تحت حراسة أربعة جنود، وفي ضريح من الرخام الأسود، يقبع جسد الرئيس الفنزويلي الراحل هوجو تشافيز، والذي تقول الحكومة إن جسده يجب أن يبقى بهذا الشكل ليكون متاحًا للآلاف من مريديه أن يلقوا نظرة عليه، “إنه أمر صعب للغاية”، هكذا قالت أدريانجيلا يوميني، واحدة من مريدي تشافيز، بينما أخذت تمسح دموعها، “سأظل دومًا مع تشافيز، ومع الشيوعية”.
قد يكون تشافيز بالفعل في قلوب الكثيرين هنا في كاراكاس، والمعروفين بـ “تشافيستاس”، ولكن حب تشافيز على ما يبدو لم يعد كافيًا لتدعيم أركان خليفته، نيكولاس مادورو، سائق الباصات والقيادي العمالي، الذي تعاني البلاد تحت حكمه من تفاقم الفساد، بالإضافة إلى أزمة اقتصادية جراء هبوط أسعار النفط وصلت إلى نقص الأدوية والألبان والمعدات الطبية في السوق، هذا بينما تُحاك خلف ظهره مؤامرات للانقلاب عليه، كما تقول الأحاديث في مختلف أنحاء فنزويلا، وتحوم شكوك حول إمكانية استمراره حتى نهاية مدته الرئاسية، والتي انتزعها بالكاد من منافسه إنريك رادونسكي بنسبة 50.6٪.
أزمة سياسية
في هذه الأيام، يقبع ليوبولدو لوبِز، القيادي البارز في المعارضة وعُمدة إحدى مقاطعات العاصمة كاراكاس سابقًا، خلف قبضان سجون مادورو، بعد اتهامه بإثارة الاضطرابات جراء دوره في احتجاجات فبراير 2014 التي اندلعت العام الماضي وخلّفت 43 قتيلًا، بينما تجري الآن حملة موسعة لاعتقال ومحاكمة بعض القيادات السياسية والإدارية في البلاد ممن يشك مادورو بأنهم سينقبلون عليه، والتي طالت حتى الآن 33 من أصل 50 عُمدة منتمي للمعارضة.
هذا الشهر، وفي ذكرى احتجاجات العام الماضي، يتصاعد التوتر بينما يستمر الرئيس الجديد في حملته القمعية، والتي طالت مؤخرًا عمدة كاراكاس، أنطونيو ليديزمه الموالي للمعارضة، حيث اعتقلته الاستخبارات الأسبوع الماضي بتهمة التخطيط لقلب نظام الحكم، وتنظيم أعمال عنف ضد الحكومة الديمقراطية المنتخبة، وإنزو سكارانو، عُمدة إحدى مقاطعات ولاية كارابوبو، والذي قامت السلطة بتحديد إقامته الشهر الماضي بدلًا من سجنه نظرًا لتدهور صحته.
“أتمنى ألا تنزلق البلاد بهذا الشكل إلى صراع أهلي، نحن في لحظة شديدة السوء، إنها واحدة من أكبر الأزمات التي مرت علينا”، هكذا قال ديفيد سمولانسكي، أحد حلفاء ليوبولدو لوبِز وعُمدة مقاطعة إل هاتيو في كاراكاس، متحدثًا لصحيفة الإندبندنت البريطانية، ومشيرًا إلى هبوط العملة والتضخم الذي وصل إلى 68٪، وتصاعد معدلات الجريمة التي وصلت لـ24.000 حادثة قتل العام الماضي، والفساد الذي يضيّع على البلاد حوالي 20 مليار دولار سنويًا، بالإضافة إلى تحكّم السلطة الفعلي في تجارة المخدرات غير الرسمية، والتي تدر لها المليارات أيضًا.
من ناحية أخرى، يقول أوسكار ألفان، الأستاذ الجامعي والكاتب بصحيفة إل يونيفِرسال، إن الغضب بدأ ينتشر بين بعض الشخصيات في المؤسسة العسكرية تجاه الطريقة التي يدير بها مادورو البلاد، وإنهم قد يخططون للانقلاب عليه، وهو ما دفع مادورو على ما يبدو لاعتقال جنرال سابق بالقوات الجوية منذ أيام، بالإضافة إلى 11 جنديًا.
بطبيعة الحال، لا يمكن لمادورو بسهولة أن يقف بوجه الجيش إذا ما قرر الإطاحة به، لاسيما وهو يتمتع بنفوذ كبير ورثه أثناء حكم تشافيز، ويمكن ملاحظته من المميزات التي يحظى بها، من أندية وفنادق خاصة تقع داخل القواعد العسكرية، ويعيش فيها جنرالات فنزويلا وأصدقاؤهم حياة ترف تاركين البلاد في أزمتها الاقتصادية.
أزمة اقتصادية
ينتج الخلل الاقتصادي الرئيسي في فنزويلا عن النظام الذي تسيّر به صرف العملات، إذ تضع الحكومة قيمتين رسميتَين لسعر صرف الدولار مقابل العملة المحلية، البوليفار، واحدة للواردات من السِلَع الأساسية، مثل الأدوية، تبلغ 6.3 بوليفار للدولار الواحد، وواحدة للواردات العادية، مثل السيارات، تبلغ 12 بوليفار للدولار، علاوة على ذلك، يبلغ سعر الدولار في السوق السوداء حوالي 170 بوليفار للدولار، وهو بالطبع السعر الذي يعكس القيمة الحقيقية للعملة في البلاد.
تباعًا، ونظرًا لذلك التفاوت بين الأرقام الرسمية والفعلية، يتلاعب كثيرون في سوق العملات، ويجنون الملايين؛ وهو ما دفع الحكومة المأزومة على ما يبدو إلى الاعتراف أخيرًا بالسعر الحقيقي، إذ قررت الأسبوع الماضي اعتبار سعر السوق السوداء سعرًا رسميًا ثالثًا لصرف الدولار، لتهبط قيمة البوليفار بنسبة 69٪ في ليلة وضحاها.
يزيد الطين بلة هذه الأيام هبوط أسعار النفط، والذي يشكل 95٪ من واردات فنزويلا، وهو ما يدفع الحكومة الآن لمحاولة رفع سعره في السوق الفنزويلية، إذ يُباع بما يوازي ثلاثة قروش مصرية للتر الواحد (مجانًا تقريبًا)، وهو أمر قد يؤثر على شعبية مادورو بطبيعة الحال، والذي يحاول مؤخرًا الترويج لتلك الخطوة عبر الإعلام، وهي جهود لا يبدو أنها في طريقها للنجاح بالنظر لتأثير الأزمة الاقتصادية الشديد على الحياة اليومية للفنزويليين، والذين يصطفون الآن من الفجر خارج الأسواق للوصول إلى السلع تحت حراسة الشرطة العسكرية التي تمنع وقوع أي مناوشات.
“الأحوال شديدة البشاعة”، هكذا تقول لينا لوروسو، فنزويلية تبلغ 77 عامًا، أثناء وقوفها في طابور بمتجر في كاراكاس، وهو المتجر الثالث الذي تحاول أن تنتزع منه شيئًا هذا اليوم، “أشاهد الناس الآن يضربون بعضهم ويصرخون، كل البضائع تضاعفت أسعارها ثلاث مرات، نحن بحاجة شديدة إلى الدعم”، كذا تحدثت وهي قابضة بقوة على كيس من الفول وعلبة من الحمص.
يقول أمابيليس كاستيو، محلل مالي تابع لبنك دولي في فنزويلا، إن اقتصادها الآن أشبه باقتصاد بلد خرجت لتوّها من الحرب، تضخم شديد، نقص في السلع، إنتاج ضعيف جدًا”.
في وسط هذه الكارثة الاقتصادية والسياسية، يبدو مادورو على حافة الهاوية، كما يقول سمولانسكي، إذ يدرك الرئيس أنه موقفه شديد الضعف، وأن شعبيته منخفضة جدًا، ويقوم باستخدام أكبر عدد ممكن من قوات الشرطة لقمع التظاهرات، والتي ستُنهي حكمه إن سُمِح لها بالخروج على نطاق واسع مجددًا”.
من ناحيتها، تدرك المعارضة الليبرالية أن الأزمة الحالية فرصة تاريخية لطي صفحة تشافيز، وإعادة هيكلة الاقتصاد والنظام السياسي على أسس مغايرة للسياسات البوليفارية التي دشّنها تشافيز منذ وصوله للسلطة عام 1999، بيد أنها لاتزال تعاني من التفكك وغياب أي رؤية لماهية الحراك السياسي المطلوب لتحقيق ذلك، وهي تصر حتى الآن على استخدام التظاهرات وضغوط الشارع لإسقاط مادورو دون أي رؤية واضحة لما بعد ذلك، وهو ما يعني أن الفرصة قد تكون سانحة لأصحاب المصالح من داخل المنظومة في إسقاط مادورو وشغل الفراغ الذي سيخلّفه، ومن يدري، ربما رافعين راية تشافيز البوليفارية.