بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، ثبت للعالم أجمع أن أي دولة في العالم تريد أن تبقى مستقرة وقوية يجب عليها ألا تركز كل سياساتها على الأسايب الأمنية الخشنة فقط، بل يجب عليها أن تقسم سياساتها بين القوة الخشنة والقوة الناعمة، فالقوة الأمنية الخشنة تحتاج إلى قوة ناعمة مثل القوة الاقتصادية والثقافية والقانونية وغيرها لتدعمها وتزودها بالطاقة اللازمة كي تصل إلى قمة النجاح.
الاتحاد السوفياتي كان دائمًا في سباق تسلح مع القطب الغربي وكان دومًا يسعى لبسط نفوذه وقوته على الدول الأخرى بالإكراه وبطريقة عسكرية همجية، علي العكس من القطب الموازي له (أي أمريكا) التي كانت تعطي مجال واسع للقوة الناعمة الجاذبة والتي لا يوجد بها أي إكراه مثل الدعم الاقتصادي والتجارة المتبادلة والفعاليات الثقافية والدبلوماسية والإعلام أي الأفلام والمسلسلات، للسيطرة وبسط النفوذ على أكبر قدر ممكن من الدول الأخرى برضى تلك الدول.
ساعدت هذه التجربة السياسيين الأتراك الحاليين والذين عايشوا هذه التجربة في وقتها في فهم أساليب السياسة بمنظور واسع وإستراتيجي مكّنهم من رسم سياسة جديدة ناجحة لتركيا، استطاعوا من خلالها إخراج مفهوم جديد يحمل اسم تركيا الجديدة، تركيا الجديدة التي تستخدم القوة الناعمة المؤثرة والجذابة كبديل للقوة الخشنة والأمنية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، السياسة التركية الأمنية السابقة كانت تعتمد على مفهوم أن ليس هناك أي صديق للتركي غير التركي، بحيث لا يمكن للتركي أن يثق بأي شخص من غير قوميته، لذا يجب على تركيا أن توفر الاكتفاء الذاتي الاقتصادي لنفسها وتبتعد عن التجارة الخارجية مع الآخرين الذين – حسب اعتقاد هولاء السياسيين – يسعون لنهب تركيا، وأن تهتم بتحصين نفسها عسكريًا، وكان جل الميزانية التركية مخصصة للجيش لحماية تركيا من العالم الخارجي الذي يخطط ليل نهار للقضاء على تركيا، حسب ادعاء الأكاديميين والسياسيين الأتراك في ذلك العهد، عن طريق هذه النظرية كان السياسيون الأتراك يخططون لصنع تركيا قوية، فكيف يمكن لتركيا أن تغدو قوية سياسيًا واقتصاديًا وهي منغلقة ومتخذة جميع العالم عدو لها؟ أدرك السياسيون الأتراك الجدد أن هذا الأسلوب أصبح عفن وما أحضر لتركيا إلا الخسران والضياع، فتركيا بسبب عدم احتوائها على جميع المصادر الاقتصادية لم تستطع تحقيق الاكتفاء الذاتي إطلاقًا وكانت دائمًا تحاول إكمال ميزانيتها من خلال الدين من صندوق النقد والبنك الدوليين؛ مما جعلها ألعوبة في أيديهم وخاضعة لسياساتهم؛ وبهذه الطريقة غدت تركيا دولة ضعيفة جدًا.
السياسيون الأتراك الجدد (حزب العدالة والتنمية) عايشوا هذه الأزمات والعثرات واقتنعوا أن المفر الوحيد منها هو استخدام القوة الناعمة، ومن الأساليب الناعمة التي استخدمتها تركيا لاسترداد عافيتها وقوتها السياسة والاقتصادية:
أولاً: علي الصعيد السياسي، استخدام التاريخ السياسي وخاصة مع دول الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز التي يربطهما بتركيا رابط ديني تاريخي من خلال الدولة العثمانية التي حكمت تلك المناطق لأكثر من 6 عقود، وتحاول تركيا دومًا ربط عواطف تلك الشعوب بها من خلال تذكيرهم بالسلام والأمان والعدل الذين نعمت بهم تلك المناطق أثناء الحكم العثماني، ولزيادة جاذبيتها وزيادة كسب مشاعر أقوام تلك الأقاليم قامت تركيا في الآونة الأخيرة باتخاذ مواقف سياسية مؤيدة لإرادة تلك الشعوب خاصة في الوطن العربي، فعلى المدى القريب قد تبدو تركيا خاسرة ولكن على المدى الطويل سيعود عليها عائد مربح وكبير لأنها تعلم جيدًا أن إرادة الشعوب هي المنتصرة دومًا.
ثانيًا: علي الصعيد الثقافي، منذ عام 2008 تقوم تركيا كل سنة بتنظيم مؤتمر ثقافي كبير بينها وبين إحدى الدول لتأكيد أواصر العلاقة وكسب فرصة تعريف مواطنين الدول الأخرى بتركيا لجذبهم لتركيا، أيضًا تقوم وزراة التربية والتعليم شهريًا بتنظيم مؤتمرات تعريفية بتركيا للطلاب المتفوقين الأجانب لجذب عقولهم وجعلهم يحبون الإقامة في تركيا.
ناهيك عن منح تركيا السنوية التي تقدم لحوالي ما يقارب من 12 ألف طالب متفوق من مختلف أنحاء العالم، فهؤلاء الطلاب إن لم يقيموا في تركيا ويقدموا لها الخدمات المباشرة سيذهبون إلى بلدناهم يهتفون باسمها وينتظرون قدومها لبلدهم لعقد اتفاقيات سياسية واقتصادية تخدم تركيا.
ثالثًا: علي الصعيد الدبلوماسي، كثفت تركيا عضويتها لأكثر من منظمة إقليمية ودولية وقامت بدور الوسيط بين كثير من المتنازعين في المنطقة، وإن لم تنجح في حل قضية معينة إلا أن قبول بعض الدول بها كوسيط جعل لها جذابية قوية في المنطقة.
رابعًا: الإعلام، والذي يعتبر أحد أهم أسلحة القوة الناعمة، ففي يومنا الحالي دين الناس هو الإعلام وما يحتويه، كل ما يقوله الإعلام مؤثر، وتركيا عملت على استخدام هذا السلاح بشكل احترافي ونستطيع أن نرى جميع المسلسلات والأفلام التي تُشاهد في التلفزيون العربي والفارسي والبلقاني والقوقازي أصلها تركي، وجميع هذه المسلسلات والأفلام والدعايات السياحية لها تأثير قوي في جذب جميع المشاهدين لزيارة تركيا للسياحة واستهلاك البضائع التركية لأن التي ينتجها أناس جاذبون بالنسبة لهم
كل تلك الأسلحة الناعمة كان لها تأثير قوي على مشاعر مواطني الدول الأخري لجذبهم إلى تركيا، فكثير من رجال الأعمال وأصحاب العقول النابغة والتجار وجدوا من تركيا حضن جذاب ومناسب للعيش والاستثمار فشدوا رحالهم إلى تركيا واليوم في كل شارع من شوراع تركيا نجد أن هناك أكثر من لغة وأكثر من قومية وأكثر من لون وعرق، على العكس تمامًا من عهدها السابق الانغلاقي، ولكل ذلك مردوده على القوة الاقتصادية لتركيا، حيث تعد تركيا الآن القوة الاقتصادية التاسعة عشر في العالم بعدما كانت في المرتبة الثلاثين، وبالتالي على ظهورها كدولة قوية عظمى في المستقبل.