“لا يمكن الحديث عن الثقافة في المجال العربي وعلى مستوى الفكر الإسلامي، من دون التطرق والاقتراب من فكر مالك بن نبي، الذي شغلته قضية الثقافة، وظل مسكونًا بها، ولم يفارقها الاهتمام طيلة حياته، وإسهاماته في هذا الشأن هي الأكثر حضورًا وأهميةً على مستوى الدراسات الفكرية الإسلامية”.
أتى اهتمام مفكرنا بالثقافة وضروراتها في البناء الحضاري لما تشكل من أهمية قصوى في تلخيص تجربة المجتمع ووعيه بذاته ومحيطه، وجاء هذا الاهتمام في زمن بدأ فيه الابتعاد التدريجي عن ما هو ثقافي ودوره التاريخي والحضاري، إلى ما هو سياسي كنظرية وممارسة.
أسس مالك بن نبي في كتابه لمشكلة الثقافة بالتحليل النفسي للمفهوم، مبتدئًا بالماهية، وانطلق نحو تركيب جديد للتعريف بصورة عملية بحيث تحدده مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لا شعوريًّا هذه هي العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه، وتشكل في الفرد طباعه وشخصيته.
فكرة الثقافة
يرى مالك بن نبي أن للثقافة كفكرة حضور في الواقع المجتمعي العام، بدءًا من المجتمعات البدائية حتى الإمبراطوريات، لكنها كانت دون تحديد وتشخيص لواقع اجتماعي، أو بمعنى آخر لم يكن هناك تعريف لفكرة “ثقافة”، ثم جاءت أوروبا الحديثة ومحددها الزمني – عصر النهضة -، فانبثق من ظلال الفترة مفهوم “ثقافة”، وذلك من خلال مجموعة من الأعمال الأدبية النوعية في الفن والأدب والفكر.
اختلفت تعاريف الثقافة باختلاف المناظيرالمدرسية (الغربية والماركسية) من حيث المصدر، سواء كان الفكر أو المجتمع، لكن تعريف الثقافة في المدرستين يتصل بفهم واقع اجتماعي معين موجود بالفعل في نطاق معين، أو موجود في حيز القوة لنطاق فكري معين أيضًا.
أما إذا وضع هذا السؤال في العالم العربي والإسلامي فإنه يأخذ معنى آخر مختلفًا تمام الاختلاف؛ إذ هو يتصل بخلق واقع اجتماعي معين لم يوجد بعد، ما سماه بن نبي بمشكلة اللافاعلية، حيث إن الفكرة والشيء لا تكسبان قيمة ثقافية إلا في ظل بعض الشروط، وهما لا يخلقان الثقافة إلا من خلال اهتمام أسمى، بدونه يتجمد “عالم الأفكار” و”عالم الأشياء”، فإذا ما انعدمت هذه العلاقة لم تعد للفرد سيطرة لا على الأفكار ولا على الأشياء، فهو يمر بها دون أن يتصل بكيانها ويتعلق بظواهر الأشياء دون أن يتعمقها، ويلم بالأفكار بعض إلمام دون أن يتعرف عليها: “فالفكرة والشيء إذن مرتبطان ومتعاونان تعاون الذراع والعجلة في الآلات التي تغير الحركة الأفقية إلى حركة دائرية فالذراع هو الفكرة، العجلة هو الشيء”، وإن المجتمع لا يمكنه أن يولد أو ينهض بشكل سليم حين يمتلك “عالم الأشياء” فقط وإنما هو بأمس الحاجة لـ “عالم الأفكار” الذي يلتمس فيه إخصاب فكره وبواعث ثقافته كمبادئ التجديد والخلق والإبداع: “والذراع هو ولا شك العضو المحرك، ومعلوم أنه لا يستطيع تجاوز ما يطلق عليه “النقاط الميتة” في حركته إذا لم تساعده العجلة على اجتيازها بفضل ما لديها من طاقة مخزنة”.
لقد كان العالم الإسلامي في لحظة مفصلية، لحظة فارقة بين عهد الفوضى الجامدة والجمود الفوضوي، وعهد التنظيم والتركيب والتوجيه، وإن من أول الواجبات تصفية العادات والتقاليد والإطار الخلفي والاجتماعي، ولن تأتى هذه التصفية إلا بفكر جديد يحطم ذلك الوضع الموروث عن فترة تدهور مجتمع ويبحث عن وضع جديد هو وضع النهضة، ويخلص من ذلك إلى ضرورة تحديد الأوضاع بطريقتين:
الأولى: سلبية تفصلنا عن رواسب الماضي.
والثانية: إيجابية تصلنا بالحياة الكريمة.
الأزمة الثقافية
في هذا العالم لا يمكننا أن نعتبر أن الفولكلور هو الثقافة لأنه في أحسن الأحوال جزء منها لا غير، بهذا التماسك من التحليل والتركيب ، يمضي بن نبي إلى تحديد معالم الأزمة بعدم السماح للنشوز عن طريق الضغط الاجتماعي والنقد والاستنكار، حيث تبدأ الأزمة بالتكون عند بدء زوال الجو الثقافي وتعذر تركيب العناصر (فقدان حق النقد، وفقدان الضغط الاجتماعي)، وبيّن أن معدنها إخفاء الواقع باسم الواقعية والانتهازية، انطلاقًا من هذه الفكرة ، شخّص مالك بن نبي على مستوى العالم العربي الحالة بأنها “ما ضد الثقافة” تدليلا على التخلف والذي لا يمتلك بحد ذاته ثقافة؛ بل يتم بتحجيم القيم الثقافية إلى أدنى مستوى ابتداءً بتدنى المستوى الأخلاقي للفرد مؤثرًا على المستوى الاجتماعي، مرورًا بانطواء الثقافة على ذاتها متجه بالحضارة نحو العدم، فالثقافة للحضارة كالدماء للجسد تغذيه وتصنع مناعته.
الثقافة في اتجاه العالمية
كان من ضمن ما افترضه مالك بن نبي أن الثقافة تتحدد أخلاقيًّا وتاريخيًّا داخل تخطيط عالمي، لأن المنابع التي سوف تستقي منها أفكارها ومشاعرها والقضايا التي سوف تتبناها والاستفزازات التي سوف تستجيب لها والأعمال التي سوف تقوم بها لا تستطيع هذه كلها أن تتجمع في أرض الوطن، ولا يتم ذلك فعليًا إلا بتحقيق المستوى الاجتماعي الذي يمكن فيه أن ننطلق لنبني ثقافة تتمتع بالأصالة والعالمية معًا؛ ثقافةً تدلل على ارتفاع المستوى الاجتماعي لأفرادها محليًا و تبذل الحلول الجديدة والمبتكرة لمشاكل العالم.
“لم يعد العالم ينتظر الخلاص على يد العلم، ولكن في أن يُبعث الضمير الإنساني من جديد فالعالم قد دخل في مرحلة لا يمكن أن تحل فيها أغلبية مشكلاته إلا على أساس نظم الأفكار، وفي مرحلة كهذه يتحتم على البلاد العربية والإسلامية أن تولي أكبر قدر من اهتمامها لمشكلة أفكارها، وخاصة تلك البلاد التي لا تملك كثيرًا من أدوات القوة المادية”.