لم ينضج الاستغراب في بلادنا، رغم هذا الغرب الحاضر دائمًا، أو قل: بسبب هذا الغرب الحاضر لم يكن ممكنًا، فالمجهودات التي حظيت بالإخلاص كانت مجهودات فردية، وموضوع الاستغراب أوسع من طاقة الأفراد مهما كانوا أفذاذًا ومهما بذلوا من جهود، وأما المجهودات الجماعية فقد وقفت أمامها الظروف السياسية والاقتصادية، ولم تحظ كثير من هذه المجهودات بإخلاص جهات تقف وراءها، فظلت على حال الجمود، وبعضها لم يبلغ مرحلة البدء وظل في عالم الأماني.
ويمكننا تقسيم هذه المجهودات التي لم تنضج إلى ثلاثة فروع: الرحلات إلى الغرب والحركة الثقافية والعلمية، حركات الإصلاح ومواجهة الغرب، المجهودات الجماعية.
إلا أن هذا كله – وإن لم ينضج – يمثل قاعدة متينة وتراثًا وافرة لحركة الاستغراب المنشودة.
1. الرحلات والحركة الثقافية والعلمية
أحصت د. نازك مائة واثنين وأربعين رحالة عربيًا بين القرنين التاسع عشر والعشرين، ذهبوا إلى الغرب وسجلوا رحلاتهم في مؤلفات تبلغ نحو الأربعمائة مؤلف إن لم يكن أكثر، إذ بعض الرحلات دمجت في مؤلف واحد وكان أصلها كتبًا مفترقة [1].
وقد تعددت أسباب الرحلات بين المهمات الرسمية أو البعثات العلمية أو الدراسة أو النفي السياسي أو الدفاع عن القضايا الوطنية أو السياحة، وقد كانت المنافسة السياسية بين فرنسا وإنجلترا وروسيا والنمسا وألمانيا مما يتيح لبعض الحركات السياسية أن تتخذ من هذه العواصم مقرات لها للدفاع عن قضاياها ضد البلاد المحتلة لاسيما مع ازدهار حركة الصحافة وصدور الجرائد، كذلك كانت النهضة العلمية وحركة التغريب مما دفعت بكثير من العرب إلى إكمال دراستهم في الغرب أو حضور مؤتمرات علمية، حتى إنه “من الأعمال الثمانية التي نُشرت في القاهرة خلال السنوات العشر الأخيرة للقرن التاسع عشر والتي تصف بلدان وأفكار أوروبا، كانت خمسة عبارة عن تقارير عن رحلة إلى مؤتمر استشراقي أو معرض عالمي” [2].
ومن بين من ذهبوا من انبهر وافتتن أبدًا، ومنهم من انبهر وافتتن ثم عاد ورجع إلى أصوله، ومنهم من كان على العهد ونظر إلى الغرب معتزًا بذاته ومنطلقًا من هويته. فمن هذا الصنف الأخير – الذين يصدق عليهم وصف المستغرب كما ذكرناه – عدد جميل من أبرزهم: علي مبارك صاحب “الخطط التوفيقية”، وأحمد زكي الملقب بشيخ العروبة، ومحمد المويلحي صاحب “حديث عيسى بن هشام”، ومحمد كرد علي صاحب “خطط الشام”، ومحمد فريد باشا، وشكيب أرسلان الملقب بأمير البيان.
وأما الحركة العلمية الثقافية فمجال واسع فسيح، فكم قد درس شباب من بلادنا في الغرب، وكم منهم تعلموا على يد مستشرقين سواء في الجامعات العربية أو في الجامعات الغربية، بل إن فوجًا ممن عادوا إلى الصف الإسلامي من بعد ما كانوا يساريين وماركسيين مثَّلوا طليعة إسلامية مقاتلة في الساحة الفكرية كجلال كشك ومحمد عمارة وطارق البشري وعادل حسين وعبد الوهاب المسيري وغيرهم، ومنهم من سبق عليه الأجل قبل أن نستفيد من توبته مثل عبد الرحمن بدوي ممثل الفلسفة الوجودية في بلادنا، وواحد من أهم الفلاسفة العرب، الذي كتب كتابيه “دفاع عن القرآن” و”دفاع عن محمد صلى الله عليه وسلم” في أواخر عمره، لكنه لم يترك لنا تراثًا ناقدًا لحضارة الغرب وفلسفته ننتفع به، فقد قضى آخر حياته مريضًا ومعتزلاً في باريس.
2. حركات الإصلاح
وذلك أن الصراع الحالي المستمر منذ قرون جعل كل مُنَظِّر أو مفكر أو مصلح له رأي في الغرب وفي الفارق بين الغرب والشرق وبين الغربيين والشرقيين، وكثير منهم عاش في بعض عواصم الغرب أو مرَّ بها، وكثير منهم له مؤلفات خاصة في تقييم ونقد الحضارة الغربية أو بعض قيمها أو مناظرات مع رجالها. ولكنهم أكثر من رحالة وأكبر من مجرد مفكرين أو مثقفين.
وكان تركيز المصلحين في مسألة الشرق والغرب منصرفًا – بطبيعة الحال – إلى الفوارق بين الحالين، وهم بموقعهم من الإصلاح والجهاد وبسيرة حياتهم لا يُتَّهمون في ولائهم للدين وللأمة، ويُحمل نقدهم مهما كانت قسوته على إرادة الخير وشحذ الهمم لا على التبرؤ والتعالي والافتتان بالغرب كما هو حال غيرهم.
ونحن لا نتوقع أن يكون إنتاجهم في الغرب إلا بقدر كون الغرب تحديًا وعدوًا، فإن أساس انبعاثهم إنما هو الإصلاح أو الثورة أو الجهاد ضد الاحتلال، فلا تثريب أن نجد تجييشًا أو اختزالاً أو تعميمًا قد لا يروق للأكاديميين، فإن الذي يباشر الحرب وينادي تحت ظلال السيوف غير الذي يرقب وينظر ويتابع من بعيد، إنما الذي نبتغيه من تراثهم هو معالجتهم لمسألة الغرب وسر تقدمه وطريق اللحاق به ضمن برامجهم ومشروعاتهم الإصلاحية.
يأتي على رأس هؤلاء جمال الدين الأفغاني، وعبد الله النديم، ومحمد عبده، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وعبد الحميد بن باديس، ورشيد رضا، ومحمد إقبال، وعبد الكريم الخطابي، والبشير الإبراهيمي، وحسن البنا، وسيد قطب، وعبد القادر الجزائري، وعلال الفاسي، ومالك بن نبي، ومصطفى السباعي، وأبو الأعلى المودودي، وأبو الحسن الندوي… وطائفة يطول مجرد سرد أسمائها.
فكتب هؤلاء من الكتب أو الخطب أو الرسائل والمقالات ما فيه خلاصة حياتهم وبرامجهم، وجهادهم الذي كان الغرب أحد أهم ساحاته إن لم يكن الهم الوحيد!
3. مجهودات جماعية
لقد تجلت الرغبة في دراسة الغرب عبر العديد من المؤتمرات والندوات والمراكز البحثية، لكنها لم تصل إلى مرحلة البداية بعد، فإما انفضت المؤتمرات عن غير بذرة، أو بُذرت البذرة لكنها لم تلق الرعاية حتى تنبت، فمن أبرز هذه المجهودات:
1. أنشأت جامعة الإمام محمد بن سعود قسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة منذ عام 1403هـ (1993م)، وهو مقتصر على الدراسات العليا حيث لا بد أن يكون الطالب متخـرجًا في أحد العلوم الإسلامية أو يعطى سنة تأهيلية لإعداده في هذه العلوم ليتمكن من دراسة كتابات المستشرقين، وقد ضم القسم متخصصين بالإضافة إلى العلوم الشرعية في مجال التاريخ وفي الاجتماع وفي الاقتصاد وفي الإدارة والاقتصاد، وتضمنت المناهج الدراسية في هذا القسم دراسة أصول الحضـارة الغربية بالإضافة إلى دراسة اللغات الأوروبية التي من المتوقع أن يكون الطالب متقنا لإحداها [3]، إلا أن الروتين والتعقيدات الإدارية مع عدم وجود رغبة حالت دون تطور هذا القسم أو دخوله مرحلة العمل والإنتاج!
2. عُقدت خلال شهر أغسطس عام 1996م “ندوة أصيلة” السنوية في المغرب تحت عنوان: “الواحـد من منظور الآخر”، وكان حضور هذه الندوة يتكون من أدباء ومفكرين من العالم العربي ومجموعة من الباحثين الأمريكيين، وكان من بين الموضوعات التي طرحت العلاقات بين العالم العربي والغـرب، واتفق المجتمعون على أن العالم العربي تنقصه المعرفة الحقيقية بالغرب فاتفقوا على إنشاء مركز الدراسات الأمريكية في أصيلة نفسها [4]، وجاءت ندوة “أصيلة” لتدعو إلى إنشاء مركز الدراسات الأمريكية؛ فكانت المبررات التي نشرت تتلخص فيما يأتي: “فقد اتفق الحضـور على وجود بعض أشكال من عدم الفهم للعروبة والإسلام في أمريكا وهذا ما يصعّب تقديم قضايا العرب والمسلمين بصفـة جيدة، كذلك اتفقوا بالمقابل على عـدم التفهم العربي الكافي لأمريكا ومجتمعها وعمل إدارتها السياسية”، ورأى المجتمعون أن من الأهداف التي من الممكن تحقيقها من إنشاء المعهد “تقريـب وجهات النظر وتقديم رؤية معتمدة على المعلومات المعـاصرة وليس على الحساسيات التاريخية التي تتحكم بالجانبين”، أما الوسـائل التي سيستخدمها المعهد في تحقيق أهدافه فهي “تقوية الحوارات والاتصالات بين الأكاديميين والصحافيين والعلمـاء والاقتصاديين من كلا الطرفين، كما يطبع الأعمال الثقافية والفكرية التي تخدم كافة أشكال الحوار الحضاري بين الثقافتين العربية والأمريكية” [5]، ومن الملاحظ هنا أن الأهداف فيها نفس استشراقي واضح، وذوبان تغريبي واضح، وتوقُّع أن المشكلة في أنهم يفعلون بنا كل هذا لأنهم لا يفهموننا، ونحن نعاديهم لأننا لا نفهمهم!! وآخر الأخبار المتاحة عن هذا المشروع أنه مايزال تحت التنفيذ.
3. وفي شهر ربيع الآخر 1418هـ (أغسطس 1997م) عقد منتدى أصيلة ندوته السنوية وقرر إنشاء معهد الدراسات الأمريكية بالتعاون مع مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد الأمريكية، وقد حضـر الجلسة الافتتاحية للندوة بندر بن عبد العزيز سفير المملـكة العربية السعودية في الولايات المتحدة وقدّم تبرعًا سخيًا لإنشاء المعهد وكذلك لإنشاء مكتبة مركزية في مدينة أصيلة [6]، ولا جديد كذلك عن هذا المشروع منذ هذا الخبر.
4. وقد عمل الشيخ عبد الله بن بيه على إنشاء وحدة لدراسات الغرب ضمن مؤسسة الفرقان في لندن والتي أقامها أحمد زكي يماني [7]، ولكن لم يُفْضِ البحث عن جديد بشأن هذه الوحدة أو ما أثمرت من أعمال.
5. ونبتت فكرة إنشاء مركز للدراسات الغربية بين مجموعة من العرب في باريس، على رأسهم أحمد الشيخ، ووجدوا صعوبة في إنشائه في باريس، إذ لم يرحب أحد بأن يدرس العربُ الغربَ، وآخر ما وصلنا إليه هو قول صاحبه د. أحمد الشيخ: “المشروع مازال في طور التأسيس،لم ينتقل بعد إلى مرحلة العمل الحقيقي التي نتمناها، المعوقات كثيرة في الخارج وفي الداخل، لكن ما نجحنا فيه حتى الآن هو إعطاء مشروعية لهذا التوجه الجديد” [8].
6. تأسس في أمريكا “معهد الدراسات الغربية” عام 2010، ثم افتتح له فرعًا في الرياض عام 2011، كأكاديمية دولية غير ربحية، وبحسب تصريحات رئيس المعهد د. فهد الحمودي فإن أعمالهم “على الدراسات القانونية ودراسة الأعمال والدراسات الدينية وذلك من خلال أربعة محاور وهي الأبحاث والنشر والتعليم من خلال بعض البرامج لإرسال طلابها واستقطاب أساتذة لإلقاء محاضرات بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية وللتعرف على ثقافة الأديان وتنصب هذه في التوجيهات التي يرعاها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في نشر الحوار والثقافة وفهم الآخر وتقديم صورة مثالية عن المملكة والإسلام وفي المستقبل دول أوروبا”، كما يستهدفون أن يكون هذا المعهد “الرابط بين المهتمين السعوديين والعرب وبين نظرائهم من المهتمين من الدول الغربية، سواء كانوا طلاب جامعات أو أساتذة جامعات أو محامين ودبلوماسيين أو مختصين في مجالاتهم في العلاقات السعودية الغربية” [9].
وبحسب موقعهم على الإنترنت فإن لهم رؤية واسعة وطموحة، كذلك فإن فريق العمل يتنوع بين عرب وأجانب، ولكن لم يصدر عنه حتى الآن سوى كتاب واحد “الثقافة الأمريكية والتنوع الديني” للدكتور فهد الحمودي، ومجلة أعلن أنها ستكون نصف سنوية، لكن لم نجد أثرًا لأي من أعدادها [10].
————————————-
[1] د. نازك سابا يارد: الرحالون العرب والحضارة الغربية ص441 وما بعدها. وهو جمعٌ نادرٌ، وإن فاتها بعضهم مثل: محمد بيرم صاحب السِّفْر الضخم “صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار” (5 مجلدات)، وعلي مبارك صاحب كتاب “علم الدين” (4 مجلدات) وهو قد صيغ في شكل مسامرات أصلها عن مؤتمر الخيال للمستشرقين في باريس.
[2] تيموثي ميتشل: استعمار مصر ص48.
[3] د. مازن مطبقاني: الغرب من الداخل ص4، 5.
[4] د. مازن مطبقاني: الغرب من الداخل ص4.
[5] د. مازن مطبقاني: الغرب من الداخل ص4 (ويقول بأن الخبر على صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 10/8/1996م).
[6] د. مازن مطبقاني: الغرب من الداخل ص4.
[7] د. مازن مطبقاني: رحلاتي إلى بلاد الإنجليز ص100.
[8] لقاء مع د. أحمد الشيخ، برنامج “الاستشراق”، قناة الجزيرة بتاريخ 1/11/2002 (رابط)، بتصرف يسير.
[9] صحيفة الجزيرة السعودية بتاريخ 11/4/2012.
[10] www.westernstudiesinstitute.org