لم تقم المفاوضات يومًا ظل الواقع المعوج ولن يقدم دي مستورا للمعارضة السورية ما لم تستطع الحصول عليه بالقوة العسكرية. قابل الرجل الجميع وكون رأيه وعزم على المضى قدما في خطته لتحقيق السلام الشامل عبر سلامات جزئية تساعد في بناء الثقة وتمد جسور التواصل الذي انهار على الجميع. تعكس خطته فشل الجميع في تحقيق الانتصار العسكرى واحساس الجميع أيضا بأن بساط سوريا ينسحب لغير صالح النظام والمعارضة وبأن الثورة ذهبت إلى حيث لا يتمنى أحد. في جلسة مغلقة لمجلس الأمن يوم الثلاثاء سيتناول الدبلوماسي السويدي-الايطالي المخضرم تفاصيل لقاءاته المكوكية بين الأسد والإيرانيين والأتراك والمعارضة المسلحة في حلب بدون أمل كبير في تحقيق شئ سريع على الأرض. فموافقة الأسد علي المبادرة لا تعنى الكثير للمعارضة في ضوء انعدام الثقة بين الطرفين وغياب الضمانات، والأهم من ذلك هو إحساس الفصائل بأن هذه الهدن هي مقدمة لتأهيل الأسد ونظامه للسيطرة على سوريا تحت دعاوى أولوية الحرب على الإرهاب ونسيان المجازر والجرائم التى أفسحت الباب للمتطرفين للهيمنه علي المشهد.
تنبع تصورات دي مستورا من فكرة محورية مفادها أن بناء الثقة بين النظام والمعارضة قد يأتي عبر عمليات جزئية ميدانية عبر تحقيق الهدوء في بعض المناطق بدون اتفاقات مشتركة وذلك لتوفير الأمن للمدنيين وإعادة تأهيل تلك المناطق. فى حالة نجاح مثل هذه المحاولات، ستنشأ سوابق إيجابية للتعاون بين الطرفين ما من شأنها أن تتطور إلى تحقيق استقرار في مناطق أوسع حتى تشمل سوريا كلها. بناء السلام من أسفل هو أكثر ديمومة وعمقا من مجرد توقيع اتفاقيات بين الأطراف المتحاربة عند القمة بدون العودة إلى القواعد، وهو ما يهدد بعدم الانصياع والتمرد على القيادة والعودة إلى الحرب مرة أخرى في حالة عدم مواتاة شروط الاتفاق للفصائل. قد يكون إيجابيا في محاولة دي مستورا أنه قد تواصل مع جميع الأطراف المعنية بما فيها اللاعبين الأصغر في المعادلة وهم الفصائل المقاتلة في حلب. مثل هذه محاولات، حتى وإن لم تصادف نجاحًا من المرة الأولى، فهي تبقى خطوط الاتصال مفتوحة بما يعني أن الوصول لاتفاق غير مستبعد في ذاته وأن التفاوض قد يسير جنبًا إلى جنب مع القتال. عادة ما يشير هذا إلى زيادة احتمال الاتفاق فى المستقبل حالما تم التوصل الى شروط وضمانات مرضية لجميع الأطراف.
على المستوى الاستراتيجي العام، يتشكك كثير من المحللين بأن يكون التركيز على اللاعبين المحليين ورعاتهم بدلاً من اللاعبين الإقليميين وخلافاتهم مدخلاً مناسبا لحل الأزمة على المدى الطويل. فبدون حل الخلافات الأمريكية-الروسية والإيرانية-السعودية لن يكون هناك حل جدى للأزمة السورية حتى لو قررت إحدى الفصائل والنظام، في لحظة ما في مدينة ما، وقف القتال بدون اتفاقات. من غير المتوقع أن ينجح دي مستورا في الوصول ضمنيا في حلب إلى ما عجز عنه المتفاوضون في مؤتمرى جنيف. الأسوء من ذلك هو شكوك المعارضة العميقة من أن دي مستورا يحاول بهذا المدخل شرعنة للنظام تدريجيًا من خلال فرض ترتيبات تفصيلية للهدن ومفهوم للاستقرار وتحقيق الأمن يفضى إلى إعادة سيطرة فعلية للنظام على مناطق تسيطر عليها المعارضة، وبدون قتال هذه المرة. في ظل الشكوك المتبادلة، وفي ضوء تصريحات دي مستورا عن أهمية الأسد وكونه جزءا من المعادلة، لا يبدو أن المدخل الجزئي لحل النزاع يعد بالنجاح بمعزل عن تناول القضايا الكلية والاتفاق على مبادئها.
على المستوى التكتيكي، ترى الفصائل المسلحة أن تقديم هدن مجانية للنظام في حلب يعنى فقط تحويل قوات النظام إلى جبهات أخرى في الجنوب وهو ما يرقى إلى درجة خيانة الثورة. قد يفسر هذا المتغير الميداني موافقة نظام الأسد على الهدنة بل وترحيبه بالمساعدة في تنفيذها. قد تعترف بعض الفصائل بتعاسة الوضع في حلب لكنها ترى أن الوضع أكثر تعاسة في أماكن أخرى وأنه من الواجب الضغط على النظام ومنعه من تحقيق اختراقات استراتيجية في الجنوب بالضغط عليه في حلب. يساهم في هذا التمترس من قبل المعارضة صعوبة وضع قواعد للعلاقة بين النظام والمعارضة في ظل انعدام الثقة وفي ظل عدم وجود طرف ثالث يضمن أي اتفاقات ناهيك عن وجود اتفاقات مكتوبة من الأساس. هنا لابد من الإشادة بخيال السيد دي ميستورا الخصب حيث يتوقع استمرار الهدن في وضع تتسم فيه المعارضة بالتشظى بما يعنى صعوبه تحقيق الالتزام بين أطراف كثيرة وغير متناسقة الأهداف ولا معلنة الدوافع. من ناحية أخرى يتسم النظام السورى بالمراوغة وخلف الوعود كما تشير لذلك محاولات شبيهة لوقف اطلاق النار كانت تنهار في أحيان كثيرة بخرقها من طرف النظام وآخرها قصف نفس المواقع المفترض إقامة الهدن فيها في حلب في ليلة عرض موافقة الأسد على مجلس الأمن.
هناك قضية أخرى قد تبدو تكتيكية لكن أبعادها الاستراتيجية لا يجب أن تغفل وهي كيفية استعادة الاستقرار في المناطق المتفق عليها وتمكين المجالس المحلية فيها من بسط سيطرتها وهو بعد جوهرى فى المبادرة. فى هذا السياق تبرز تساؤلات عديدة حول ما هي السلطة المخولة بالإدارة، وما هي مواردها، وما هي حدود صلاحياتها؟ من غير الواضح كيف ستتشكل هذه المجالس. هل بالانتخاب، أم بالتعيين، أم بمزيج منهما. قد تبدو هذه الأمور تفاصيل تافهة لكنها في الحقيقة هى جوهر الثورة والتغيير. للأسف لم تسمح لنا الجلسة السرية باستشراف هكذا تفاصيل، لكن من المنطقي تمامًا أن يتشبث كل طرف بأحقية من يمثلونه في الإدارة، ومن المتوقع أيضا الوصول الى حلول وسط في حال حدوث نقاش جدى حول هذه القضية. يتفرع عن النقاش أيضا قضية من سيكون المسؤول عن تمويل المجالس المحلية؟ هل هي حكومة الأسد أم المجتمع الدولى أم المحليات بذاتها ستقوم بجمع مواردها المالية بما يعني هذا من رمزية التبعية وفعلية التحكم في التخصيص والفعاليات. قضية أخرى مرتبطة بالنقاش وهي حدود صلاحيات المحليات، بعيداً عن الصلاحيات التقليدية في توفير أساسيات العيش الكريم للمواطنين، هل يمكن مد صلاحيات المجالس المحلية إلى إحلال الأمن بما يعني مقدمة لإعادة هيكلة النظام الأمني من أسفل بما يحقق مطالب الثورة، أم ستعود أجهزة الأسد لتوفير الأمن على طريقتها الخاصة؟! سواء أكانت هذه القضايا قد تمت مناقشتها أم لا بين دي مستورا ومحاوريه، فإنه قد يكون من مصلحة السوريين مناقشة مثل هذه القضايا بجدية. وبغض النظر عن نصيبها من التحقق في الواقع، فهى فى النهاية ستمثل المسارات المحتملة لنجاح الثورة في الوصول إلى تغيير فى عمق النظام وليس فقط على سطحه.
قد يبدو دي مستورا حالما لدى البعض أو متأمراً لدى آخرين، لكنه في النهاية وسيط لا يملك إلا محاولة وقف الدماء. ينجح دي مستورا إذا قدم قراءة واقعية للمشهد وبذل الجهد في تطمين الأطراف الراغبين والقادرين في التوصل لحل، وهو ما لا يبدو في الأفق. فى جزء آخر من العالم، امتدت المفاوضات بين الحكومة الفلبينية وجبهة تحرير مورو الإسلامية لأكثر من ٢٧ جلسة فقط للوصول إلى اتفاق إطارى للمفاوضات في ٢٠١٢ التى من المقرر لها أن تستمر لأربع سنوات وتنتهى فى ٢٠١٦، وذلك بعد أكثر من ٣٠ عامًا من الحرب الطاحنة. وبينما كانت تنعقد جلسات التفاوض استمر القتال الضارى إلى أن وصل الطرفان إلى قناعة بأن مزيداً من الحرب لن يغير من شروط التفاوض شيئًا. فى سوريا، كما في أي نزاع آخر، من الواجب على الوسيط أن يقابل الجميع. كدبلوماسي مخضرم، قابل دى مستورا الأسد والإيرانيين كما قابل الفصائل المسلحة والأتراك، وحده الوسيط قد يستطيع أن يحقق منفرداً بالسلام ما عجز كلا الطرفين عن تحقيقة بالحرب، فقط إذا أرادوا ذلك.