في مفاجأة لمن توقعوا بألا تقبل حكومة اليونان الجديدة تمديد سياسات التقشف لوقت أطول على الشعب اليوناني، توصّل وزراء المالية الأوربيون إلى اتفاق مع اليونان يوم الجمعة الماضية يقضي باستمرار التقشف حتى بداية الصيف، وهي ضربة واضحة لوعود سريزا المنتصر في انتخابات يناير المنصرم، والذي تعهّد بألا يوافق على أي اتفاق يشمل استمرار التقشف، وهو ما يعني ببساطة أن سريزا قد تراجع عن موقفه السابق أمام المؤسسات الأوروبية.
أربعة أشهر من التقشف
وفقًا للاتفاق الجديد، يستمر إشراف الثلاثي المكروه في اليونان، البنك المركزي الأوروبي والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، على سياسات الحكومة اليونانية، بيد أن تلك الخطوة لا تُعَد نهاية للخلاف الأوروبي اليوناني، فهو اتفاق يُبقي اقتصاد اليونان على قيد الحياة بينما يتم التفاوض لاتفاق نهائي بخصوص ديون أثينا، والذي يبدو أنه سيكون تفاوضًا يتمتع فيه وزير المالية اليوناني يانيس فاروفاكيس بموقف أضعف، نظرًا لتزايد الوضع سوءًا داخل اليونان.
ففي الأيام القليلة الماضية، شرع اليونانيون في سحب الأموال من مختلف البنوك بمعدّل 500 مليون يورو يوميًا، وهو ما يعني أن حكومة سريزا كانت تواجه خطر الانهيار المالي الكامل إذا ما فشلت في تأمين الحصول على أموال من البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت، مما استتبع خضوع أثينا لشروط بروكسل وبرلين، رُغم سعي تسيبراس الحثيث لعدم القبول بها تعزيزًا لرصيده في الشارع، ولكي لا يبدو أنه خسر أول معاركه مع أوروبا.
بدوره، أعلن تسيبراس الاتفاق انتصارًا لليونان، رُغم نصه بوضوح على تعهّد السلطات اليونانية بالالتزام بكافة الإجراءات الإصلاحية السياسية والهيكلية، “والامتناع عن أي تغيير أحادي الجانب قد يضر بالأهداف النقدية المرصودة، أو بالتعافي الاقتصادي، أو بالاستقرار المالي، وفقًا لتقييم المؤسسات الثلاثة”.
في مقابل هذا الالتزام بالتقشف، نجحت اليونان في الحصول على بعض التنازلات منها تخفيف الأهداف النقدية التي من المفترض أن تستوفيها، وهي توفير فائض أوليّ قدره 4.5٪ من الناتج القومي، والتي راجعها اتفاق الجمعة الماضية إذ نص على أن “تأخذ المؤسسات بعين الاعتبار الظروف الاقتصادية اليونانية في 2015، في حسابها لأهداف الفائض الأولي”، وهو ما يشير إلى بعض المرونة من الجانب الأوروبي، وإن لم يتحدد بعد الفائض الجديد، والذي يقول فاروفاكيس إنه 1.5٪ طبقًا لخطط حكومته، وهو رقم يظل طموحًا بالنظر لهبوط دخل الدولة من الضرائب التي تهاوت في الأشهر الماضية.
يقول بعض المحللين إن هذه المرونة هي المكسب الرئيسي لليونانيين رغم استمرار التقشف، وهو ما أكد عليه كثيرون في حكومة تسيبراس بما فيهم رئيس الوزراء نفسه، ولكنه مكسب بعيد عما طمح اليونانيون إليه، وصوتوا لسريزا من أجله منذ شهر، وسيضع تسيبراس في موقف صعب ربما مع الأجنحة اليسارية الراديكالية في حزبه، والتي ستعارض الاتفاق الجديد بعد وعودها بإنهاء التقشف فورًا حال وصولها للسلطة.
الأوراق اليونانية والألمانية
من الواضخ بالطبع أن سريزا قد بالغ في وعوده، أو على الأقل في قدرته على تحقيقها سريعًا، وهو ما يعني أن قبوله بالاتفاق واعتباره انتصارًا له إشارة على انتقاله من شوارع أثينا إلى أروقة المفاوضات الأوروبية، وبالتالي تبنيه رؤية أوقع لحل الأزمة اليونانية، فكما قال بعض المحللين، لا يُعَد الاتفاق خطوة للوراء فيما يخص رفض التقشف، بقدر ما هو خطوة للوراء من جانب تسيبراس بخصوص خطابه، إذ يدرك الآن أن خطواته يجب أن تكون أكثر هدوءًا مما كانت عليه في السابق بعد شهر في السلطة وأسابيع من المفاوضات المكثقة في برلين وبروكسل.
من البداية، لم تمتلك الحكومة اليونانية القوة الكافية في مواجهة المؤسسات الأوروبية، وكانت ورقة الضغط الوحيدة هي ترك السوق الأوروبية برمتها والعودة إلى الدرخما، وهي ورقة تُبقيها أثينا كحل أخير، ولم يكن متوقعًا أن تقوم بها بعد شهر واحد فقط في السلطة، لاسيما وقد وعد سريزا في حملته الانتخابية أن يُبقي على اليورو، كما يؤيد معظم اليونانيين البقاء في اليورو رُغم رفضهم سياسات التقشف.
ومع ذلك، ومن منظور اقتصادي، كانت خطوة كهذه لتكون أفضل للاقتصاد اليوناني من الاستمرار في التقشف، والذي لم يجلب سوى انخفاض بنسبة 25٪ في الناتج القومي، وأوصل نسبة الدين للدخل القومي إلى 175٪، ولعل الأرجنتين مثال جيد هنا، إذ قامت عام 2002 بتجاهل صندوق النقد الدولي وكافة شروطه، ومضت في سياساتها الاقتصادية الخاصة، ولكن البقاء في اليورو كان القيد الأساسي على اليونان في مفاوضاتها، وهو ما جعلها تقبل بالاتفاق الجديد في النهاية، أضف إلى ذلك الوضع الإستراتيجي الحرج الذي قد تتعرض له إذا ما خرجت الآن من اليورو وتهاوى اقتصادها بشكل لا يسمح لها بالإنفاق العسكري المطلوب للحفاظ على التوازن مع تركيا.
من ناحيتها، كانت ألمانية حريصة على ألا تترك اليونان السوق الأوروبية نظرًا لأهميتها، لاسيما وأنها إن لم تخسر اقتصاديًا ستخسر على المستوى الإستراتيجي لصالح روسيا، إذ تمتلك اليونان واحدة من أفضل جيوش أوروبا وقواتها الجوية، كما أن الكرملين يتمتع بأنصار كثر في الساحة السياسية اليونانية، خاصة وهناك روابط ثقافية عديدة من اليونانيين والروس، وبالنظر للوضع الحرج الآن في شرق أوروبا، لم تكن برلين على استعداد لفقدان رصيد أوروبي جديد.
من ناحيته، كان وزير المالية الألماني فولفجانغ شويبه على يقين بأن عدم قدرة اليونان على إبراز ورقة الخروج من اليورو يجعلها في موقف ضعيف للغاية، وهو ما دفعه لتشديد موقفه والضغط على اليونان لاستمرار التقشف، وهو ضغط لم تملك أثينا حياله سوى القبول به مقابل تنازلات طفيفة تحفظ ماء وجه تسيبراس في الداخل، وهو ما دلل عليه بوضوح طلب فاروفاكيس تمديد الخطة الأوروبية في الأيام الأخيرة، لتفادي انهيار القطاع البنكي في اليونان.
بين الواقع والحلم
على المدى البعيد، يمكن القول إن حكومات اليونان السابقة كانت مُذنبة بشكل رئيسي نظرًا لاقتراضها بشكل مُفرط منذ دخولها اليورو عام 2001، وهو ما أوقع بلادها في المأزق الحالي حتى بعد أن رُفِعَت عنها الكثير من الديون، وهي ديون لا تملك الدول المانحة تخفيفها أكثر من ذلك نظرًا لمسؤوليتها المالية أمام مواطنيها، والذين يرفض الكثير منهم الإنفاق أكثر من ذلك للإبقاء على اليونان.
بدورها، من المنتظر أن تقدم الحكومة اليونانية حزمة من الإصلاحات الاقتصادية للثلاثي ليتم تبني الاتفاق رسميًا واستمرار دوران عجلة الاقتصاد اليوناني، وهي إصلاحات يجب أن يضعها تسيبراس بعناية لتستطيع تحسين الأوضاع، لاسيما القدرة على جمع الضرائب بشكل أفضل من طبقة الأثرياء التي تتفادى معظمها الضرائب، وأبرز هؤلاء ملاك السفن المعروفين والعائلات الرأسمالية الكبرى.
إذا ما نجحت تلك الحكومة، وبشعبيتها الحالية، في اتخاذ هذه الإصلاحات، وتحسين حالة الاقتصاد اليوناني، فإنها تباعًا ستتمتع مع الوقت بموقع أكثر قوة للتخلص من شروط التقشف بشكل أسرع كما أرادت، “هي خطوة صغيرة في الاتجاه الصحيح”، كما قال فاروفاكيس، و”خطوة واقعية” كما قال شويبه، والذي صرّح، في حديث ضمني للحكومة اليونانية، بأن الحلم شيء، والواقع شيء آخر أقل جمالًا ربما.