تستخدم الدول الغربية قضية المقاتلين الأجانب فى سوريا بشكل مزدوج لصالحها ولغير صالح السوريين بالضرورة، من ناحية فهم يبررون بطء التدخل العسكرى وعدم فعاليته في الإطاحة بالأسد بوجود المقاتلين الأجانب وتهديدهم لسلامة قواتهم في حالة التدخل البرى غير مبالين بدماء السوريين التى تراق يوميًا ولا بتهديد هؤلاء لمستقبل سوريا كلما طال بقائهم على أراضيها، من ناحية أخرى، تسارع الدول الغربية إلى اتخاذ قرارات بحسم نادر وأناني لحماية مصالحها عبر استصدار قرار ملزم للدول “بالإجماع” من مجلس الأمن بمنع مواطنيها من السفر إلى سوريا واحتواء الخطر الذي يشكلونه على بلدانهم الأصلية، لا يمكن التقليل من خطر المقاتلين الأجانب في سوريا على دولهم الأصلية في حالة عودتهم، لكن من المؤكد أن خطرهم الحالي والمستقبلي على سوريا أشد في حالة بقائهم، من هنا، وبعيدًا عن الدعاية الغربية في هذا السياق، هناك حاجة عربية لفهم هذه الظاهرة واستشراف أبعادها من جهة مساهمة المقاتلين الأجانب المعارضين للأسد في الوصول لاتفاق سلام بين الأطراف الرئيسية في النزاع الدائر، ومصيرهم بعد انتهاء الحرب.
يحلو للغربيين التهويل من الأمر بذكر أن عدد المقاتلين الأجانب في سوريا بلغ حوالي 20 ألف مقاتل خلال 3 سنوات فقط وهو ما يساوى أربعة أضعاف العدد في أفغانستان خلال 13 عامًا منذ 1979 أو في البوسنة والهرسك خلال 3 أعوام من 1992 حتى اتفاق دايتون في 1995، في هذا السياق يتناسى الغربيون أن الحرب الأهلية الإسبانية (1933 – 1936) شهدت واحدة من أكبر المشاركات للمقاتلين الأجانب على الجانبين، حينما شارك أكثر من 50.000 مقاتل من حوالي 14 جنسية مختلفة تتراوح بين الولايات المتحدة الأمريكية وكندا في الشمال إلى فلسطين في المنطقة العربية، إذن فسوريا لم تبتدع هذه الظاهرة، ولا هي ظهرت بشكل مفاجئ أيضًا، حيث لم يكن هذا العدد بهذه الضخامة عند بداية الحرب (11 ألف فى ديسمبر 2013) ولولا تلكأ الدول الغربية في إسقاط الأسد مبكرًا لما وصلنا لهذا الفراغ الذى استدعى الجهاديين لملأه ومن ثم استدعاء الغرب مرة أخرى لهزيمته التي لم تكن منذ غزو العراق.
ربما ينظر السوريون في الداخل إلى المقاتلين الأجانب بنظرة إيجابية لمساهمتهم في جلب الأمن والعدل ومحاربة الفقر من خلال تسيير دوريات الشرطة وتشغيل المحاكم وتوفير الوظائف وتقديم المعونات، لكن هذا في ذاته مكمن الخطر من حيث تمكُن هذه التنظيمات بعناصرها الأجنبية من لعب دور في تقرير نهاية الحرب وشكل النظام بعدها، الأخطر من ذلك هو تشبيع التربة السورية بأفكار تكفيرية ستصعب من إمكان الوصول لاتفاق سلام يتضمن مشاركة للسلطة وتقديم ضمانات للأقليات واعتماد الديمقراطية كنظام سياسي في حدود سوريا الحالية، كلما طال أمد الأجانب في سوريا كلما ازداد توغلهم في المجتمع وتوسدهم لمواقع سلطة لن يتخلو عنها بسهولة.
يهتم الغربيون في دراساتهم للأمر بإحصاء جنسيات المقاتلين الأجانب وطرق تسللهم إلى سوريا وشبكات تجنيدهم داخل بلدانهم الأصلية واحتمالات عودتهم وتطبيقهم لما تعلموه لتنفيذ أعمال إرهابية، بلغ الاهتمام بالأمر لدرجة إنشاء فروع لدراسة هذه الظاهرة في الجامعات ومراكز الأبحاث ناهيك عن المؤسسات الأمنية الغربية فيما يعرف بـ “العائدون من سوريا،” فيما لم ينشأ ما يقابلها من دراسات في سوريا أو العالم العربى لما يجب أن يعرف بـ “القادمون إلى سوريا” و”الباقون فيها” و”الراحلون عنها”، هكذا فرع قد يهتم بأسئلة من نوعية: أين يقبع المقاتلون الأجانب، ومع من يقاتلون وكيف، ومن أجل ماذا؟ أسئلة ستساعد الإجابة عليها في استشراف هذه الظاهرة والتحرز لتداعياتها السلبية وإمكان تلافيها من خلال اعتبارهم عند التفاوض من أجل إنهاء الحرب واستيعابهم في كافة سياسات التهدئة في فترة ما بعد انتهاء الحرب.
لا يشكل المقاتلون الأجانب مشكلة كبيرة أثناء الحرب في العادة طالما يقاتلون جميعًا تحت قيادة موحدة تأتمر بأمر الجبهة التي قد انحازوا إليها، في هذه الحالة يكون هناك انضباط كبير وعدم تناقض في الأهداف بين المقاتلين الأجانب والقوى المحلية وهو ما يقلل من أضرارهم أثناء وجودهم ويسرع من رحيلهم بعد انتهاء الحرب، هكذا كانت المجموعات المسلحة التي تساعد الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية ومجموعات المجاهدين المنضويين تحت قيادة علي عزت بيجوفتش في حرب البوسنة، تظهر هذه الأبعاد بشكل سلبي في الحالة السورية، حيث يشكل توزع المقاتلين الأجانب على فصائل سورية مختلفة ومن ثم انضواءهم تحت قيادات مختلفة ليست بالضرورة متفقة على الهدف النهائي من الحرب ولا على شكل النظام السياسي لما بعد الحرب أحد أبعاد خطر هؤلاء المقاتلين على استمرار أمد الحرب في سورية، لا توجد معلومات دقيقة عن حجم المقاتلين الأجانب في كل فصيل مسلح، لكن بشكل عام تميل الفصائل الجهادية المتطرفة مثل جبهة النصرة وداعش إلى جذب عناصر أجنبية بشكل أكبر، سيشكل تشتت المقاتلين الأجانب بين الفصائل صعوبة في السيطرة عليهم حال انتهاء الحرب، إضافة إلى ذلك فإن تباين مواقفهم من قضايا محورية مثل الديمقراطية والشريعة وتطبيقها، نهاية بتصوراتهم حول حدود الدولة الإسلامية المزعومة سيصعب من القدرة على استيعابهم في أي إطار تفاوضي على سوريا ديمقراطية مستوعبة للجميع في إطار حدودها الحالية.
قد يكون صحيحًا أن التعامل مع مشكلة المقاتلين الأجانب في سوريا سيكون صعبًا وطويلاً، لكنه ليس بالضرورة مستحيلاً، ساهمت العديد من العوامل مجتمعة في نشأة الظاهرة وتفاقمها، ومن ثم يتوقع باختفاء هذه العوامل أن يكون من السهل السيطرة عليها وتقليصها لحدها الأدنى، لا يمكن أن نتجاهل في هذا السياق الداعي الأساسي لوجود المقاتلين الأجانب وهو الحرب، فبتوقف الحرب، ولو جزئيًا، سيختفى السبب الأساسي لوجودهم ومن ثم التمهيد لإخراجهم، بعودة اللاجئين والمهجرين إلى مساكنهم واستئنافهم لأنشطتهم اليومية سيكون هناك كثافة سكانية قادرة على ردع الأجانب في حالة رغبتهم في استمرار القمع والحكم القسري للسكان، مع عودة السيطرة على الحدود سواء من داخل سوريا أو من خارجها بالتنسيق مع دول الجوار سيصعب على المقاتلين الأجانب الدخول إلى سوريا ومن ثم رفع تكلفة الدخول بشكل كبير، قد تتطلب السيطرة على الحدود في سوريا النجاح في هزيمة داعش في العراق أو على الأقل قطع الاتصال بينها وبين حلفائها في سوريا من أجل ضمان استقرار الحدود بين البلدين ومنع تسرب الأسلحة والمقاتلين عبرها في اتجاه أي من الدولتين، هذه العوامل الثلاثة مجتمعة تبث أملاً بأن هذا الكابوس مقترن فقط بالحرب والفوضى وعند حلول السلام سينقشع كما تُذهِبُ الريح التراب.
ستساعد الإجراءت السابقة في تقليص الظاهرة بشكل كبير، لكن رغم كل ما يمكن عمله، سيظل هناك مقاتلون أجانب قد يفضلون الاستقرار في سوريا بسبب العمل أو الزواج من سوريات، لا يجب على الإطلاق توقع اختفاء الأجانب من سوريا لفترة ربما طويلة، حيث حدث ذلك في البوسنة أيضًا عندما تم تجنيس العديد من المقاتلين العرب والأوروبيين تقديرًا لجهودهم في الدفاع عن البوسنة أو لزواجهم من بوسنيات وذلك بعد نزع سلاحهم وإدماجهم في المجتمع، في الحالة السورية قد يبدو هذا معقدًا نظرًا لعدم وجود قيادة مركزية للثورة تتيح التحكم في هذه العملية وعدم خضوع المقاتلين الأجانب لقيادة موحدة تضمن خضوعهم لأي اتفاق ملزم، كقاعدة عامة، كلما قل الطلب على المقاتلين الأجانب، وارتفعت تكاليف دخولهم واستقرارهم، وقلت فترة إقامتهم وارتباطهم بالسكان، كلما سهلت إدارة قضاياهم والتخلص منهم لاحقًا.
تبدو المشكلة السورية مع المقاتلين الأجانب أكبر وأعوص من مشكلتهم مع دولهم الأصلية بعكس ما يصورة لنا الاعلام الغربي، على الرغم من أزمة سوريا الحالية، إلا أنها قد تكون محظوظة لتوافر معلومات ودراسات كافية عن الحروب الأهلية وقضاياها بما يكفي لتقليل الخسائر وتسريع التعافي، حينما يأتي أوانه، من الطريف أنه قبل نهاية الحرب الأهلية الإسبانية بشهور قليلة لم يتوقع أحد أن تنتهي قبل سنوات، ولكنها انتهت، كما كل شيء، تبث هذه الحقيقة المنزوية لوضوحها أملاً بقرب عودة الملايين من المشردين والمهجرين إلى بيوتهم في حمص وحلب وحماة إيذانًا ببدء مرحلة جديدة لا تقل أهمية عن كل ما سبق، وبينما ذلك كائن، يتحسب الغرب لعودة المجاهدين ويعد العدة لذلك ونبتهل نحن لمستقبل أفضل من كل أحلامنا.
نُشر هذا المقال لأول مرة على موقع التقرير