ترجمة وتحرير نون بوست
اشتد مؤخراً وابل المعارك في مدينة حلب التي مزقتها الحرب، وفي المدن الاستراتيجية الواقعة شمالي حلب والتي تسيطر عليها قوات المعارضة المسلحة، هذا المعارك الأخيرة نجمت عن هجوم مفاجئ قامت به قوات النظام، مدعومة من قبل الجماعات شبه العسكرية سواء المحلية أو الأجنبية مثل حزب الله.
على عكس ما يعتقده أغلب الأشخاص، فإن الهدف من هذه المعارك لا يتمثل بمحاصرة الجزء الشرقي من المدينة الـمُسيطر عليه من قِبل قوات المعارضة، أو كما يسمى هذا الجزء محلياً “المناطق المحررة”، إنما الهدف –بجزء منه-يتمثل بإضعاف المسلحين في المناطق المحررة عن طريق قطع طرق الإمداد الرئيسية لهم من الريف الشمالي والحدود التركية، ولو كان الهدف من هجمات النظام الأخيرة إطباق الحصار على المناطق المحررة، لاستهدفت هذه الهجمات جنوبي المناطق الشمالية المستهدفة حالياً مثل منطقة طريق الكاستيلو ومزارع الملاح، رغم أن هذا السيناريو قد يتم اللجوء إليه بعد حين، بناء على حصول –أو عدم حصول- تطورات جديدة على الساحة السياسية.
أما الجزء الآخر من أهداف المعركة الأخيرة يتمثل بالوصول لفك حصار المدينتين الشيعيتين المواليتين للنظام نبل والزهراء، هاتين البلدتين تشكلان جيباً للنظام في المناطق الريفية الشمالية التي تسيطر عليها قوات المعارضة بشكل تام، وتعملان كحصن منيع على صد هجمات قوات المعارضة المتكررة والتي يُنفذها بشكل رئيسي الكتائب الإسلامية وقوات جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة، لذا فإن الوصول إلى هاتين المدينتين له أولوية خاصة بالنسبة للنظام، كون فك الحصار سيعمل على رفع الروح المعنوية لدى مقاتليه، فضلاً عن أن تحقيق انتصار استراتيجي سيعزيز قوة القوات النظامية المحقونة والمضغوطة بشكل كبير في مدينة حلب.
حصار مدينة حلب يفرض إشكالية كبيرة على النظام، كونه قضية شائكة للغاية وحساسة من الناحية السياسية، خاصة في ظل تلويح فرنسا وتركيا أنهما قد تتدخلان بشكل مباشر لمنع هذا الحصار، وفي الواقع، عملت وسائل الإعلام الموالية للنظام على اتهام تركيا بالمشاركة مباشرة في هذه المعركة الأخيرة عن طريق تعزيز دفاعات الثوار بالأسلحة والدعم اللوجستي وحتى عن طريق إيفاد بعض الضباط إلى أرض المعركة، علماً أن هذه لن تكون المرة الأولى التي تشارك فيها تركيا في عملية عسكرية في شمال سوريا، حيث تكشف وقائع محاكمة أشخاص مشتبه بانضمامهم إلى داعش في تركيا عن تنصتات جرت على مكالمات هاتفية أوضحت وجود تنسيق وثيق ودعم مدفعي تركي خلال هجوم المسلحين في العام الماضي على بلدة كسب ذات الأغلبية الأرمنية.
إن هذا الدعم التركي لقوات المعارضة المسلحة هو السبب –جزئياً- في فشل هجمات النظام في حلب مراراً وتكراراً، والتي كان آخرها الهجوم الوشيك في ديسمبر من العام الماضي والذي تم تأجيله بسبب الضغط الروسي لإفساح المجال أمام مبادرة دي ميستورا الدبلوماسية لتجميد القتال لحلب، والتي تزامنت مع محاولات موسكو لعقد محادثات بين الحكومة السورية وممثلين عن جماعات معارضة مختلفة.
إن المراقب عن كثب للمشهد في حلب، يمكنه أن يدرك أن الهجوم الأخير لم يكن مفاجئاً، وذلك في ظل المعلومات الواردة عن وصول تعزيزات كبيرة لقوات النظام في حلب الأسبوع الماضي، حيث كان يمكن توقع عملية خاطفة لتغيير الظروف على الأرض قبل أي هدنة محتملة أو وقف محتمل لإطلاق النار، وذلك لترسيخ بعض المكاسب الاستراتيجية، هذا التفسير من شأنه أن يشرح الطبيعة الغريبة التي رافقت هذا الهجوم، والذي يبدو أهوجاً ومتسرعاً، كونه اعتمد على أعداد كبيرة من المشاة مع القليل من المدرعات وبدون أي تغطية من المدفعية أو من الطيران الحربي وذلك بسبب سوء الأحوال الجوية، هذا التكتيك يعتبر غير مسبوق بالنسبة للقوات النظامية، التي طالما اعتمدت في السابق على التقدم البطيء والمحسوب والمغطى بشدة بالقصف المدفعي والغارات الجوية، وعلى الرغم من أن تكتيك المعركة الحالية سمح لقوات النظام بالسيطرة بشكل سريع على عدد من المدن الاستراتيجية، ولكن هذه السيطرة جاءت على حساب عدد كبير من القتلى والجرحى والأسرى في صفوفه والذين وقعوا إثر إعادة تنظيم المسلحين لصفوفهم الدفاعية وقيامهم بهجوم مضاد، استعادوا من خلاله السيطرة على بلدة رتيان الاستراتيجية والمهمة على خط الجبهة.
استطاعت قوات النظام في الهجمة الأخيرة تحقيق مكاسب كبيرة في البداية، كونها استطاعت الانقضاض على صفوف المسلحين ودفاعاتهم بشكل مفاجئ بدون أن يكونوا مستعدين لهذا الهجوم، حيث قامت القوات النظامية بإطلاق عدة هجمات على عدة جبهات داخل المدينة وفي ريفها لتشتيت انتباه المسلحين، وفعلاً تسببت هذه الحركة بارتباك وفوضى كبيرة في صفوف المسلحين، ولكن هذه القوات استطاعت بعد ذلك استدعاء تعزيزات كبيرة من مختلف أنحاء محافظة حلب، وكذلك من محافظة إدلب القريبة، بما في ذلك جماعات جهادية من جبهة النصرة وأنصار الدين.
من المهم ملاحظة أن الريف الشمالي لحلب – معقل المعركة الحالية – هو المكان الذي ينحدر منه غالبية المسلحين الذين يقاتلون في محافظة حلب، وبالتالي يعتبر هذا الريف عمقاً استراتيجياً مهماً لهم، كون هذه الجماعات ليست متماسكة وموحدة لتقاتل ضمن تنظيم شامل، بل إنها مفككة ومشتتة بحيث تقوم كل جماعة بالتمركز حول المنطقة التي تنحدر منها، على الرغم من أن هذه الجماعات تتعاون أحياناً تحت مظلة منظمات أو غرف قيادة موحدة مثل الجبهة الشامية.
يمكن القول بأن أغلب الفصائل المعارضة التي تقاتل في حلب وريفها هي فصائل إسلامية، بمعنى أنها تقاتل بهدف إنشاء دولة إسلامية بدلاً من الدولة الديمقراطية العلمانية، أما المجموعات التي يطلق عليها وصف “المعتدلة” مثل حركة حزم، والتي تلقت مساعدات عسكرية مباشرة من الولايات المتحدة، فهي مجموعات صغيرة نسبياً وهُزمت مؤخراً من قِبل الجماعات الجهادية مثل جبهة النصرة التي استولت على معظم قواعد ومعاقل الحركة، أما الجماعات “المعتدلة” الأخرى التي تعمل ضمن وحول حلب، فهي جماعات مشهورة بفسادها وإجرامها، مثل الفرقة 16 بقيادة خالد الحياني والناشطة في منطقة بني زيد في مدينة حلب وفي بعض مناطق الريف الحلبي مثل الزربة، حيث اُتهمت هذه الجماعة من قبل المرصد السوري لحقوق الإنسان المعارض بكونها مسؤولة عن أكثر من 300 حالة وفاة بين المدنيين جرّاء القصف العشوائي الذي نفذته على الأحياء التي يسيطر عليها النظام.
أما بالنسبة لقوات النظام في حلب، فإنها تتكون بمعظمها من مزيج من وحدات الجيش النظامي والجماعات شبه العسكرية المكونة من المتطوعين المحليين مثل الموالين لحزب البعث “كتائب البعث”، كما يوجد بعض الفرق الأصغر حجماً التابعة للقوات النظامية مثل قوات الدفاع الوطني واللجان الشعبية، وتوجد أيضاً ميليشيا مكونة بغالبها من الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم من مخيم حندرات بحلب بعد سيطرة قوات المعارضة عليه، حيث قام هؤلاء بتشكيل فصيل مسلح يسمى لواء القدس، وفي الهجوم الأخير لقوات النظام انضمت إلى هذه التكوينات الأساسية قوات أجنبية إضافية، أبرزها الجماعة اللبنانية الشيعية المسلحة حزب الله، وكذلك بعض المتطوعين الشيعة من العراق والشيعة القادمين من أجزاء من آسيا الوسطى، كما ادعت المعارضة أيضاً تدخل فرقة إيرانية كبيرة في هذه المعركة، بما في ذلك ضباط من الحرس الثوري الإيراني قاموا بالإشراف على العمليات القتالية الهامة.
الوضع الحالي في حلب لا يزال متقلباً في ظل استمرار القتال العنيف، حيث يدعي كل جانب النصر من خلال تحقيق تقدمات عسكرية جديدة، وبالطبع فإن هذه الادعاءات مدعومة بالحملات الدعائية المعتادة لوسائل الإعلام المحلية التابعة لكل طرف، والتي تبث لقطات وصور لقتلى وأسرى الطرف الآخر.
كقاعدة عامة، يصعب معرفة الواقع الحقيقي الذي يجري على جبهات حلب، وهذه المعركة الأخيرة ليست استثناء من هذه القاعدة؛ فالضبابية التي تخيم على المعارك التي تجري ضمن هذه المدينة المنكوبة، لا تترك مجالاً لتكوين صورة واضحة عن حقيقة الأمور، ونتيجة هذه المعارك ستظهر عند انقشاع هذا الغبار، وعندها فقط يمكن إجراء تقييم صحيح لأثر هذه المعركة على أي مبادرة دبلوماسية.
بالنسبة لمبادة تجميد القتال في حلب، فإن المجموعات المعارضة الرئيسية التي توجد في اسطنبول، مثل الائتلاف الوطني السوري ومجلس قيادة الثورة أعلنت رفضها للمبادرة، متهمة دي ميستورا بالانحياز بعد أن قال أن الأسد جزء من أي حل دبلوماسي في سوريا، وغني عن القول أن الجماعات الجهادية، وهي الأكثر قوة وفاعلية على الأرض، ترفض بشكل صريح أي حلول دبلوماسية، وتعمل بنشاط على تقويض أي جهد لبناء مثل هذه الصفقات، كما هو الحال في المناطق المحيطة بدمشق.
إن خطة تجميد القتال تفرض معادلة صعبة على طرفي القتال، وعلى الرغم من موافقة الرئيس السوري على هذه المبادة وإعلانه عن استعداده لإيقاف القصف المدفعي والجوي لمدة ستة أسابيع في حلب، إلا أن هناك شكوك من قِبل كلا الجانبين تشير إلى أن أي تجميد للقتال سيستفيد منه في نهاية المطاف الطرف الآخر؛ فالمسلحون يعتقدون بأن هذه الخطة ستُفرج عن بعض الأصول العسكرية للنظام، مما سيسمح له بإعادة نشرها في أماكن أخرى، وخاصة في الجبهة الجنوبية النشطة حديثاً في درعا، في حين أن النظام يعتقد أن الخطة ستعمل بحكم الواقع على زيادة تمترس المعارضة في الجزء الشرقي من مدينة حلب، وسيظهر النظام بمظهر المتنازل عن حكم هذا الإقليم بشكل صريح.
أما بالنسبة لشعب هذه المدينة المدمرة -الخاسر الأكبر جرّاء ما يجري في حلب- فبغض النظر عن نتيجة المعركة الأخيرة أو نتيجة التحرك الدبلوماسي الحالي، لا أحد يحدوه الأمل في اقتراب فترة الراحة من المعاناة الدائمة، هذا الشعب الذي طُحن لفترة طويلة في رحى الحرب الضروس التي أسفرت عن سفك دمائه وأعراضه، نسي تقريباً كيف يحيا بدون خوف وكيف يعيش بدون حرب؛ فالجزء الشرقي من المدينة “المناطق المحررة” يُقصف بشكل يومي وروتيني من قبل مدافع وطائرات النظام، وهو مدمر بشكل شبه تام، وشبه خاو من السكان، ومعظم من بقي فيه يرزح تحت حكم المتشددين الإسلاميين أو الميليشيات الجهادية، وسط انعدام تام للبنى التحتية ولمتطلبات الحياة الأساسية.
أما الجزء الغربي من المدينة الذي تسيطر عليه قوات النظام، فيجاهد للخروج من أزماته المتتالية، ويكدح تحت وطأة الشلل الناجم عن النقص الحاد والمزمن في الخدمات الأساسية (الكهرباء والمياه والوقود وغيرها من الضروريات)، كما أنه يعاني من القصف اليومي العشوائي من قِبل المسلحين، والذي أدى –ويؤدي- إلى خسائر كبيرة في الأرواح، بناء عليه، إن الأمل بأن تنتهي كل هذه المعاناة في يوم قريب، يبدو بالنسبة لمعظم الحلبيين نكتة ساخرة.
المصدر: ميدل إيست آي