من كل القادة الأمريكيين الذين اغتيلوا في ستينيات القرن الماضي، يعتبر مالكولم إكس – والذي إغتيل قبل خمسين عاماً- أكثر اللذين تحسنت صورتهم بعد وفاتهم . فهو الزعيم الثوري المناضل لحقوق الأمريكان السود ولا يفوقه أحد في هذه المكانة سوى مارتن لوثر كينغ ومع هذا فإن كان كينغ هو زعيماً أمريكياً من أصول إفريقية فمالكوم إكس يعتبر نفسه إفريقياً مسلماً قبل أن يكون أمريكياً ولذلك يجد مصداقية أكبر في شوارع أمريكا التي مازالت تعاني من العنصرية والتمييز والعنف المسلح، فضحايا الأحداث العنصرية في فلوريدا وفورغيسون لم يقولوا “لدي حلم” كما كان يقول كينغ بل قالوا “على الوطنية أن لا تعمي أعيننا عن رؤية الحقيقة، فالخطأ خطأ بغض النظر عمن صنعه أو فعله” كما كان يقول مالكوم في خطاباته النارية .
ولد مالكوم ليتل، في مدينة ديترويت من أسرة فقيرة، حرق بيتها وقتل عائلها في حادث عنصري بشع من قبل عصابة من البيض، قيل أنهم هشموا رأسه وقطعوه نصفين كعقاب له بسبب تواجده في منطقة للبيض. بدأت أحوال الأسرة تتدهور، فباتوا يعيشون على الصدقات والمساعدات الإجتماعية التي تقدمها الدولة لهم، كانت أحول الأسرة صعبة للغاية وخاصة بعد رفض شركة التأمين دفع مبغ تأمين حياة والد مالكوم فإنهارت أمه ولم تتمكن من إحتمال أعباء تربية أطفالها الثمانية.
أصيبت أمه بإنهيار عصبي حاد مما أدخلها في مصح للأمراض العقلية وشتت الحكومة أبنائها بين المدن الأمريكية المختلفة، تبنت أسرة من البيض مالكوم الصغير ودخل مدرسة كان هو الأسود الوحيد فيها. هناك في تلك المدرسة ظهرت نباغة مالكوم الذي كان دائماً من الثلاث الأوائل رغم أنهم كانوا دائماً يسخرون منه ويحتقرونه، حتى أن أستاذه المفضل قال للصف يوماً “ماذا تريدون أن تصبحوا حين تكبرون؟”، فأجابوا فشجعهم بدوره وأثنى عليهم. حتى جاء دور مالكوم الذي قال أنه يود أن يدرس القانون كي يصبح محامياً فقام الرجل وضحك منه قائلاً له أن أمثاله لا يصلحون لهذه المهن، كن نجاراً أو طباخاً فهذه مهن السود وهي أفضل لك.
غير هذا الموقف الكثير في عقلية مالكوم الذي قرر أن يترك المدرسة ويذهب للعيش مع أخته، وهناك تغيرت حياته فلم تكن لديه رغبة في الدراسة بل في كسب المال بكل الطرق الممكنة، فعمل نادلا في إحدى المطاعم ومساح الأحذية في النوادي الليلية وعمل كموظف في القطارات ثم تدرج نحو حياة الطيش والمخدرات والسرقة وظل على هذه الحال حتى قبضت عليه الشرطة وحوكم بالسجن عشر سنوات، في قضية لسرقة منزل لا تتجاوز فترة السجن فيها للبيض بالسنتين أو الثلاث كأقصى حد.
في بداية أيامه في السجن كان مالكوم كعادته متمرداً حتى تعرف على صديق له أرشده للمكتبة، فقرر أن يستفيد من وقته ويعوض ما فاته من تعليم في سنوات طيشه. إنعكف مالكوم على القراءة، كانت البدايات صعبة بسبب ضعفه اللغوي وعدم قراءته لكتاب منذ الصف الثامن، ولكنه قرر أن يبداء من القاموس فتعلمه وحفظه وأعاد كتابة كلماته في دفاتره ليحسن خط يده، ثم طالع الكثير من الروايات قبل أن يتخصص في الكتب التي كان يسميها “الكتب الجادة” والتي تتحدث عن التاريخ والأحياء والجيلوجيا وعلم الإجتماع وغيرها من العلوم.
خلال تلك الفترة إعتنق الكثيرون من أسرة مالكوم الدين الإسلامي على يد شخص كان يدعى إليجا محمد صاحب جمعية “أمة الإسلام” والذي إدعى أنه نبي مرسل للسود فقط ليخلصهم من عذابات البيض، عمل إخوة مالكوم جاهدين ليقنعوه أن يعتنق هذا الدين الذي يحرم الخمر ولحم الخنزير والتدخين وممارسة الجنس خارج العلاقة الزوجية، وبعد شهور من رسائلهم قرر مالكوم أن يعتنقه ويبحث عن حقيقة تعاليم إليجا محمد فكتب له رسائل من سجنه وكان إليجا يرد على كتاباته ويجيبه على إستفساراته ويدعوه لتقوية إيمانه.
خرج مالكوم من السجن مبكراً بعد عفو صدر بحقه بسبب دعوته المكثفة للسجناء لإعتناق الإسلام الأمر الذي لم يرق كثيراً لإدارة السجن، بعد أن أطُلق صراحه قرر أن يذهب إلى أخيه في ديترويت وهناك إنخرط في جمعية إليجا والتي كان هدفها الحقيقي هو تخليص السود من ديانة البيض (المسيحية) وإقامة نظام حكم خاص بهم هم فقط بعيداً من ظلم أمريكا لهم.
تدرج مالكوم في “أمة الإسلام” حتى أصبح الرجل الثاني فيها بعد إليجا، الأمر الذي أكسبه حرية أكثر في إتخاذ القرارات، فكان هو المتحدث الرسمي للحركة والشخصية الأبرز فيها حيث كانت القنوات والصحف والراديوهات تستضيفه بشكل مستمر ليشرح ما الذي يجعل هذه الحركة أقوى من غيرها من الحركات التحررية للسود في أمريكا.
كانت الصورة النمطية للرجل الأمريكي الأسود مختلفة عن تلك التي كان مالكوم يحاول إيصالها، ففلسفته كانت (أو بالأحرى فلسفة الجمعية التي ينتمي إليها) قائمة على أن السود لا يمكنهم أخذ حقوقهم المدنية المصونة في الدستور الأمريكي في ظل نظام سياسي عنصري لا مكان فيه للسود ليعبروا فيه عن رغباتهم، لم يكن ينادي للحرب او لممارسة العنف كوسيلة لهذه الغاية ولكنه في نفس الوقت لم يكن يؤمن بالإنبطاح أمام الدبابات، بل كان يؤمن بالدفاع عن النفس حيث أن الدولة لا ترغب أو لا تستطيع الدفاع عن السود أمام وحشية البيض، كان يريد نظام حكم ذاتي للسود بعيداً عن الرجل الأبيض الذي لا يؤمن إلا بمنهج القوة والتعالي والبطش.
شخصية مالكوم القوية أكسبته الكثير من المتابعين فلقد كان يتحدث بثقة وإتزان وكانه دكتور محاضر في إحدى جامعات أمريكا المرموقة، لم يكن عاطفياً في حديثه بل كان متزناً مقنعاً لمن يستمع إليه، كان يستحضر أمثلة تاريخية كثيرة تدل على عمق ثقافته ولباقة فهمه، فذاع صيته وفتحت كل القنوات أبوابها له ليناظر من يشاء ويشرح فكره كما يشاء.
ولكن وبعد سنوات، أصبحت علاقته بإليجا محمد تتسم بالحذر والشك، إذ أن الرجل المسن والمريض إليجا أحس بالغيرة الشديدة من تلميذه المفوه رغم أن مالكوم كان دائماً يشيد بأستاذه ويمدحه ويقول هذه تعاليم إليجا وما أنا إلا تلميذ صغير من تلاميذه. أصبحت العلاقة أكثر تشنجاً وخاصة بعد أن وصل إلى علم مالكوم أن إليجا ليس كما يظنه فهو يعاني من مشاكل قضائية كثيرة أهمها أن سيدتين إدعتا أنه غصبهن على مضاجعته وحملتا منه.
بعدها قرر مالكوم أن يبحث عن الإسلام الحقيقي البعيد عن نفاق إليجا، فقرر الذهاب للحج مستلفاً من أخته؛ إذ أنه رغم شهرته وكثرة سفره ومحاضراته إلا أنه كان يضع كل أمواله في خدمة جماعة أمة الإسلام ولم يكن يدخر إلا ما يعول به أسرته. بعد ذهابه للحج تغيرت صورته للإسلام، هذا ليس دينا للسود فحسب بل هو دين للبشر كلهم، أدرك مالكوم أن عليه إعادة النظر في كثير من معتقداته وفلسفته القديمة للحياة.
بعد عودته قرر الحاج مالك شباز أن يدعو إلى دين الإسلام الحق، دين التسامح والأخوة بعيداً عن خزعبلات إليجا محمد وجماعته العنصرية، مما أشعل الحرب بينه وبين أستاذه الذي قرر طرده من أمة الإسلام وهدده بالقتل إن لم يتوقف عن تشويه صورة إسلام إليجا، ولكن مالكوم لم يهتم بهذا وقرر أن يدعو لتعاليم الإسلام من التسامح والمساواه فكثر أتباعه من السود والبيض.
خطاب مالكم الجديد لم يكن كسابق عهده، فهو لا يميز بين البشر حسب ألوانهم بل حسب أخلاقهم، ولكن الإعلام الأمريكي غير هو أيضا من نظرته للرجل، وبداء في شن حملة تشويهية ضده فوصفوه بأنه يريد إشعال حرب دينية في أمريكا وبأنه يسعى لإثارة ثورة بين السود. رغم أن هذا ليس ما كان يدعو إليه شباز إطلاقاً، والعجيب أنه عندما كان عنصرياً يطالب بالحكم الذاتي للسود وبولاية مستقلة لهم بأي شكل ممكن؛ كان الإعلام يمجده ويمدحه على أنه ثوري يريد إنقاظ السود، أما مالكوم الجديد والذي يدعي أنه يريد إنقاظ أمريكا من العنصرية من خلال الإسلام فهو شخص متشدد يجب الحذر منه.
أصبح الكل ضد مالكوم، الإعلام والبيض من جهة وجماعته السابقة بقيادة إليجا من جهة ثانية، فكان يتلقى التهديدات بالقتل من كل الجهات، حتى أنه وفي بداية ١٩٦٥ كان واثقاً بأنه لن يعيش إلا لشهور قليلة وطلب من الشرطة حمايته وأسرته ولكن لم يهتموا لطلبه. وفي ١٤ من فبراير تم حرق بيته بأمر من “أمة الإسلام” ولكنه نجى هو وأسرته المكونة من زوجته وأطفالهم الستة بإعجوبة. وبعد إسبوع فقط تم إغتياله واقفاً وهو يحاضر في نيويورك وفي حضور زوجته وأطفاله، حيث إخترقت ستة عشر رصاصة جسده لتختلط الدماء بالدموع ولم يتمكن أحد من إسعافه أو القبض على منفذي الجريمة.
لا يهم من قتل مالكوم، فالرجل الثوري كان مؤمناً بأن التغيير الحقيقي يكمن في تغيير أخلاقيات أمريكا كلها، فلا قيمة من حكم ذاتي للسود إن كانوا هم أيضاً ينظرون للبيض بنظرة عدائية عنصرية ويمارسون نفس الأفعال الإجرامية فالحل أعمق بكثير من حقوقيات كينغ وعنصرية إليجا. بعد وفاة مالكوم نشرت الصحف خبر مقتل “المتطرف” وإستمر الإعلام في طمس صورة مالكوم الثوري الذي ناضل كثيراً من أجل حقوق السود والمستضعفين، والمفارقة هي أنهم صوره على أنه متطرف رغم أنه كان ضحية لتطرفهم وإرهابهم العنصري.
بعد وفاة مالكوم لم ينصفه أحد سوى كاتب سيرته الذاتية أليكس هايلي الذي عمل لسنوات مع مالكوم على هذا الكتاب لنقل قصته وبكل مصداقية بدون تجميل أو تلميع، فبيعت أكثر من 6 ملايين نسخة من السيرة الذاتية لمالكوم إكس في 10 سنوات فقط بعد اغتياله، ويستمر إلى يومنا هذا وبعد مرور نصف قرن ليكون نصاً الثورياً مهماً لكل من يريد أن يغير ويتغير في مجتمع ظالم يحرم أفراده من حقوقهم.
هناك شيء واحد يفرق بين مالكوم وغيره من المناضلين لحقوق السود مثل مارتين لوثر كينغ الذي تحتفل أمريكا بذكرى عيد ميلاده ولا تذكر مالكوم إلا في سطر أو سطرين كشخص متطرف، إن كان كين حالماً بمستقبل أفضل لبلاده كما كان يقول في خطاب واشنطن الشهير، فإن مالكوم لم يكن حالماً بل شهاد بأم عينيه ما يمكن إنجازه لو إستطاعت أمريكا التعلم من الإسلام في تسامحه مع الآخر فلا قيمة للقوانين إن كانت النفوس لا تريد التغيير. فلقد قال بعد عودته من الحج:
“لقد أوسع الحج نطاق تفكيري وفتح بصيرتي فرأيت في أسبوعين ما لم أره في تسعٍ وثلاثين سنة، رأيت كل الأجناس من البيض ذوي العيون الزرق حتى الأفارقة ذوي الجلود السوداء وقد ألّفت بين قلوبهم الوحدة والأخوة الحقيقية فأصبحوا يعيشون وكأنهم ذاتٌ واحدة في كنف الله الواحد.”
وهذه الأخوة هي آخر تعاليمه التي كان يسعى لتغريسها في مجتمعه حتى آخر خطاب له، ففي آخر مقابلة تلفزيونية له وقبل إغتياله بأسابيع حاول مالكوم جاهداً إيضاح نظرته الجديدة قائلاً: “أنا مسلم يؤمن بالإسلام والذي بدوره يعلم مبادئ الأخوة، الأخوة بين جميع البشر، ولكن رغم إيماني بهذه الأخوة إلا أنني لا أغصبها على أولئك الذين ليسوا على إستعداد لقبول ذلك” مشيراً إلى أهمية التعاون بين نسيج المجتمع الأمريكي للخروج من أزمة العنصرية المقيتة التي تدمر البلاد.
اللقاء التلفزيوني الأخير لمالكوم إكس:
Malcolm X on Front Page Challenge (January 5, 1965, CBC) from Mecca_Audio on Vimeo.