بدأت القصة عندما قرر مهندس المعلوماتية في مصالح بنك “إتش إس بي سي” إيرفيه فالسياني أن یكشف للعالم ما اکتشفه من حجم التهرب الضريبي في مختلف دول العالم، تهرب أسسه ساسة ورجال أعمال وأصحاب نفوذ بل وتجار سلاح أيضًا.
هذا المهندس الذي ولد في مونت كارلو سنة 1972 عمل في البنك المذكور، والتحق به من سنة 2001 إلى 2008، شاغلاً مهمة تنظيم الحسابات وتطوير الحماية الرقمية للنظام المعلوماتي للبنك، وخلال عمله، رصد عمليات مالية مريبة من مختلف دول العالم، الفقير منها قبل الغني، بلغت ما بين نوفمبر 2006 إلى 31 مارس 2007، أي أقل من ستة أشهر أكثر من 180 مليار يورو.
وقوفه على تهريب الأموال وخاصة من الدول الفقيرة دفعه لتسجيل حسابات تهم مائة ألف شخصية و20 ألف شركة، محاولاً بعد ذلك إعلام السلطات السويسرية بما يقوم به البنك من مساعدة الزبائن على التهرب الضريبي، لكن لم يجد استجابة، وتوجه إلى بيروت في محاولة منه للفت الانتباه من هناك، لكن لم يجد استجابة .
استخدمت الحكومة الفرنسية تلك الوثائق لملاحقة المتهربين من الضرائب وتشاركتها مع دول أخرى في العام 2010؛ ما أسفر عن ملاحقات قضائية عدة بحق المتهربين قبل أن تحصل صحيفة لوموند على المعطيات المصرفية لأكثر من مائة ألف من عملاء المصرف ووضعت المعلومات في تصرف الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين في واشنطن، الذي تقاسمهم بدوره مع أكثر من 45 وسيلة إعلامية حول العالم؛ لتنطلق أكبر عملية تقصي صحفي دولي دامت لأشهر؛ كُللت يوم 9 فبراير بإطلاق هاشتاج سويسليكس (نسبة إلى ويكليكس) وما تبعها من نشر نتائج دراسة هذه التسريبات فكان الزلزال في أكثر من دولة.
النيابة العامة في تونس تفتح تحقيقًا قضائيًا
أذنت النيابة العمومية، يوم الأربعاء 11 فبراير 2015، بفتح بحث تحقيقي ضد كل من سيكشف عنه البحث عن قيامه بغسل الأموال ممن استغل التسهيلات التي خولتها له خصائص وظيفته أو نشاطه المهني أو الاجتماعي في فتح حسابات سرية في سويسرا وتهريب أموال تقدر بالمليارات.
وأكد الناطق الرسمي للنيابة العمومية سفيان السليطي، في تصريح لوسائل الإعلام أن قاضي التحقيق الأول في القطب القضائي المالي تعهد بالملف.
وأشارالسليطي إلى أن العقوبة تتراوح من 5 إلى 10 سنوات سجن وغرامة مالية من 10 آلاف دينار إلى 100 ألف دينار، وذلك حسب القانون 75 من سنة 2003 المؤرخ في 10 ديسمبر 2003، هذا ويمكن رفع مبلغ الغرامة إلى ما يساوي قيمة الأموال التي تمثل موضوع الغسل.
وبحسب المجلة الإلكترونية التونسية “اينكيفادا” فإن 256 عميل مولودين في تونس أو يقيمون فيها أو يحملون الجنسية التونسية، فتحوا 679 حساب في الفرع السويسري للمصرف البريطاني لعلّ أبرزهم بلحسن الطرابلسي (الهارب في كندا) وهو شقيق ليلى الطرابلسي زوجة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي (أكثر من 22 مليون دولار)، ومحامي الأعمال سمير العبدلي الذي ترشح للانتخابات الرئاسية التونسية الأخيرة، ورجل الأعمال طارق بوشماوي شقيق وداد بوشماوي رئيسة المنظمة الرئيسية لأرباب العمل (الأعراف) في تونس (أكثر من 48 مليون دولار) بالإضافة إلى رجل الأعمال منصف مزابي (أكثر من 9 مليون دولار).
قطاع الألماس في بلجيكا يترنح من جديد
في نفس السياق، تعرّضت سوق الألماس في مدينة انتورب البلجيكية إلى هزّة عنيفة بعد كشف صحيفة لوسوار البلجيكية التي شاركت في تحقيقات سويسليكس عن ما لا يقل عن 916 عميل للبنك المذكور ممن ينشطون في قطاع صناعة الألماس من مجموع قرابة 3000 بلجيكي وردت أسماؤهم في لوائح أصحاب الحسابات المغلقة.
لم تكن فضيحة سويسليكس الأول من نوعها التي تهز قطاع الألماس الذي يمثّل 5 بالمائة من مجموع صادرات بلجيكا عمومًا و15 بالمائة من مجموع صادراتها خارج الاتحاد الأوروبي، فقد سبق وظهرت إلى العلن أكبر القضايا منتصف سنوات الألفين وتعلّقت بواحدة من أهم الشركات وهي “أوميغا دايموندز”، التي فر قادتها الثلاثة من بلجيكا بعد المعلومات التي كشفها الموظف السابق ديفيد رنو عن استيرادها ألماسًا بقيمة تبلغ مليارات اليورو من بلدان شهدت نزاعات طويلة خصوصًا أنغولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية من خلال الالتفاف على القيود المفروضة على المستوى الدولي مثل عملية كيمبرلي (أداة دولية تأسست في 2002 وتتولى السيطرة على صادرات الماس الخام عبر العالم) من خلال عدم التصريح بعائداتها، وكتبت صحيفة لوموند الفرنسية في سلسلة مقالاتها حول سويس ليكس “بحسب الدولة البلجيكية تدين أوميغا لها بمبلغ ضخم قدره 4.6 مليار يورو”، بحسب فرانس برس.
وبحسب الوكالة الفرنسية أ.ف.ب، ضبطت مصلحة الضرائب في مقر المجموعة 125 مليون دولار من “ألماس الدم” Blood Diamond، المستخرج من القارة الأفريقية ويباع بشكل خارج عن القانون ويغذي العديد من النزاعات، ووافقت إدارة الضرائب في 2013 على إغلاق جزء من الملاحقات مقابل استعادة 160 مليون يورو.
وتفيد وثائق إتش إس بي سي المتهم في بلجيكا وكذلك في فرنسا بالتهرب الضريبي وتبييض الأموال، أن الممارسات غير المشروعة انتشرت على كل المستويات في مركز أنتورب لتطال مسؤولين في مختلف البورصات التي يتم تبادل الألماس فيها وحتى في مركز أنتورب العالمي للألماس، وهكذا اضطر سانتوش كيديا وهو تاجر ألماس في أنتورب من أصل هندي لترك لجنة الإدارة بعد ورود اسمه في سجلات مصرف إتش إس بي سي التي حصل عليها القضاء البلجيكي.
وقد أعربت قاضية تحقيق وجهت اتهامات إلى إتش إس بي سي للخدمات المصرفية الخاصة بارتكاب تهرب ضريبي خطير وتبييض أموال، عن إمكانية إصدار مذكرات توقيف دولية بحق مديريه، معتبرة أنه حان الوقت كي يتعاون المصرف.
المحافظون مُحرجون في بريطانيا
صحيح أن الفرع الذي تعلّق به الفضيحة موجود في سويسرا، إلا أن البنك الأم هو بريطاني؛ وهو ما جعل الملف ملف رأي عام وحوّله من ملف اقتصادي جبائي وقضائي بحت إلى موضع للمزايدات السياسية خاصة وأن المحافظين في عهد رئيس الحكومة الحالي ديفيد كاميرون، عيّنوا ستيفن جرين المدير السابق للبنك، في مجلس اللوردات كوزير للتجارة حتى سنة 2013، وهو الأمر الذي تم توجيه انتقادات عنيفة بسببه لحزب العمال، إذ كان حاكمًا في 2010، وهو الأمر الذي جعل بعض الأحزاب الأخرى تنتقد هذا الأمر، كون حزب العمال لم يعارض تعيين جرين أثناء فترة حكمه.
وبالإضافة للتراشق بين الأحزاب، اندلع جدل سياسي في بريطانيا حول ممارسات إتش إس بي سي وما إذا كانت السلطات الضريبية المحلية قامت بما يتوجب عليها لملاحقة المتهربين ضريبيًا المحتملين، وقد طلبت لجنة المالية بالبرلمان البريطاني من رئيس المصرف ومديره التنفيذي المثول أمام اللجنة في الخامس والعشرين من الشهر الجاري.
وبحسب مراقبين، بات شعار “مكافحة التهرب الضريبي” مُتصدرًا لقائمة الاهتمامات الانتخابية لمختلف الأحزاب البريطانية التي ستخوض الانتخابات العامة خلال شهر مايو المقبل، والأكيد أن قسطًا وافرًا من الحملات الانتخابية والحملات المضادة ستتمحور حول سويسليكس.
ملك المغرب في دائرة الاتهام
وجدت المملكة المغربية نفسها في قلب معمعة فضيحة سويسليكس، فصحيفة لوموند خصصت لملكها ملفًا خاصًا، في نسختها مدفوعة الأجر، تحت عنوان “جلالة الملك محمد الخامس، صاحب الحساب عدد 5090190103 في HSBC”.
وتطرق الملف إلى إقدام سكرتير الملك الخاص محمد المجيدي على فتح حساب سري باسم الملك يوم 11 أكتوبر 2006، وبلغ رصيده الأقصى في الفترة الممتدة بين خريف 2006 و31 مارس 7.9 مليون يورو، معلقًا بأن هذا الرصيد البخس بالمقارنة مع ثروة الملك الحقيقية تدفعنا للتساؤل حول قانونية حسابه هذا باعتبار أن القانون المغربي يمنع على المغربيين المقيمين في المغرب من أن يمتلكوا حسابات مصرفية في الخارج باستثناء حالات قليلة تستوجب ترخيصًا من مكتب الصرف.
المعارضة المغربية لم تُفوّت الفرصة لتُشير ولو باستحياء إلى تجاوز الملك الذي كان يجب أن يُقدّم المثال في الالتزام بقوانين البلاد التي تمنع امتلاك حسابات بنكية في الخارج إلا في حالات معيّنة لا تشمل حالة ملك المغرب، وهو ما أشار إليه الصحفي علي أنوزلا الذي قال في مقال ورد بعنوان “أسئلة قانونية وسياسية وأخلاقية على ضوء تسريبات سويس ليكس”، إن الكشف عن وجود اسم العاهل المغربي ضمن هذه اللائحة يطرح سؤالاً قانونيًا حول الطريقة التي تم بواسطتها تحويل أكثر من ثمانية ملايين يورو، هي قيمة الحسابات المفتوحة باسم صاحب الجلالة الملك محمد السادس، إلى هذا البنك السويسري.
فالقانون المغربي واضح ويلزم أن يخضع كل تحويل للمال من المغرب إلى الخارج لمراقبة مكتب الصرف الذي يضع شروطًا صارمة تمنع كل تحويل للعملة من الداخل إلى الخارج إلا لأسباب يحددها القانون ليس بينها إيداع تلك العملة في حسابات سرية خارج البلد، ويضاف إلى ذلك أن القانون المغربي يمنع على المغاربة المقيمين في المغرب فتح حسابات مالية خارج بلدهم، ويعاقب بالسجن كل من هرب الأموال إلى الخارج.
وبما أن لائحة عملاء البنك السويسري التي كشفت عنها هذه التسريبات تتضمن اسم 1068 عميل يحملون الجنسية المغربية بلغ حجم ودائعهم 1.6 مليار يورو، يطرح السؤال المحرج حول الكيفية التي ستتعامل بها الإدارة والقضاء المغربيين مع هؤلاء للتأكد من عدم مخالفتهم للقانون المغربي، إذا كانت نفس الإدارة والقضاء غير قادرين على معاملة جميع الأسماء التي يحمل أصحابها الجنسية المغربية الواردة في لائحة التسريبات على نفس قدم المساواة كما ينص على ذلك الدستور المغربي الذي يجعل “القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، والجميع، أشخاصًا ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له.
وختم مقاله ساخرًا مُذكّرًا بخطاب للملك تساءل فيه عن مصير ثروات المغرب قائلاً “في صيف العام الماضي، وبمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لتوليه الحكم، تساءل العاهل المغربي في خطاب موجه إلى الشعب بصراحة وشجاعة نادرتين في مسؤول كبير يوجد على رأس دولة كل السلطات فيها مركزة بين يديه: أين ذهبت ثروة المغرب، ومن استفاد منها؟، ومع الكشف عن هذه التسريبات يطرح سؤال أكبر وأكثر إحراجًا حول ما إذا كان لسؤال العاهل المغربي صدى أخلاقي عند من يطرح سؤالاً يُفترض فيه أنه يملك بعض عناصر الإجابة عنه”.
حجم انتشار تهمة تهرّبه الضريبي، دفعت الملك المغربي لإرسال رسالة إلى جريدة لوموند الفرنسية، يرد فيها على الاتهامات الموجهة له، على خلفية ما يعرف بفضيحة “سويس ليكس”، مؤكدًا أن حسابه في مصرف “إتش إس بي سي” في سويسرا فُتح “ضمن القوانين” المعمول بها في المملكة المغربية.
تونس وبريطانيا وبلجيكا والمغرب لم تكُن سوى عينة لما سببه تسريب بسيط لمعطيات بنكية تُغطي ستة أشهر فقط لفرع بنكي واحد من تفاعلات دولية ومحلية، تضرر الكثيرون من هذا التسريب خاصة الذين انطلقت في حقهم مسارات قضائية تحقيقية سواء كانوا أفرادًا أو حتّى شخصيات معنوية كالحزبين الحاكمين في بريطانيا أو البنك البريطاني الذي تضررت سمعته كثيرًا، والمؤكد أن كثيرون قد استفادوا أيضًا، فلا نُبالغ إن قلنا بأن تأثير هذه التسريبات يرتقي لتأثير الحروب التقليدية من قلب للتوازنات ولعلّنا نكون بحق أمام حقبة من الحروب الذّكية تكون أحد أدواتها تسريبات من جنس سويسليكس.
هذا المقال هو الثاني ضمن ملف “مستقبل القوة” على نون بوست، يمكنكم أيضا قراءة المقال الأول حول حروب الفضاء الإلكتروني