست الدنماركي المعروف أدام بريس ساخرًا، لأنهم واحدة من أكثر الشعوب استهلاكًا لمضادات الاكتئاب! لماذا قد يكتئب الدنماركيون أصلًا؟ ربما لأنهم المواطنين الأكثر مديونية في العالم، وأصحاب أعلى معدلات إصابة بمرض السرطان.
لا يعيش الإسكندنافيون حياة مرفهة وسعيدة كما يعتقد من ينظرون لهم عن بُعد أو عبر تلك الإحصائيات الاختزالية، ولا يعني بالضرورة نجاح نموذج الرفاهة الخاص بهم على المستوى الاقتصادي والاجتماعي أنه لا يخلو من مساوئ، وهو ما يبحث فيه الصحافي البريطاني مايكل بوث، في كتابه “الشعوب شبه المثالية” (The Almost Nearly Perfect People)، بعد أن تزوّج من دنماركية واستقر في كوبنهاجن، وغاص في أعماق بلدان شمال أوربا.
النموذج الإسكندنافي
بدأ ما يُعرَف بالنموذج الإسكندنافي، والذي يتسم بدور كبير، ولكن كفء، للدولة في إدارة الاقتصاد وتقديم الخدمات العامة، في أواخر القرن التاسع عشر، حين شرعت الدنمارك في تقديم عدد من المزايا لكبار السن، لتتبعها النرويج بعد أعوام قليلة بتقديم التأمين لتعويض الحوادث الكبيرة في مجال الصناعة.
على مدار القرن العشرين، انتشرت تلك البرامج والسياسات، وبنهاية الحرب العالمية الثانية كان هناك ثمة نموذج إسكندنافي، أو نوردي (Nordic) كما يُسمّي أحيانًا، قد بدأ في التبلور، وقد افترق عن الكثير من نماذج الرفاهة المنتشرة حول العالم بتعريفه للرفاهة، وهي أنها ليست فقط الرفاهة بالمعنى الفردي، بل وبالمعنى الجماعي، والذي يتضمن حرص الدولة على ألا تنشأ فجوة كبيرة بين الطبقات، كما تسمح بذلك بعض النظم الرأسمالية الصرفة باسم حرية رأس المال.
فالنموذج الأمريكي، إن جاز القول، عبارة عن مجموعة من السلالم المؤدية لأعلى الهرم الاجتماعي، تتنافس عليها في الغالب أعداد أكبر من الناس لينجح الأكفأ أو الأفضل أو الأكثر إبداعًا منهم في الوصول بالفعل، في حين النموذج الإسكندنافي لا يمتلك سلالم تيسّر الصعود، ولكنه يغطي الجميع بشبكة عريضة لضمان الإمساك بأي مواطن يقع من موقعه، وعدم انحداره لمستوى غير مقبول.
يُعَد الاقتصادي السويدي جونّار ميردال، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1974، واحدًا من أبرز منظري هذا النموذج، حيث قال في دراساته بأن السوق غير المنظّم نهائيًا (Deregulated Market) لا يؤدي في الحقيقة إلى التوازن كما تقول النظريات الاقتصادية الكلاسيكية، بل إلى تعزيز اللامساواة، وهو ما سلط الضوء عليه في دراسته عن الأحوال الاقتصادية للسود في الولايات المتحدة بشكل خاص، والدول النامية بشكل عام، واللذين يجمعهما موقعهما غير العادل في المنظومة الأمريكية (أو العالم) نظرًا لامتلاك ذوي المواقع المتميزة الآليات التي تسمح لهم بهزيمتهما بشكل يسير في المنافسة الحرة في السوق، والتي من المفترض نظريًا أن تكون كفء، وهو افتراض غير دقيق إذ يتم بمعزل عن تحليل العوامل الاجتماعية والثقافية والمؤسسية، والتي أعاد ميردال إدخالها إلى النظرية الاقتصادية.
لذلك، وفي العديد من نماذج السوق الحر التقليدية، تزداد إنتاجية اللاعبين الأكثر ثراءً نظرًا لموقعهم الاقتصادي الذي يتيح لهم مميزات تزيد مجددًا من إنتاجيتهم، وهو ما يعني مرة تعزيز هذا الموقع أكثر، وتباعًا تبرز إشكالية اجتماعية مفادها أن المجموعات في أعلى السلم الاجتماعي، ونتيجة لطبيعة كامنة في السوق، تستمر صعودًا، في حين تصبح المجموعات الأقل ثراء، ونظرًا لعدم امتلاكها نفس المميزات والوسائل، في موقعها إن لم تهبط لأسفل، وهذه الطبيعة في الأسواق الحرة هي التي دعا ميردال إلى تدخّل الدولة فيها بمعايير معيّنة لضبطها وإعادتها باستمرار إلى حالة التوازن، فيما يشبه الكرة المعلقة في بندول، والتي يحكم البندول حركتها بشكل دقيق، ويمنعها عن الانطلاق دون سيطرة.
في الواقع، يدعم ما جرى في الولايات المتحدة ما يقوله ميردال، حيث تشير إحصاءات معهد السياسة الاقتصادية إلى أن 33.5٪ من الدخول التي أتت من ثروات أغني 1٪ من الأمريكيين كانت أقل من تلك التي أتت للـ90٪ الأفقر، وهذا عام 1979 قبل سياسات تحرير السوق، في حين زادت نسبة الدخول المعتمدة على الثروات لأغني 1٪ بعد ثلاثة عقود لتصل إلى 54٪، لتصبح أعلى، بل أكثر من ضعف، تلك التي تجنيها نسبة الـ90٪ الأقل، والتي انخفضت إلى 22.9٪، وهو ما يعني باختصار أن غياب التنظيم تمامًا يعزز من تراكم الثروات في الأعلى نتيجة ما تتيحه من فرص ومميزات لمالكيها في السوق.
في الدول التي تمتلك رؤى اقتصادية مستوحاه من فلسفة ميردال، وهي دول إسكندنافيا بالأساس، يوجد فعلًا نوع من المساواة، أو على أقل تقدير غياب لانعدام المساواة الشديد، على سبيل المثال، في الدنمارك، وكما يقول بوث، ليست ثمة طبقات كبيرة من العمالة الفقيرة كما في فرنسا، بل إن الدنماركيين يُعَدون بشكل أو آخر مجرد طبقة وسطى ضخمة.
بالإضافة إلى ذلك، تعزز وتوسّع تلك الديمقراطية الاجتماعية من حرية الفرد والخيارات المتاحة له، فالمجبرون على دفع أموال دراستهم بأنفسهم ليس لهم خيار في ذلك، ولكن إذا وجدوا قسطًا من الوقت للإبداع في مجال آخر بجانب الدراسة فقد يكونون على قدم المساواة مع من تتيح لهم ظروف عوائلهم تمويل دراستهم دون عمل، أيضًا، القدرة على اتخاذ قرارات مثل الطلاق قد تكون صعبة في بلد لا يقدم ما يكفي من إعانة اجتماعية، ولكنها سهلة بالطبع في دول إسكندنافيا، لا سيما وهي معروفة بالمساواة بين الرجال والنساء حتى على المستوى الثقافي، وليس فقط فيما يخص القوانين والإجراءات، حيث يُعتَبَر فتح الباب للنساء أمرًا وقحًا، ويتم تقاسم فاتورة الطعام في أول موعد غرامي بين أي رجل وامرأة.
ثقافة الرفاهة
تكفل لك دول إسكندنافيا تعليمًا مجانيًا على أعلى مستوى وصولًا إلى الجامعة، ورعاية صحية مجانية، وأجازة وضع تبلغ 480 يومًا لكل طفل يحق استخدامها من قبل الأبوين، وفي مقابل ذلك بالطبع تقوم بدفع أكثر من نصف راتبك في صورة ضرائب، وهو حمل ثقيل بطبيعة الحال قد لا يعجب الأمريكيين مثلًا، ولكنه يريح الإسكندنافيين جدًا، ورُغم أنه يُبهِر القادمين من دول العالم النامي، أن يجدوا كل هذا مسلمًا به، وهو الذي يُفني فيه أغلب مواطني تلك البلدان حياتهم من أجله وربما لا يحصلون عليه، فإنه في سياق أوربا والدول الغربية عمومًا ليس براقًا كما يبدو لنا.
بوجود هذه القاعدة الصلبة من الخدمات الاجتماعية الأساسية وربما الثانوية أحيانًا عبر الدولة، يكون طبيعيًا أن يتسم المجتمع الإسكندنافي بالتناغم، أو في قول آخر الرتابة، مقارنة بدينامية السوق الأمريكي، والتي قد تلقي بك في الهاوية، ولكنها تسمح لك على الناحية الأخرى بالبزوغ، فنتيجة لغياب الهوس بالمساواة، تكون لديك القدرة على مخالفة القطيع بسهولة، وهو أمر تشتهر به الثقافة الأمريكية، ولكنه ليس بيسير في الثقافة الإسكندنافيا المتحفظة.
هنا تتجلى، كما يقول لنا مايكل بوث القادم من بريطانيا، والذي تمتّع بمميزات النظام الأنجلوساكسوني كما رأي مساوئه، أبرز المساوئ الثقافية للنموذج الإسكندنافي، وهو أنه لا يقوم على الإبداع ولا يشجعه، ولا يؤكد على فكرة العمل الدؤوب مثل الألمان على سبيل المثال، والذين يتمتعون بنوع من الرفاهة أيضًا ولكن ليس بنفس الدرجة الإسكندنافية، فهناك قاعدة من المميزات الاجتماعية والاقتصادية الأساسية تكفلها إسكندنافيا بشكل لا يجعل للعمل الدؤوب قيمة كبيرة، لا سيما في النرويج تحديدًا، والتي تتراجع إنتاجية عامليها وتتزايد عطلاتهم نظرًا لاعتمادها على ثروتها النفطية، بل وتشتهر بخمول سكانها بين بقية الإسكندنافيين إلى الدرجة التي جعلت بعض السويديين يقبلون بعض الوظائف التي لا يقبلها النرويجيون (وهم حوالي 50،000 عامل في العاصمة أوسلو)، أشهرها تقشير الموز في بعض المطاعم، وهي مسألة رمزية استحوذت على نصيب كبير من النكات وبعض المشاجرات الثقافية بين سكان البلدين، والذين تتسم العلاقة بينهما بالتنافس نوعًا ما نظرًا لاحتلال السويد للنرويج لفترة قبل ثورة الأخيرة ونجاحها في نيل استقلالها.
بالإضافة إلى تحليله للمفاهيم الخاطئة فيما يخص النموذج الإسكندنافي، يضيف بوث بعضًا من المعلومات، التي لا تخلو من طرائف، عن إسكندنافيا، والتي تخالف هي الأخرى ما قد نعتقده عن المنطقة، أبرزها مثلًا أنها دول مسالمة تمامًا على الساحة الدولية وغير معنية بالصراعات، وهو غير صحيح في حالة السويد التي تُعَد من أبرز مصدري السلاح في العالم، ولو أن هذا لم يمنعها من الحرص على رفاهية جنودها بطلبها 50،000 غطاء رقيق للشعر لكيلا تمنع الجنود ذوي الشعر الطويل من متعة الحفاظ عليه أثناء الخدمة العسكرية (!)، بيد أنه ربما دفع ألفريد نوبل إلى وضع مسؤولية توزيع جائزة نوبل للسلام في أيدي النرويج بدلًا من بلده الأم، والتي تُسلّم في أوسلو دونًا عن بقية الجوائز لكيلا يكون توزيعها في ستوكهولم نوعًا من الازدواجية.
كذلك، يتحدث بوث عن فنلندا صاحبة أفضل نظام تعليمي في العالم، والتي يفوق فيها عدد غرف الساونا عدد السيارات، وتوجد بها في الشوارع أكشاك لسماع الشعر بضغطة زر، ولكنها في نفس الوقت تشهد معدلات من الانتحار والجريمة وتعاطي الخمور أعلى من بريطانيا نفسها — وهي طبعًا بلد أقل شأنًا من إسكندنافيا في إطار المقارنات بين البلدان الأوربية وبعضها البعض.
نموذج لا حُلم
على عكس الحلم الأمريكي، الحلم الإسكندنافي ليس في الحقيقة حلمًا، بل سلة من الوعود التي تفي بها إسكندنافيا بالكامل، وهي سلة لا تملك أن تختار غيرها، في حين الحلم الأمريكي يطلق لطموحاتك العنان في إطار مجتمع مفتوح ودينامي، ولكنك في الغالب لن تحققها كلها، بل وقد ينتهي بك الأمر بسلة ربما أقل من تلك التي يحصل عليها الإسكندنافيون، أو حتى بلا سلة على الإطلاق كما يحدث مع من يذهبون إلى هناك وينتهي بهم الأمر في مِهَن شديدة التواضع.
في الولايات المتحدة، تعلمك المنظومة أن تكون كشخص مسؤولًا عن المخاطر التي تواجهها والمعارك التي تحوضها، في حين تقوم في إسكندنافيا بتجنيبك المخاطر برمتها مع تضييق الهامش المتاح لحرية اختيارك لذلك؛ في الولايات المتحدة تُعرّف الحرية على أنها الحق في الفعل والمسؤولية عما تفعله، أما في إسكندنافيا فهي كفالة حق الوجود، وربما كفالة حق الوجود فقط؛ وبيد أن الأولى قد تقصم ظهرك إن لم تستطع مواكبة تقلبات السوق فيها، إلا أن الثانية قد تجعل حياتك شديدة الرتابة، وقد تُفقدها معناها مع الوقت، وهو تفسير ربما لتنامي الاحتجاجات ضد المنظومة في الولايات المتحدة في إشارة لإحساس البعض بغياب العدالة (وول ستريت، فرجسون)، بينما تتنامي على الناحية الأخرى معدلات الانتحار والموت من إدمان الخمور في إشارة لشعور البعض بغياب المعنى.
الأمريكيون ببساطة يراهنون في لعبة الاقتصاد على مكاسب أعلى كثيرًا من رهانات الإسكندنافيين المتواضعة، ولكنهم يحصلون في النهاية، ولسبب ما لا يزال محل جدال لا ينتهي، على أقل منهم! هل يقول لنا ذلك أن نكف عن الحلم، وهو أمر لن يعجب الأمريكيين، أم أن نحاول البحث عن حل وسط بين ستوكهولم ونيويورك؟
المصادر: ديلي تليجراف، نيويوركر، كريستيان ساينس مونيتور، إم إس إن بي سي