ترجمة وتحرير نون بوست
في مقال حديث نُشر مؤخرًا في صحيفة الأتلانتيك، يبذل الكاتب غرايم وود جهدًا كبيرًا ويشرح مطولاً عمّا تسعى إليه الدولة الإسلامية “داعش” كمنظمة موجودة فعليًا على أرض الواقع، ويمكن تلخيص أفكاره باختصار من خلال قوله إنه يجب علينا أن نفهم داعش بشكل صحيح، وبغض النظر عن أي مقولات مخالفة، فهو يرى أن أفعال وممارسات داعش دافعها في المقام الأول هو التعاليم الدينية حول يوم القيامة، هذه التعاليم التي ذكرت بوضوح في النصوص الإسلامية، حيث تحاول مقالة وود توصيف داعش على أنه “تنظيم ديني يقوم بتطبيق المعتقدات الدينية بدقة”.
على الرغم من أن وود استطاع من خلال مقالته تبرير بعض النقاط بشكل منطقي، إلا أنه وقع في الخطأ الشائع المتمثل بالخلط بين مصادر الشريعة الإسلامية المتمثلة بالكتاب “القرآن الكريم” والسنة “الأحاديث النبوية”، وبين قواعد الشريعة الإسلامية القادمة من الدراسات الإسلامية الفقهية للكتاب والسنة، والتي قد تحتوي على قواعد فقهية فيها تفسيرات تحمل انحراف صارخ عن الأهداف الواردة في النصوص الأصلية.
وعلاوة على ذلك، فقد وقع وود في المطب الذي وصف به غالبية المسلمين المتمثل بالقراءة الانتقائية للتقاليد، حيث تسببت هذه العقلية الانتقائية بارتباك كبير لوود وللكثيرين الذين حاولوا وضع داعش ضمن إطار تنظيمي ذو أهداف اعتيادية ومألوفة، وبالمحصلة يمكن تصنيف مادة وود الصحفية بكل جدارة على أنها مقالة “إسلاموفوبية”.
وود من خلال مقالته يتجاهل بشكل متسرع صحة المعتقدات التي يدين بها غالبية المسلمين، ويتجاهل الموقف الرسمي الذي أعرب عنه معظم رجال الدين الإسلامي والمتمثل برفض داعش وتطرفها العنيف، ويقتصر في مادته على الأخذ بالنصوص الفقهية الإسلامية التي يُروِّج لها الناطقون باسم داعش أو الجهمور الداعشي، حيث يفترض في مقالته أن المجموعة الإسلامية الوحيدة التي تطبق النصوص الإسلامية مثلما نُصَّ عليها هي داعش، لا بل تنطوي أيضًا مقالة وود على تجاهل كلي لوجود الدين الإسلامي، كونه يقتبس من الباحث بيرنارد هايكل من جامعة برينستون، والذي ينفي وجود الإسلام كدين له أوامره ونواهيه الواضحة والمستقلة عن النشاط التفسيري الفعلي الذي تتم ممارسته من قِبل المسلمين على أرض الواقع.
باختصار وود يرغب في القول بأن “الشعب” الوحيد الذي استطاع فهم الإسلام بشكل حقيقي هو داعش والأكاديميين الذين يقولون إن مسلحي داعش يفعلون ما يأمرهم به الإسلام الأصيل، أما بالنسبة لبقية المسلمين الذين يشكلون أكثر من 1.6 مليار مسلم من بينهم رجال الدين، فإن هؤلاء لديهم ما يسميه هايكل “نظرة هشة وناعمة عن دينهم”.
ولكن المشكلة الأكبر هي أن وود والأكاديميين الذين يستشهد بأقوالهم، أساءوا فهم مشكلة التعصب الديني في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل كلي، والدليل على ذلك هو اقتراح وود في نهاية مقاله الذي جاء فيه “إن السلفية الهادئة هي المضادة لداعش”، ولكن في الواقع، وإذا ما تجاهلنا السياسة وركزنا على المساهمة الدينية للتطرف، يمكننا ملاحظة أن السلفية الهادئة والصوفية هما حاليًا أقوى الأدوات التي يتم استغلالها من قِبل تنظيم داعش.
على عكس الطريقة التي قد يظهر بها، فإن زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي لا يمثل بالنسبة لمسلحيه ومريديه إحياء للخلافة أو عودة إلى الأوقات النبوية التي تتميز بالرفاه والازدهار، بل إن البغدادي يمثل نهاية للفساد، ونهاية للحكام المدعومين من الغرب والذين يسلبون الشعب ثرواته، ويجردونه من كرامته وحريته، ويصادرون حقه في الاحتجاج على الدولة، والعديد من الكتّاب والباحثين الذين يعيشون في الغرب لا يستوعبون أن غرايم وود لم يكن ليحلم بمقابلة أشخاص مثل موسى سيرانتونيو “شيخ مؤيد لداعش في أستراليا” أو أنجم شوداري “داعية مؤيد لدعش في لندن”، لو أن هؤلاء الأشخاص كانوا يعيشون في الشرق الأوسط.
مدى الاستبداد السياسي وقمع حرية التعبير في منطقة الشرق الأوسط جاوز المدى وانتشر بشكل كبير، بحيث كانت كتابة مشاركات على الانترنت تتساءل عن الوضع الراهن للسلطة الحالية كافية ليتعرض المدون السعودي رائف بدوي إلى 1000 جلدة و10 أعوام من الحبس، كما تمت تصفية أكثر 800 مدني أعزل كونهم احتجوا على الإطاحة بالرئيس محمد مرسي في مصر فيما أصبح يعرف لاحقًا باسم مذبحة رابعة، ودفع أكثر من 200.000 شخص سوري حياتهم لأنهم قالوا ببساطة إنهم لا يرغبون ببشار الأسد كرئيس للدولة، وفي العراق تحول الاختلاف الفقهي ما بين السنة والشيعة إلى حرب طائفية عنيفة بعد الغزو الأمريكي في عام 2003، حيث أشار حينها المحللون أن الطائفية مرتبطة بالسياسة أكثر من الدين.
هذه مجرد أمثلة للوضع الطبيعي الذي أصبح عليه الشرق الأوسط، لذا فإنه من الغريب أن يتمتع أي شخص من الغرب بالحقوق والامتيازات المسلوبة من الشرق الأوسط والمتمثلة بالديمقراطية والحريات، ومن ثمّ يعمل على تقديم تفسير يركّز على الأمور السطحية للدين، ويصرف النظر عن المشكلة الحقيقية المتمثلة بالاستبداد والطغيان المدعومان من الغرب في المنطقة.
السلفية الهادئة التي يقترحها وود كترياق لعلاج داعش، والصوفية التي تُقرها الدولة التي يُروِّج لها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من خلال الدعاة مثل الحبيب علي الجفري، هما نوعان من الدين يحثان الناس على الهدوء والصبر والصمت في مواجهة التجاوزات الواضحة التي تنتهك حقوقهم، وهذا يتعارض مع التعاليم الإسلامية والشرعية للعلماء المسلمين الصادقين الذي يدعون لخدمة العدالة بدون خلق الفوضى وسفك الدماء؛ فالتعاليم الإسلامية لا تحث على القبول بالظلم وعدم الجهر به، وعلى الرغم من أن النبي محمد ﷺ قام بحظر الخروج عن الحاكم وحمل السلاح ضده، لأن هذا التصرف بالعادة يؤدي إلى حالات مماثلة لما نراه اليوم في سوريا، ولكنه بذات الوقت قال “سيد الشهداء رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله”.
من المؤكد أن المواد الدعائية التي يستعملها داعش تحتوي على العديد من الأحكام الشرعية التي تبرر أفعالهم المروعة، والتي اقتبسوها – بشكل انتقائي – من النصوص الشرعية الإسلامية، ويمكن ملاحظة أن الشيخ المفضّل لداعش هو ابن تيمية (1263-1328)، وهو عالم إسلامي بارز وأحد أكبر فقهاء الدين الإسلامي ومصدر للكثير من الأحكام الشرعية التي تشكل أساسا لسلوك داعش اليوم، ولكن ما تعامى عنه داعش هو أن ابن تيمية كان لاجئًا أثناء الغزو المغولي، وكانت قواعده الشرعية التي يضعها والتي تسمح بالتعذيب والتشويه تشكل رد فعل على ما شاهده من فظائع المغول وتمثيلهم بالمسلمين في ذاك الوقت، وفي الواقع، إن المبررات الشرعية لهذه الأحكام ذكرها ابن تيمية صراحة مشددًا على هذا السبب بالذات.
يمكن القول إن أحد أهم اللحظات بالنسبة لمتشددي داعش وجمهوره كانت في الصيف الماضي، عندما خطب البغدادي خطبة الجمعة – الوحيدة – في الموصل خلال شهر رمضان، وبغض النظر عن استعماله لاسم صاحب النبي الأوفى والخليفة الراشدي الأول أبو بكر الصديق، فإن البغدادي أظهر قوة وجزالة في اللغة العربية، واستشهد بآيات من القرآن الكريم، كما ورُوِّج له على أنه من نسل النبي محمد ﷺ ومن آل بيته.
بجميع الأحوال، إن التركيز على الخطاب الديني الذي يستخدمه تنظيم داعش، والالتفات عن الكيفية التي يبرر فيها المتحدثون باسم داعش جرائمهم، هو مشابه تمامًا لعزو الرائحة الكريهة القادمة من حاوية القمامة إلى الرسومات الموجودة على الحاوية.
المفارقة الجميلة، هي أن القرآن يحذر من الطبيعة المغرية للخطاب الديني، حيث يأتي القرآن الكريم بأحد التعاليم الدينية الأساسية التي تحض على تجاهل الخطاب الديني المبهرج والتركيز على الأفعال {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ والله لا يحب الفساد وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ{ (البقرة من 204 حتى 206).
إن التحليل الذي يبحث في وضع داعش الحالي ومساعيها المستقبلية، وينظر إلى الإسلام كمصدر لسلوك هذه الفئة، هو تحليل مضلل وضار، كونه يخفي الأسباب الجذرية التي تبحث في سبب نشوء داعش والقاعدة وأنصار بيت المقدس والمجموعات المتشددة الأخرى التي نشأت وماتزال، إن هذا الربط يخلق مزيدًا من الارتباك ويساهم في تعزيز الشعور بالرهبة من الدين الإسلامي المتزايد لدى الغرب “الإسلاموفوبيا”، وعندما تغطي هذا الخوف بستارة أكاديمية، فإنك تعمل على تعزيزه بدلاً من تسخيفه.
المصدر: ميدل إيست آي