ترجمة من الفرنسية وتحرير نون بوست
لا يملك 99.99 بالمائة من الناس خيارًا في الحياة غير مزاولة عمل للحصول على السلع الاستهلاكية التي يدفعنا المجتمع لشرائها، أكثر من أي وقت مضى أصبح اليوم الحصول على الأشياء الجميلة التي تغرينا الدعايات وخبراء التسويق لشرائها أمرًا صعبًا بدون مزاولة عمل.
ولذلك يعمل الإنسان لكسب المال الذي يمكّنه من شراء احتياجاته، واليوم يمكننا أن نأكل متى أحسسنا بالجوع بدون أن نضطر للذهاب للصيد، يكفي أن نمد أيدينا لنأخذ طبقًا جاهزًا أو علبة مشروبات داخل أحد أجنحة المركز التجاري، كما يمكننا العيش بأمن وسلام مع العائلة والأصدقاء في أي مكان باستثناء بعض الأحياء الساخنة فبالنسبة لأغلبنا المخاطر الجسدية غير موجودة في حياتنا ونحن مطمئنون بأننا لن نتعرض لمحاولة القتل إلا في بعض حالات الحظّ السيء الذي قد يضعنا وجهًا لوجه مع إرهابي غاضب أو قاتل مجنون.
وخلاصة القول هي أن إنسان القرن الواحد والعشرين يعيش بشكل أسلم وأهدأ من أسلافه القدامى، أو ربما هكذا يُخيّل إلينا.
الحاجة للتعويض
منذ وقت طويل ابتدع الإنسان نقودًا ونظامًا اجتماعيًا معينًا يمكّننا من امتلاك سلع وخدمات هو ليس متأكد دائمًا أنه في حاجة لها، فنحن نميل لشراء أشياء كثيرة كل يوم، والتسويق له تأثير كبير علينا مهما بلغت درجة وعينا وثوريتنا ضد التيار السائد، فالمخ يستجيب غالبًا لتأثير الإغراءات ويقوم جهازنا الحسي قبل كل عملية شراء بالتأثير على حكمنا فيأخذ فجأة الغرض أو الخدمة المعروضة أمامنا أهمية كبيرة في أعيننا، إذ تحدث تفاعلات عديدة في لاوعينا أثناء تحليلنا للوضعية ومحاولتنا الإجابة على السؤال “هل نريد فعلاً شراء هذا؟”.
خلال هذا النوع من التفكير يكون الوقت هو عدونا الأساسي، فهو يفرض علينا أن نخمن ونحسب ونقيم ونستبق الحاضر والمستقبل لنقدر الموقف تقديرًا صحيحًا، ولكن في الواقع نحن فاشلون جدًا في هذا الاختبار، لهذا نأخذ غالبًا قرارات خاطئة تحت ضغط الوقت، كما أنّ البائعين يحسنون اللعب على عامل الوقت والعزف على الوتر الحساس من خلال التخفيضات المؤقتة والفرص التي لا تُعاد والعروض المحدودة والهدايا المجانية.
ربما يتذكر كل واحد منا أنه عقد في الفترة الأخيرة صفقة ذكية بشراء مُنتج بدى له عند الوهلة الأولى جيدًا وضروريًا، ولكن حاولوا التركيز قليلاً، ربما تم خداعكم، في الواقع يحدث هذا مع ملايين الناس كل يوم في كافة أنحاء العالم إذ نستسلم غالبًا لحواسنا المضللة ونتخذ خيارًا غير منطقي.
الإشباع أمر زائل
ما إن يصبح الشيء ملكًا لنا حتى يفقد قيمته في نظرنا ولا يبدو ضروريًا كما بدى لنا عند شرائه، والشيء المهم الآن قد لا يكون بنفس الأهمية بعد دقائق أو ساعات قليلة، فنحن نميل لتغيير رأينا بسرعة، ورغبتنا في الأشياء تضمحل بمجرد أن تصبح في حوزتنا ولا يهم حتى إن كنا لم نستعملها أصلاً، أشياء متنوعة كالملابس الجديدة والأحذية التي لم تُستعمل من قبل ومنتوجات مغلفة لم تخرج بعد من العلبة، هل لاحظتم عدد المنتوجات الجديدة التي تُباع في مواقع بيع الأشياء المستعملة؟ ربما يمكنكم شرائها من أصحابها بأثمان زهيدة وقد تشعرون عندها بأنكم عقدتم صفقة جيدة ولكنكم في النهاية ستكونون قد وقعتم ضحية للاختيار الغيرمنطقي، تمامًا كما فعل قبلكم الشخص الذي باعكم تلك البضاعة دون أن يستعملها!
نحن نقوم باتخاذ جزء كبير من قرارت الشراء تحت إملاء أدمغتنا، فنظام التعويض في عقولنا يطلب تعويضًا عن النقص الذي يشعر به، وهذا يساعدنا من جهة أخرى على مواجهة الصعوبات التي نواجهها في حياتنا، وهذا النظام السلوكي حاضر بصفة دائمة ويحدث في أدمغتنا بطريقة غير واعية ولكن من المؤكّد أن عملية الشراء في حد ذاتها تُشعرنا أحيانًا بالإشباع تمامًا مثل تناول قطعة مرطبات أو التلذذ بأكل اللحم المفروم.
هل أنت سيد نفسك أم عبد للمجتمع؟
أحيانًا تسيطر علينا رغبة ملحة في الأشياء الثانوية فتُصبح في نظرنا أكثر أهمية من الأشياء الأساسية كالغذاء والأمن، ويصبح الإنسان عبدًا بأتم معنى الكلمة، ولا يقدر على منع نفسه من شراء آخر الإصدارات وأحدث صرعات الموضة.
تهدف الموضة والدعاية إلى تنويم تفكيرنا المنطقي وخلق شعور لدينا بالحاجة للمُنتج، وينتهي بنا الأمر غالبًا بشراء الأشياء دون تفكير، مدفوعين برغبة ملحة أو لأننا استسلمنا في لحظات اتخاذ القرار لتأثير الدعاية المسلط علينا، صوت ما داخل رؤوسنا يهمس إلينا بأن ذلك المُنتج ضروري لسعادتنا ومحدد لمصيرنا وبأنه يجب علينا شراء آخر صيحة من الهواتف الذكية وإكسسوارات الأناقة، ثم بعد أشهر قليلة لا يعود ذلك الشيء ذو قيمة، وشيئًا فشيء تمتلئ خزانتنا بالأشياء التي لا نحتاجها ونكتشف الخدعة ونعاهد أنفسنا على ألا نقع في نفس الفخ في المستقبل، ولكن دون وعي منا نواصل شراء واستهلاك ما ينتجه المجتمع، وتشير الدّراسات إلى أنه في سنة 1950 كانت خمسون بالمائة من مداخيلنا تذهب للتغذية ولكن في السنوات الأخيرة أصبحت هذه النسبة لا تتعدى 15 بالمائة.
تمامًا مثل الحيوانات في القفص نحن غير قادرون على التحرر من النمط الاجتماعي الذي صنعناه رغم أن الحواجز من حولنا افتراضية وليست حقيقية.
قام الإنسان بتطوير المجتمع بسرعة كبيرة ولكن مخه لم يتطور بنفس السرعة، لاشك بأنه يمتلك قدرات ذهنية عجيبة ولكن مخه مازال مبرمجًا على أسلوب الحياة البدائية كالصيد وقطف الثّمار، ردود أفعاله وقدرته على التفكير واستباق تحركات الحيوانات الأخرى مكّنته من التفوق على بقية الكائنات، وهذا المخ الذي تعود بعض أجزائه لملايين السنين جعل من الإنسان متفوقًا وسيدًا على هذا العالم، وذكائه مكنه بالتّالي من تشكيل محيطه وصناعة هذا العالم الذي نراه من حولنا، ولكن من خلال تطوره لمحيطه قام الإنسان أيضًا بتغيير ظروف عيشه وفرض على نفسه طريقة تصرف وقواعد تعامل وقوانين وواجبات جديدة كبّل بها نفسه وخلق بها صعوبات جديدة بعد زوال المخاطر التي واجهها الإنسان البدائي.
يعاني الإنسان المعاصر من التأثيرات السلبية لاختياره العيش في شكل مجتمعات من خلال ظهور مشكلة التصرف في المعلومات، فالمخ غير قادر على التعامل بشكل صحيح ومنطقي مع سيل المعلومات التي يتلقاها، وهذا ما يقوده مباشرة لارتكاب الأخطاء، لقد خلق الإنسان من حوله سجنًا افتراضيًّا أصبح العيش خارجه أمرًا مستحيلاً.
المصدر: الهافنغتون بوست الفرنسية