“رحمة الله على الرافعي، لقد شارك الأوائل عقولهم بفكره، ونزع إليهم بحنينه، ثم صار إلى أن أصبح ميراثًا نتوارثه، وأدبًا نتدارسه، وحنانًا نأوي إليه”. محمود محمد شاكر [1]
ذكريات
تبدو شهادة محمود شاكر معبرة عن حبه للرافعي واستثنائه إياه من زمرة ما قصدهم بتهمة فساد حياتنا الأدبية، كما وصفها في رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، أحن إلى الرافعي حنان البدايات، فهو يقع في موقع قريب من القلب، فكلماته ومعانيه الوجدانية تظل عالقة في عقل وقلب القارئ، ما زلت أجد حنينًا لمذاق مقالته “اليمامتان” في وصف الفتح الإسلامي على مصر، أو ضحكي وصديقي على درج المنزل نقرأ مقالاته عن “خروف العيد” أو “حديث قطين” من كتابه وحي القلم، فيسحرنا هذا القلم وهذه الموسيقى، ووجدت في كتاب محمد سعيد العريان حياة الرافعي فرصة لمعاودة الحنين والزيارة لأدب الرجل، وذكرًا لبعض لمحات عن حياته وزيارة لجو هذه الفترة الزمنية في بدايات القرن المنصرم.
العريان وحياة الرافعي
تعرف محمد سعيد العريان على الرافعي في بداية حياته، فقدم بذلك خدمة للأدب العربي بتسجيله سيرة الرافعي في كتابه حياة الرافعي، خدمة وصفها شاكر بأنه “لو تيسر لكل شاعر أو كاتب أو عالم صديقًا وفيًّا ينقله إلى الناس أحاديث وأخبارًا وأعمالاً، كما يسر الله العريان للرافعي، لما أضلت العربية مجد أدبائها وعلمائها، ولما تفلت من أدبها علم أسرار الأساليب وعلم وجوه المعاني التي تعتلج في النفوس، حتي يؤذن لها أن تكون أدبًا يصطفى”، فكسر العريان بسيرته الصورة النمطية عن الرافعي، كشيخ متعجر العمامة، مسترسل اللحية، مما تقرأ له بحوثًا في الدين وآراء في التصوف، ودفاعًا عن القرآن، لكنه كان بجانب ذلك رجلاً رقيق الجانب، محبًّا للمزاح، مخالطًا للناس، شاب وما شاب قلبه عن أحاديث القلب.
قبلة الرافعي
كان يرمي وسط فساد الذائقة أن يعيد الجملة القرآنية إلى مكانها مما يكتب وينشيء الأدباء، فأدبه يخالط النفس وينفذ في رفق إلى القلب، فهو يستمد أدبه من دراما الحياة الإنسانية بصورها المختلفة، فكتابه المساكين جاء بعد الحرب العالمية الأولى، وفيه ظلال من أحداث التاريخ ومقابلته لرجل اسمه الشيخ علي الجناحي، وكذلك أغلب مقالاته في الرسالة.
كانت قبلته التى اتجه إليها في الأدب، هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا يكتب إلا ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها.
ثقافة الرافعي
ساعده في ذلك عدة عوامل، منها ثقافته الواسعة وقراءاته المتشعبة في بحر التراث العربي، فهو يجلس وحوله الكتب، وعندما يزوره ضيف يناوله كتاب ويقول له هيا بنا نقرأ، فكان يقرأ ما يقارب الثماني ساعات في اليوم، ومع عاهته وحرمانه من السماع، كان يمتلك حافظة قوية تعينه على سرعة الاهتداء إلى مراجع البحث، مع مهارة الاستدلال على مواضع النقص.
الأديب الموظف
عمل الرافعي في وظيفة إدارية بمحكمة طنطا، وكالعادة من الصعب أن نبحث عن حق الرافعي على الأمة، التي كان أحد الناطقين باسم لغتها وثقافتها ومدافعًا شرسًا عن القرآن والأدب العربي، فعاش على بضع وعشرين جنيهًا في الدرجة السادسة بعد خدمة ثمان وثلاثين سنة في وظائف الحكومة، لكننا نعيش في شعب وأمة أكبر فضائلها أنها تنسى على حد تعبيره.
فضائله الذاتية وقصته مع الكتابة
تمتع الرافعي بروح تمتلئ بالأمل، فهو يذكرني بجهة السماء عندما تسد في وجهي منافذ الجهات الأربع كلها، فكان منبسط الوجه، يقنع نفسه في كل يوم بأنه في أسعد أيامه، مستعينًا بالإيمان بحكمة القدر وقانون التعويض بعد علته التي ذهبت بسمعه وهو لم يزل غلامًا، كان كبير الثقة بالنفس، عظيم الطموح، كثير الاعتداد بذاته ومواهبه، تميز بدقة الحس وسرعة الاستجابة، امتلك عاطفة ومشاعر دينية قوية، جعلته لا يستطيع الكتابة إلى امرأة رسالة ود ووصال إلا بعد أن يستأذن زوجته ويطلعها على ما كتب.
أما موقفه من السياسة، فهو رأي رجل من سواد الناس تمتع بلقب شاعر الملك فؤاد، وحصل على أثره جوازًا مجانيًّا في الدرجة الأولى على خطوط السكة الحديد، فكان يروض به عن نفسه في زيارات لبورسعيد والإسكندرية والقاهرة، وطبع الملك كتاب إعجاز القرآن على نفقته.
تزود زاده من الأدب القديم، فكان يحتشد للكتابة، فقد كانت الكتابة له فنًّا وأسلوبًا وصناعة يحترم بهذا الجهد قراءه، فلم يكن يسخر منهم أو يشعوذ عليهم ليملأ فراغًا من صحيفة.
ويستفتح عمله في كتابة المقالات بمطالعة أسفار الأدب العربي، ككتاب الأغاني وكتب الجاحظ وأبي حيان التوحيدي، لتدخله في جو الكتابة، حجته في ذلك كوننا نعيش في جو عامي، فسد فيه اللسان، ولم يعرف العربية، وصف العريان أسلوبه في الكتابة كأنه يلقى إليه الوحي، لا يرفع عيناه إلى العريان، كأنما يتحدث من وراء ستار إلى سامع غير منظور، أو كأنه في نجوى خاصة ليس فيها سامع ولا مجيب.
كل هذا مع كوب الشاي وفنجان القهوة، مع قليل من الدخان، فلم يكن يشعل إلا سيجارة واحدة أو سيجارتين في الجلسة، وكانت معظم مقالاته تعبيرًا عن مواقف حياتية عاشها، فمقالته “موت أم” على سبيل المثال، هي مقالة انفعل بها بعد وفاة زوجة صديقه حسنين مخلوف، كانت الكتابة لديه تعبيرًا عن معايشة الحياة، مجادلة معها، واستعاذة من هواجس الشيطان، ورغبة في الطمأنينة والتعبير، عندما كتب مقالته اليمامتان عن الفتح الإسلامي لمصر أسلم على أثرها أستاذ مسيحي من أساتذة التاريخ في الجزائر، فسر بذلك كثيرًا.
وأضاف إليه ورود الرسائل علمًا جديدًا هو علم الحياة، بعيدة عن علم الكتب، فكانت تصل إليه ثلاثون رسالة في الأسبوع، وكانت نقلة اجتماعية له لفهم طباع ومشكلات المجتمع حوله.
القلب العاشق
امتلك الرافعي قلبًا جياشًا ينفعل بالجمال ويستقبل العشق ويهيم بالحب، وينظم الشعر ولا يعمل ذهنه في مقدمات الهوى إلا عندما يتمكن منه، ثم ينتصر عليه بالتخويف بالله والاستعاذة من همزات الشيطان، وهذه المجاهدة/ المكابدة هي ما تكسو كلماته وأدبه جمال الصدق والتجربة الذاتية، فلم يكن يكتب إلا ما ينفعل في وجدانه، فهو يتساءل على باب كازينو ومعه العريان: “هل من المروءة الدخول إلى هذه الأماكن؟” ويمنعه الدين والحياء فينصرف.
للرافعي في الجمال صبوة فكان يضع صورة محمد عبده وصورة الرياضي الفرنسي صاندو وبجانبهم صورة كريمان هانم خالص ملكة جمال تركيا، فيسأله العريان فيقول: هاتان قوتان تعملان في نفسي، قوة في روحي، وقوة في جسدي، وهذه أي صورة كريمان ما أجملها، ألا تقرأ شعرًا مسطورًا على هذا الجبين؟!
ولم تكن تتاح له الفرصة للسفر إلى أوروبا، لكنه كان يجد في (السيما) رحلة يسميها خارج القطر، ذلك بعض أثر مذهبه في فلسفة الرضا والسعادة.
حياته في طنطا
تذكرت مواضع حياة الرافعي في طنطا فلمست ذكريات لي مع هذه الأماكن، فقد كان الرافعي يدلف من حارة سيدي سالم، قادمًا من بيت آل الرافعي القريب من مسجد السيد البدوي، يجلس في مكتبة المسجد الأحمدي أو مكتبة مسجد القصبي، بعد أن يغادر عمله في المحكمة، يتردد على عدة مقاه مثل قهوة اللوفر بميدان الساعة أو قهوة ليمنوس بشارع البحر والتي مازالت قهوة يؤمها الناس، أو يسهر مع رفاقه في صيدلية كوكب الشرق بشارع البحر، بالقرب من مسرح البلدية والذي كان يتردد عليه في حالة وجود عروض به، وبه تجدد اللقاء مع مي زيادة، يصلي في مسجد المنشاوي، أو يجتمع بالشباب في مسجد البهي يؤلب الشباب على القديم ويحمل راية الإصلاح فيغضب الأزهر، مات وهو يستعد لمعاودة الغارة بالكتابة، وله مقالات ظلت عناصر في ورقات على مكتبه تشير إلى أمل الأحياء وإلى كثير من خداع الحياة.
————————————–
[1] مقدمة حياة الرافعي، لمحمد سعيد العريان.