أذكر أن أول نشاط سياسي شاركت به ويتعلق بانتخابات الكنيست الإسرائيلي، كان في حملة مقاطعة انتخابات الكنيست عام 2001، يومها شاركت في الفعاليات الأولى بتوزيع نشرات تدعو لمقاطعة الانتخابات، في يوم التوزيع الأول تعرفت إلى رفيقين مضى كل منهما في طريق، الأول ربيع هنداوي (وهو اليوم مساعد برلماني في الكنيست)، والثاني رفيقي وزميلي على مقاعد الدراسة في جامعة بيرزيت، الأسير أنيس صفوري (والذي حكم عليه بالسجن لمدة 12 عامًا بتهمة الانتماء لحزب الله).
14 عامًا مر منذ تلك الفعالية وانخراطي في نشاط المقاطعة، تبدلت الأحزاب والسياسات، تغير المجتمع المحلي والدولي، تسارعت الأسرلة والتهويد، تبدلت حكومات في العالم وسقطت حكومات، قُتل زعماء وتبدل زعماء، وتفتت دول وتغيرت موازين القوى ولايزال خطاب المقاطعة كما صيغ أول مرة.
المقاطعة هي ضرورة حتمية للفلسطينيين في دولة الاحتلال، ولكن المقاطعة التي تتهم الأحزاب بالجمود هي ذاتها ضحية جمودها، حيث لم تستطع تطوير خطابها، لا بديل وُجِد ولا إعادة قراءة لتجربتها والبحث عن مكامن الخلل أو نقد الذات أو دراسة المشروع الممكن وبناء شبكة احتمالات مدروسة، جانب كبير من المقاطعين للكنيست وللأحزاب كانوا انفسهم المقاتلين في تحالفات مخزية في انتخابات البلديات والمجالس المحلية في القرى والمدن الفلسطينية في الداخل، فاصلين بين البلدية التي تتبع لوزارة الداخلية الإسرائيلية وبين الكنيست الذي يضم في داخله وزارة الداخلية، توجه ضرب مصداقية المقاطعين أنفسهم ووضعهم أمام مفارقة قاسية لم يتكلفوا عناء تبريرها حتى.
لم يبدع المقاطعون في مركزة خطاب المقاطعة أو رفعه إلى سلم الأولويات وظل خطابًا رومانسيًا ينتمي لحقبة السبعينيات ولا يستند إلى قيم معرفية أو إلى بحث سياسي جاد يتجاوز النوستولوجيا نحو قراءة كل المركبات والمتغيرات الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية وآليات التحرر والانفصال وبناء المؤسسات وتنشيط الحراك الاجتماعي ضمن فعاليات مجتمع مدني تشكل حصنًا وأمنًا ثقافيًا يحمي الشرائح المنفصلة ويمهد لفصل قسري كامل عن المؤسسة الإسرائيلية نحو دوائر فلسطينية توفر كفاف الحياة.
من دعاة المقاطعة من رفض أصلاً فكرة توفير البديل مدعيًا أننا لسنا في حيز من ترف لكي نخلق البدائل، لكنه نسي أن عدم خلق البدائل هو قتل لفكرة الاجتهاد وهو تحويل الخطاب إلى منظومة قوانين صارمة وبالية (كما خطاب الحركات التكفيرية تمامًا) ونسي أن غيره سيخلق البدائل وأن الأحزاب التي يقاطعها استطاعت من خلال توقفه عن التفكير من استقطاب شرائح جديدة ومن تعزيز خطابها على حسابه، إضافة للمؤسسة الإسرائيلية التي صار لديها رؤية واضحة لتوجهات الفلسطينيين في العمل السياسي حين انحصروا طوعًا في مربعات معدة لهم مسبقًا ولن يتجاوزها أحد.
غاب عن دائرة خطاب المقاطعة هذه المرة البرلمان الفلسطيني المستقل، المؤسسات الثقافية والفكرية المستقلة، فصل جهاز التعليم، إمكانيات النهوض، وتركز الخطاب في ضرب مصداقية ووطنية الفاعلين في الأحزاب؛ هكذا تحولت معركتنا إلى داخلية وجلست إسرائيل تنظر إلى صراعنا بين مصوت ومقاطع.
الأحزاب بدورها ورغم اتفاقها أصدرت برنامجًا انتخابيًا هزيلاً ومضحكًا، إن دل على شي فهو يدل على أنها تفتقر لأدنى مقومات العمل السياسي، لا مستشارين للدعاية الإعلامية، لا باحثين في قراءة المتغيرات الاجتماعية، لا خبراء في صياغة الخطاب وقراءة تحولات الشارع، ولا فهم حتى لحجم القوة في الاتحاد الذي يملكون، لكن القائمة المشتركة على الأقل والأحزاب من خلفها استطاعوا ولو لمرة أن يتجاوزو خلافاتهم وأن يصيغوا خطابًا جديدًا (رغم ضعفه) تطور ملفت تفتقر إليه حركة المقاطعة.
أنا لن أشارك يومًا في انتخابات الكنيست، لكني لن أدعوا أبدًا للمقاطعة طالما لا أملك برنامجًا وليس لدي ما أقوله للمصوتين، سأتنحى جانبًا حتى أستطيع صياغة بديل أو يُطرح خيارات جديدة، وحتى يكون هناك خطاب مقاطعة يليق بالمقاطعين نعمل عليه معًا ونطوره، علينا الاعتراف بأن الأحزاب نجحت هذه المرة ولو نجاحًا مؤقتًا، درس علينا تعلمه فلنعترف نحن المقاطعون بهشاشة خطابنا لكي نستطيع تطويره لاحقًا ولا خير فيمن يتجاهل الضعف فيه ولا يعترف بهزيمته.