تعتبر المدن بشكلها الحالي ظاهرة حديثة نسبيًا، وكأي ظاهرة اجتماعية، لا نستطيع الحديث عنها إلا بعد إقرارنا بأنها محل تغير وتبدل وتطور مستمر، بعد هذا الإقرار نستطيع أن نتحرر نسبيًا ونبدأ الحديث عنها كمحل وموقع للحياة والتفاعل البشري بشكل لصيق بمن يعيش بها من “ناس” في لحظة ما. هذا المقال هو الأول في سلسلة “المغترب” وهي تهدف بالأساس إلى مراقبة وملاحظة عدد من النواحي والخبرات التي يمر بها شخص ما في محيط المدينة التي يعيش بها ويتنقل فيها بشكل يومي.
تأتي النظرة من خلال عيون شخصية المغترب تحديدًا لعدة أسباب؛ أولاً: لا نستطيع الحديث بشكل واضح عن شخصية المغترب قبل وجود ظاهرة المدينة في التاريخ، حيث إن المدينة كانت شكلاً جديدًا للسكن والمعيشة الإنسانية قد فرضته مجموعة من الاعتبارات الاقتصادية والسياسية.
يرتكز وجود المدينة على تركز إدارة بيروقراطية وسياسية لظهير يحيط بها تحدث به عمليات الإنتاج بالأساس، مما يعني أن وجود المدينة كان بالأساس خلقًا لمساحة من الوساطة بين البشر بأدوارهم المختلفة، وعلى عكس التجمعات السكانية الأقدم المرتبطة بالزراعة، تتسم مساحة الوساطة هذه بالحاجة إلى الحركة الدائمة وإمكانية استبدال أجزائها بأخرى سريعًا وبلا خسائر.
الحديث عن المساحة يوجب الإشارة إلى أنني أعني المساحة بمفهومها الاجتماعي لا الهندسي البسيط، أي أن ما يرمز إليه بالمساحة هنا هو كلية الخبرة الاجتماعية بكافة مكوناتها من أفكار ومشاعر وأفراد وجماعات ومبان وطرق وحتى فراغات ووسائل مواصلات، المساحة هي كلية ما يمكن ولا يمكن فعله في لحظة معينة، هي ناتج تفاعل تاريخي لمكونات النسيج الاجتماعي مع الواقع المادي، وما ينتج عن ذلك من ضبط لحركة الأفراد داخل الهيكل المادي، أو ما قد ينتج من أفكار وأفعال جديدة ردًا الطريقة التي رسمت ورتبت بها المساحة في لحظة ما.
وكطبيعة أي مفهوم اجتماعي، نحن نتحدث عن شيء لا يبارح عملية تكوين وتشكل مستمرة لا تقف، أي أن أي حديث لنا عنها يبقى عن شيء حدث في الماضي لأننا وإذ نقاربها تتغير باستمرار كدأبها.
ولذا عندما نبدأ الحديث عن المغترب، يتوجب علينا أن نفهم أن هذه الشخصية أو التصنيف النظري لم يكن ليتواجد لولا ترتيب محدد لقواعد وطبيعة المساحة تنفرد به المدينة كما نعرفها، فنحن وإن تخيلنا المدينة كمجموعة من النطاقات، كل نطاق يختص كساحة لتفاعل اجتماعي معين تحكمه مجموعة من القوانين المكتوبة والغير مكتوبة، فإن التعامل داخل هذه النطاقات ومعها يستوجب معرفة هذه القواعد والقوانين بشكل ما وتطوير مجموعة من الأدوات الشخصية للتفاعل معها، فعلى سبيل المثال: عند جلوس شخص على مقهى لأول مرة، سيكون من الواضح سواء كان مكانًا يجلس فيه أناسًا يعرفون بعضهم البعض لفترات ممتدة، أو مكانًا قائم على تقديم خدمة لأكبر عدد من الزبائن في أقل وقت ممكن، يتضح هذا للزائر الجديد من خلال رؤيته للطريقة المرتب بها طاولات المقهى وكراسيه، من خلال الشكل الذي يتخذه حديث رواد المقهى مع بعضهم البعض ومع النادل، يستطيع الزائر الجديد أن يستنتج كل السابق فقط من خلال مجموعة من الأدوات كاللغة والمعرفة الكافية بأشكال التفاعل الاجتماعي في هذا السياق، وكلها أدوات لا يمكن الإلمام بها إلا بأن يغمر الفرد فيها بعد فترة من المراقبة، تمامًا كما يتعلم الطفل الصغير الكلام.
فما هي طبيعة الخبرة التي يمر بها فرد مكتمل النمو عند مروره بمثل هذه الخبرة مع افتقاده للأدوات السابق ذكرها؟ هذه هي تحديدًا خبرة المغترب التي يدور حولها الحديث، تتصف حياة المدينة بوجوب الحركة الدائمة والسلسة قدر الإمكان، وعلى مسار الحركة تصبح الأماكن والمستقرات أقرب إلى إشارات المرور؛ نقاط يتوجب التوقف عندها لبعض الوقت لضمان سلاسة الحركة الكلية بداية من البشر وليس نهاية بالأموال والأفكار، تمنع هذه الطبيعة تكون أي نوع من الألفة الحقيقية بين الفرد والأماكن من حوله، لما يحدث لهذه الأماكن من تغير دائم لا يحكمه الأفراد أولاً، ولأن توقف الفرد لمحاولة خلق نوع من الألفة الحقيقية يعني بالضرورة إما أن يعاند تيارات الحركة في المدينة أو أن يقفز خارجها ثانيًا، وكلاهما خيار كفيل بتحقيق صعوبات جمة لحياة هذا الفرد.
إلا أن تيارات الحركة هذه على قدرتها على الغمر والدفع تخلق عند تقاطعها مساحات غير معرفة ولا محدودة، مساحات تتسم بالبينية والحدودية، وتخرق في ذات الوقت المنطق الجغرافي الذي يربط المساحات الاجتماعية ببعضها البعض عند أغلب الأفراد، هذه المساحات هي تحديدًا مفتاح اللغز الذي يدرك من خلاله بعض الأفراد أن تدافع التيارات العمرانية والبشرية لا يتسم بالطبيعة والبداهة المدعاة، وإذ يبدأ هؤلاء الأفراد باللجوء إلى هذه النقاط البينية، تصبح إمكانية فهم الطبيعة المتشابكة لهذه المستويات المتعددة من التيارات أكثر وضوحًا، ويبدأ تحول هؤلاء الأفراد إلى مغتربين بكلا المعنيين الجغرافي والاجتماعي.
يتحدث كل من علماء الجغرافيا والاجتماع عن المغترب على حدة باستخدام مصطلحين مختلفين؛ المغترب في الجغرافيا يعرف بالإنجليزية بـ”Expat”، أي شخص يتواجد خارج سياقه الجغرافي الأصلي (حيه، مدينته، بلده)، أما اجتماعًا فيعرف بـ “Anome”، أي شخص لا يشعر بالانتماء ولا الحاجة إلى التوافق مع مجموعة القيم والقواعد الاجتماعية المفروضة في مجتمعه الأم، شخصيًا، أجد أن ترجمة كلا المصطلحين إلى “المغترب” في العربية ذات دلالة وقاعدة انطلاق لفهم الشخصية التي نتحدث عنها بشكل أوضح، إننا وإذ نعيد تقييم قدرة مجموعة المصطلحات التي أنتجتها العلوم الحديثة كالجغرافيا وعلم الاجتماع على تفسير الواقع؛ نستطيع أن ندرك أن مجموعة المسلمات كالحدود والأرض الأم وما إلى ذلك غير وافية في تفسير الواقع اليومي على الإطلاق، أي أن الحدود على سبيل المثال تصبح معنى ملبسًا بالاجتماعية أكبر بكثير من مجرد خطوط متخيلة على خريطة، وهذا ينسحب على المساحة بطبيعة الحال؛ وبذلك تصبح شخصية المغترب كلاً مركباً يتسم بدرجات متفاوتة من الاغترابين الجغرافي والاجتماعي معًا.
بهذا الشكل نستطيع أن نقارب شخصيات عدد كبير من الأفراد فُرض عليهم التواجد في مساحات غير كافية لغمر عقولهم وخبراتهم على كلا الصعيدين الجغرافي والاجتماعي وحتى الزماني بشكل جديد، عقول استطاعت أن تستبطن حدود وقواعد المساحات بشكل غير معتاد سمح لها أن تطوي مسافات جغرافية وفترات زمانية بما يسمح لها بخلق واقع مختلف وشخصي في نفس الإطار العام الذي تتشاركه مع كل ما حولها من بشر وجماعات ومؤسسات، عقول وشخصيات تمارس اغترابها باستبطانها وخلق مساحات معيشية خاصة بها بشكل يومي في واقع لا يتوقف للنظر.
بعد هذه المقدمة النظرية بالأساس ستستمر السلسلة بشكل أكثر تحديدًا عن طريق مقاربة أوجه عملية لما سبق من الحياة اليومية للمغترب في سياق المدينة تحديدًا، ومن خلال محاولة التعرف على مساحات التقاطع الحدودية بين التيارات والنطاقات العامة السابق ذكرها لتشكل ما يمكن الاصطلاح عليه بـ “اللامكان”.