مرت السياسة الخارجية المصرية بتغيرات عنيفة عقب صعود الجنرال السيسي إلى الحكم في مصر عبر انقلاب عسكري دبره أطاح بالرئيس السابق محمد مرسي الذي كان قد شرع في بناء سياسة خارجية مختلفة ولو شكليًا عن سابقتها التي تعودت عليها أدراج الدولة المصرية، تلك السياسة شبه الجديدة بالطبع لم ترض المؤسسة العسكرية عنها، إذ إن الهوة بين دول الخليج ومصر باستثناء قطر اتسعت في ذلك الوقت وبات العداء لنظام الحكم القائم في مصر هو فعل سياسي خليجي أصيل بسبب العداء الخليجي لكل مخرجات ثورات الربيع العربي.
كذلك لم تكن المؤسسة العسكرية في مصر على وفاق مع الرئاسة في ذلك الوقت بالنسبة لوجهة النظر من القضية السورية حين أغلقت سفارة النظام الأسدي في القاهرة ودخلت القاهرة الصراع السوري، وهو ما عارضته بشدة المؤسسة العسكرية المصرية التي اعتبرت أن هذا قرارًا رئاسيًا فرديًا لم يأخذ برأي العسكر فيه، والأمر الذي جعل ذلك جليًا أكثر هو إلغاء كافة القرارات التي اتخذها الرئيس السابق مرسي بشأن وقف التعامل مع النظام السوري الذي تربطه علاقات عسكرية بالجيش المصري، وما لبثت أن عادت القاهرة لموقفها العدائي من الثورة السورية تحت حكم الجنرال، هذه كانت مجرد أمثلة لما كانت عليه السياسة الخارجية المصرية قبيل الانقلاب وما بعده، ليطرح التساؤل نفسه كيف يصنع الجنرالات السياسة الخارجية لمصر بعد أن آلت مقاليد الأمور في الدولة إليهم؟
في البداية يجب أن نؤكد أن هناك منطلقات رئيسية تشكّل سياسة مصر الخارجية فيما بعد الانقلاب العسكري وهي منطلقات ليس لها علاقة بالسياسة الخارجية في حد ذاتها، بل إنها مرتبطة بمصالح النظام الحاكم الذي يعاني من حساسية مفرطة تجاه شرعيته حتى بعد مرور أكثر من عام على تواجده في الحكم، وإذا أردنا فهم هذه السياسة الخارجية علينا أن نعرف هذه المحددات والمنطلقات التي يضعها في اعتبارهم الجنرالات حينما يديرون دفة العلاقات الخارجية لمصر.
أول هذه المحددات هي تبني الرؤية الإسرائيلية في قضايا المنطقة الأمنية والإستراتيجية
لا يخفى على أحد أن التنسيق بين القاهرة وتل أبيب هو الأعلى تاريخيًا حاليًا حسب الإعلام العربي في قضايا الحدود وغزة وتبني الرؤية الإسرائيلية للمشاكل التي تواجهها مصر في سيناء، فمشروع التهجير والمنطقة العازلة هو مشروع إسرائيلي بامتياز قُدِم سابقًا لنظام حسني مبارك ورفض تمامًا، كما أن الحل العسكري في سيناء بدعم استخباراتي وتقني إسرائيلي خيار تل أبيب وليس خيار القاهرة وحدها وإن أنكر الجميع ذلك.
فبوصلة النظام المصري تغيرت تمامًا من إخفاء التعاون الإستراتيجي مع العدو الإسرائيلي لإعلانه إلى حد أن احتفى الإعلام الإسرائيلي بهذا التعاون المعلن والتنسيق في الحرب على الجماعات “المتطرفة الإرهابية” على حد وصف البلدين، فلأول مرة منذ عقود تتفق مصر مع إسرائيل في توصيف حركة المقاومة الإسلامية حماس على أنها “منظمة إرهابية” ما يعطيك خلفية عن طبيعة العلاقة الوطيدة بين النظام المصري الجديد وحلفيه في تل أبيب الذي ربما غير من وجهة نظر التي اعتبرت حسني مبارك في السابق حليف إستراتيجي بعد أن رأى مدى تعاون النظام الجديد معه، لكن ربما يتساءل البعض عن الثمن الذي ينطلق منه نظام الجنرال داخليًا.
الإجابة على هذا تتمثل أن النظام الذي ليس لديه ثقة في شرعيته ومؤسساته الخارجية المترهلة تعجز عن الدفاع عنه خارجيًا فتولت عنه لوبيات اليمين الصهيوني الداعمة لإسرائيل ذلك، فبات اليمين الأمريكي الذي يعاني من الإسلاموفوبيا متبنيًا لوجهة نظر النظام المصري على طول الخط في دفاع مستميت عن نظام الجنرالات في مصر بل والزود عنهم في المحافل الدولية وهو ما يغري نظام الجنرال في مصر للاستمرار في هذا الخط الذي يُأمن له ظهيرًا دوليًا بقيادة إسرائيل وحلفائها في العالم.
ثاني هذه المحددات هي الدخول في صراع أيديلوجي مع حركات الإسلام السياسي
فعقب الانقلاب على الرئيس السابق محمد مرسي أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين في مصر، شيطنت دولة الجنرالات جماعات الإسلام السياسي داخليًا وخارجيًا بشكل مبالغ فيه كرد فعل لنزع الغطاء السياسي عنهم ووصفهم بالإرهاب لتبرير حملات القمع ضدهم، تزامن ذلك مع رغبة خليجية إقليمية استثمرها الجنرال جيدًا وتماهى معها، فلم يكتف بالصراع الداخلي مع جماعات الإسلام السياسي، بل أراد النظام دخول حرب إقليمية ضدها يقودها هو بتمويل خليجي لضمان مكانة خاصة للنظام الجديد إقليميًا كأحد الدولة المحاربة للإرهاب المزعوم، هذا الذي يفسر رغبته الدخول في حرب مع الجماعات الإسلامية المسلحة المحسوبة على الثوار في ليبيا لكي يضمن عدم تشكيل جبهة إسلامية مسلحة على حدوده الغربية في حال تطور الأوضاع إلى أبعد من ذلك في ليبيا، كذلك العمل على محاصرة جماعات الإسلام السياسي حتى المعتدلة منها في خارج هذا النطاق وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين ذات الذراع الإقليمي والدولي وذلك عن طريق التحريض على حظرها بين دول الإقليم بقيادة الخليج وعلى مستوى دولي أيضًا لكنه حتى الآن لم ينجح في ذلك.
ثالث هذه المحددات هو بث روح الاستقلالية المزعومة بين مؤيديه لتوفير الدعم الشعبي لخطواته خارجيًا
خطاب الجنرال دائمًا ما يتحدث بقوة متوهمة واستقلالية مزعومة وخطاب غير واقعي بالمرة فيه تعظيم من قدرات الدولة بعكس ما هي عليه والإغراق في الأحاديث عن المؤمرات الدولية على مصر إعلاميًا، حتى وصل إعلام الجنرال به الحد أن يعلن عن أسر قائد الأسطول الأمريكي من قبل القوات البحرية المصرية في إطار مقولات تروج أن الولايات المتحدة تتآمر على مصر، وهو شكل مش أشكال التخدير بصناعة عدو وهمي وتمجيد في دور الجنرال خارجيًا لإغفال وتبرير التعاون الإستراتيجي مع العدو الإسرائيلي ولغض الطرف عن التعاون المصري الإجباري مع الولايات المتحدة الذي لا تستطيع القاهرة الفكاك منه بأي حال بعد اعتمادها كليًا على البنتاجون الأمريكي في قضايا التدريب والتسليح، ولكن لا يمنع هذا من الترويج داخليًا عن طريق أبواق الإعلام العسكرية أن مصر في اتجاهها للتخلي عن أمريكا والتوجه للمعسكر الشرقي بزعامة روسيا في استداعاءات كوميدية للغاية لأنظمة الستينيات، فكل هذه التضخيم في الزيف ربما يستفيد منه الجنرال ليستطيع تبرير أي خطوات خارجية قادمة غير محسوبة، فحتى يتحرك الجنرال بحرية خارجية عليه أن يُأمن الجبهة الداخلية أولًا بمثل هذه الأكاذيب الإعلامية.
رابع هذه المحددات هي دعم الثورات المضادة على طول الخط.
بما أن هذا النظام أتى على سواعد قوى الثورات المضادة داخليًا وخارجيًا فعليه أن يدفع ثمن ذلك لهم بتطبيق نموذج مصر في فشل ثورتها، فبعد الانقلاب بمصر يجب أن يتنحى الإسلاميون في ليبيا ويقود المرحلة اللواء المتقاعد خليفة حفتر أحد أذناب القذافي لتتحقق التجربة المصرية في المسألة الليبية، كذلك في اليمن يجب أن تعود الدولة إلى النقطة المصرية ولو بتدخلات غير مباشرة، كذلك تأييد النظام السوري رغم كل جرائمه، هذه نقطة عاد إليها النظام المصري الجديد بقيادة الجنرال، حيث إن الأسد والسيسي يخوضان حربًا مزعومة ضد الإرهاب، وعلى هذا دخلت مصر كأحد قوى الثورة المضادة في المنطقة تعمل على بتر أي مكتسبات للربيع العربي، بالطبع ذلك يحدث بتنسيق خليجي لطالما حلم به، وبالفعل تم إفشال تجربة الثورة المصرية وكل مكتسباتها حتى لا يفكر أحد في استنساخ التجربة خارج الحدود المصرية.
خامس هذه المحددات هي الدوران في فلك الكفيل الخليجي حيث دار كظهير اقتصادي.
أصبحت مواقف مصر الخارجية بعد الانقلاب رهينة الدعم الخليجي المالي، فلا يمكن لمصر أن تتخذ موقفًا إلا بعد التنسيق الكامل مع الخليج الذي يتخذ من مصر “حارسًا خاصًا” لتنفيذ المهام الصعبة خارج الحدود؛ فالامارات ومصر تشتركان سويًا في ضرب الحركات المسلحة الإسلامية في ليبيا، كذلك تدعمان بقوة معسكر السبسي في تونس أحد فلول بن علي، حتى تمكن من الإطاحة بحركة النهضة الإسلامية وأغلبيتها السابقة في شبه انقلاب ناعم لم ترق فيه دماء، فكل المواقف المصرية باتت تخضع للتوازن مع الخليج وهو ما يوقع مصر في مأزق الآن بسبب ظهور بوادر شقاق بين السياسية الخارجية المصرية والأخرى الخليجية في عدة نقاط أبرزها الثورة السورية والموقف اليمني الحالي والموقف من إيران عامة، وهو مأزق لم يخرج منه نظام الجنرال في مصر حتى الآن.
سادس هذه المحددات هو تقديم نفسه لأي مهمة مطلوبة دوليًا لاكتساب ثقة المجتمع الدولي
فالنظام حاليًا يقدم نفسه كحليف في أي تجمع دولي في أي منطقة سواء كان عربيًا أو أفريقيًا ويقدم استعداده للقيام بأي مهمة يكلف بها، كل ذلك من أجل اكتساب ثقة المجتمع الدولي بإدراجه في أي نشاط يحافظ به على أهميته الإستراتيجية لهم حتى لا يفكر الغرب في تغيير هذا النظام، بما في هذا سياسة الانبطاح العائدة إليها مصر تدريجيًا بصورة أسوء من نظام مبارك.
هذه المحددات هي رئيسية يندرج تحتها أفعال قد تحلل في نفس النطاق، لكن بشكل عام هي حاكمة لأي قرار يتخذه الجنرال خارجيًا حتى يستطيع النظام الاستمرار على هذا المنوال أطول فترة ممكنة دون أن ينتهي دوره وتأتي مرحلة استبداله بآخر كما حدث مع سابقيه محمد مرسي وحسني مبارك .