بعد قرابة الأربع سنوات من جلسات سرية وعلنية في قضية اشتهرت إعلاميًا باسم “تصدير الغاز المصري لإسرائيل” حكمت فيها محكمة الجنايات المصرية حكمًا سابقًا بالسجن المشدد 15 عامًا على سامح فهمي وزير البترول في عهد المخلوع مبارك و5 متهمين آخرين من قيادات قطاع البترول، لتأتي محكمة النقض لتلغي ذلك الحكم الذي أدان جميع المتهمين في القضية بعقوبات ترواحت بين 3 و15 سنة في تهم ارتكاب جرائم إهدار المال العام والتربح للنفس وللغير من جراء صفقة أُبرمت لتصدير الغاز المصري لإسرائيل بأسعار أقل من المتعارف عليها عالميًا، وذلك على خلفية تعاقد سامح فهمي وزير البترول المصري الأسبق مع إحدى الشركات الإسرائيلية لتصدير الغاز المصري لمدة 15 عامًا بسعر ثابت طوال مدة التعاقد، وهي نفس القضية المتهم فيها رجل الأعمال المصري الهارب حسين سالم، المقرب من عائلة المخلوع مبارك وأحد صناديقه السوداء التي لم تُفتح بعد.
ومن ثم أعادت محكمة جنايات القاهرة النظر في الحكم الصادر بشأن المتهمين لتصدر حكمها الأخير ببراءة سامح فهمي في هذه القضية بعدما قضى 23 شهرًا في الحبس الاحتياطي على ذمة التحقيقات هو وخمسة آخرين، ولم يشمل حكم البراءة حسين سالم نظرًا لاعتباره هاربًا.
اتفاقية تصدير الغاز المصري لإسرائيل هي اتفاقية وقعتها الحكومة المصرية ممثلة في وزير البترول آنذاك سامح فهمي عام 2005 مع إسرائيل ممثلة في شركة غاز تابعة لها لتحصل إسرائيل على 1.7 مليار متر مكعب من الغاز المصري سنويًا لمدة 15 عامًا تمدد لخمسة أعوام أخرى بسعر ثابت يترواح بين 70 سنتًا و 1.5 دولار أمريكي للمليون وحدة حرارية لا يزيد عن ذلك، على عكس المتعارف عليه دوليًا في أسعار الغاز الذي يصل إلى 2.65 دولار ما يهدر من أموال الدولة أكثر من 10 مليارات دولار لصالح الجانب الإسرائيلي، وهذه جريمة إهدار مال عام مكتملة الأركان، لكن التساؤل كيف نجح سامح فهمي من الإفلات بهذه الجريمة؟
القصة تبدأ من شركة غاز شرق المتوسط المسؤولة عن تنفيذ هذه الاتفاقية والتي هي عبارة عن شركة متعددة الجنسيات، ولكن غالبية أسهمها في يد رجل المخابرات السابق حسين سالم بالإضافة لمجموعة ميرهاف الإسرائيلية وشراكة أمريكية وتايلندية.
أكد دفاع المخلوع مبارك أن الاتفاقية من بنود معاهدة كامب ديفيد، كذلك أكد دفاع سامح فهمي أن وزير البترول لا يستطيع عقد مثل هذه الاتفاقية بدون علم رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، نفى عاطف عبيد في شهادته علمه بأسعار الغاز، وأكد دفاع المتهمين أن القضية من اختصاص نيابة الأموال العامة وليس أمن الدولة، وهكذا ظل التلاعب في القضية حتى صدرت براءة المخلوع مبارك في قضية القرن والتي كان من ضمن اتهامات مبارك فيها هي تصدير الغاز لإسرائيل بأسعار متدنية ولكن جاء في حيثيات البراءة الآتي وهو أمر مهم في فهم كيفية خروج سامح فهمي من هذه القضية.
“بعد تدقيق البحث في جوانب شهادات الشهود وقوام أدلة الثبوت في الجناية رقم 3642 لسنة 2011 قصر النيل، محل المحاكمة والمارة شهاداتهم وهم اللواء ممدوح محمود حسن الزهيري، واللواء عمر سليمان، وإبراهيم كامل، وعبدالخالق عياد، وعبدالعليم عبدالكريم، لم يقطع أو يشر أو يحدد أي منهم ولو في ضعيف القول إلى إنه تناهى لسمعه عن أن المتهم حسني مبارك، قد شارك سواء بالاتفاق أو المساعدة مع وزير البترول الأسبق سامح فهمي، على إسناد بيع وتصدير الغاز المصري لإسرائيل عبر شركة غاز شرق المتوسط المصرية، والتي يمثلها ويستحوذ على أغلبية أسهمها رجل المخابرات السابق حسين سالم، أو النزر القليل أن المتهم رئيس الجمهورية الأسبق قد أبان في أي صورة كتابة أو شفاهة أو بتلميحات أو إيماءات لأحد بوجوب التعاقد مع شركة ذلك الرجل من خلال الأمر المباشر أو خلافه صافعًا الإجراءات القانونية الصحيحة، أو على الأقل محددًا سعرًا متدنيًا للتعاقد لا يتفق والأسعار العالمية السائدة وصولاً ليجني مؤسس تلك الشركة أموالاً أو منفعة دون وجه حق من خلال عمل من أعمال وظيفة رئيس الجمهورية ” هكذا وردت حيثيات براءة مبارك.
خرج مبارك من هذه القضية وبقي التساؤل: من أعطى الأمر المباشر للتعاقد مع هذه الشركة بهذه الأسعار؟
أكد دفاع سامح فهمي بعد ذلك أن الوزارة بالفعل باعت البترول ولكن لشركة مصرية وليست لشركة إسرائيلية استنادًا على براءة مبارك وأورد الدفاع خطابًا من رئيس المخابرات الأسبق عمر سليمان لوزارة البترول يطلب فيه إصدار خطاب تفويض بعمل العقد مع هذه الشركة التي يمتلكها حسين سالم.
حيث قال دفاع فهمي في مرافعته إن مجلس الوزراء الأسبق برئاسة عاطف عبيد، وافق على سعر بيع الغاز، وكذلك الأسعار الواردة في عقد الاتفاق مع شركة البحر المتوسط، التي يمتلكها حسين سالم.
وحينما أصدرت محكمة مبارك قرارًا بتشكيل لجنة فنية للبت في عملية تحديد السعر، أكدت اللجنة أن الثمن الوارد في التعاقد يتماشي مع الثمن الحقيقي وما ما استند عليه دفاع فهمي لإثبات براءة موكله، ولم تتطرق المحكمة في صورة غريبة لقضية الخطاب الوارد من المخابرات العامة برئاسة عمر سليمان بتحديد شركة شرق البحر المتوسط وممن كان يأخذ سليمان تعليماته؟!
أُلغيت قرارات لجنة فنية سابقة أكدت تورط فهمي وقيادات في الدولة في هذه القضية وهو ما أهدر أموال المصريين، وشُكلت لجنة أخرى لتقرر أن هناك ثمة خطأ ما حدث في حسابات اللجنة الأولى وأن التعاقدات مع شركة حسين سالم متوافقة مع الأسعار العالمية.
واستكمالاً للقصة السابقة واستجلاءً للموقف، فقد أوقف حسني مبارك تطبيق بند من بنود معاهدة كامب ديفيد بتصدير الغاز إلى إسرائيل في حالة وجود فائض عن الاستهلاك المحلي نظرًا لعدم وجود فائض يكفي وذلك بالتنسيق التام مع الجانب الإسرائيلي، ومع وجود فائض في الغاز المصري استغلت الحكومة المصرية الفرصة لبيع الغاز، وقد يكون هذا أمرًا طبيعيًا بعيدًا عن السياسة إذا تم البيع بالسعر العالمي ولكن تم البيع لشركة حسين سالم بأبخس الأثمان ليتربح الرجل وسماسرة الحكومة من توصيل الغاز المصري بشراكته الإسرئيلية بإسناد مباشر من الدولة المصرية عن طريق المخابرات العامة التي تخضع لرئيس الجمهورية.
ففي 19 يناير عام 2000 أرسل عمر سليمان خطابًا لسامح فهمي يتضمن طلب تفويض شركة G.M.E شرق البحر الأبيض المتوسط للغاز بعملية تزويد إسرائيل وتركيا بالغاز الطبيعي وذلك لمصلحة البلاد اقتصاديًا وأمنيًا وتم وضع بروتوكول بين وزارات الطاقة والبترول في الدول الثلاث ووضع جدول زمني لتنفيذ هذا المشروع بين الدول من يناير حتى أبريل 2001.
إذن الأمر تم بعلم المخابرات العامة الخاضعة لرئاسة الجمهورية في ذلك الوقت ومن ثم فإن هناك إدانة واضحة.
وقد وافق رئيس مجلس الوزراء في هذا الوقت، عاطف عبيد، على إقامة مشروع شرق البحر الأبيض المتوسط للغاز، كما وافق رئيس هيئة الاستثمار على إقامته وهذه إدانات أخرى أيضًا.
بعد أن اُكتشف الأمر إعلاميًا قضت محكمة القضاء الإداري بوقف قرار الحكومة بتصدير الغاز المصري إلى إسرائيل، وقد طعنت الحكومة على هذا الحكم وقالت إن الأسعار حينها كانت منخفضة وتم تعديلها بعد ارتفاع السعر العالمي وطُبِق الأمر بأثر رجعي وهي نفس رواية اللجنة الفنية الثانية التي شكلتها المحكمة في أثناء إعادة المحاكمة.
وبعد الطعن على الحكم الذي أوقف الحكم استنادًا لعدم اختصاص القضاء بالنظر في هذه القضية مع توصية بمراجعة أسعار الغاز الثابتة لمدة 15 عامًا والممدة لخمسة أعوام أخرى.
ومن بيان اللجنة الفنية التي برأت سامح فهمي ومبارك معًا: أن الاتفاقيات إما أن تكون لمدي قصير أو طويل والاتفاقية محل الفحص كانت 15عامًا، وقد تبين للجنة أن العناصر الواجب توافرها للتعاقدات الخاصة ببيع الغاز الطبيعي بدءًا من سنة 2000 ملتزمة بأحكام القانون والقرارات المنفذة له وتطبيقها على مراحل التفاوض والتعاقد والتنفيذ المبرم بين قطاع البترول المصري وشركة شرق البحر الأبيض المتوسط للغاز (GME) لبيع الغاز الطبيعي لها بغرض تصديره إلى إسرائيل، فقد تبين للجنة نه لا يوجد ثمة عوار شاب تلك الإجراءات.
وعلى هذا تمت تبرئة وزير بترول المخلوع مبارك والذي سبقه في هذه البراءة لتغلق القضية ولا يعلم أحد من أهدر أموال المصريين ولا يعلم أحد لماذا تم اتهام اللجنة السابقة التي اتهمت مبارك وسامح فهمي بإهدار المال العام بحجة عدم اطلاعها على كافة المستندات باعتراف رئيسها أمام المحكمة وكيف اختفت هذه المستندات وظهرت للجنة أخرى، هذا هو اللغز الذي لن يجب عنه أحد في ظل السلطة الحالية التي ويبدو أن القرار جاء على هواها في ظل تحالفها الإستراتيجي مع إسرائيل.