أذكر أنه عندما كان النظام يقتل المتظاهرين العزل في الشوارع بالرصاص الحي بينما هم يصورونه، ورأى الجميع على الإعلام سلميتهم وإجرامه، سمعت أحدهم في مكان ما يقول “الله لا يسامحهم – أي الثوار – خربو البلد” ويجيبه الحاضرون بالموافقة! حيث إن كل دم يسيل سببه هؤلاء الثوار حتى لو كان دم الثوار أنفسهم! ثم تضخمت تلك التبريرات على امتداد الثورة حتى وصل الأمر بالبعض إلى تبرير ذبح الأطفال بالسكاكين.
مبدأ التبرير هذا لم يقتصر على عموم الناس والذي يلجأون إليه لإراحة ضمائرهم الميتة، بل سمعناه من مشايخ السلطة، حين سُئل أحدهم عن عنصر المخابرات الذي يُجبر المعتقل على الكفر، فكان رده أن المعتقل هو المخطئ ابتداءً بخروجه في المظاهرات! وهذه النظرة التبريرية ممتدة خلال كل طبقات المجتمع على تنوعها، و يكفي أن تستمع إلى الأسد وهو يبرر رمي البراميل المتفجرة على المدنيين بحجة أنهم قنابل، ومن البديهي أن يستخدم الجيش القنابل! وليس ذلك عجيبًا في ذاته بل العجيب أن يُقنع هذا الكلام بعضًا من الناس.
مفهوم جدًا ومقبول أن يختلف الناس في مجتمع واحد وأن يتنافسوا فيما بينهم على مصالح ومكاسب، ولكن أن يتم ذلك بطريقة وحشية سادية تجد القبول والتأييد من عموم الناس أو فئة منهم، فهو المرض بحد ذاته، وتلك إشارة على إفلاس المجتمع أخلاقيًا وثقافيًا.
فمهما تنوع المجتمع واختلفت فيه التوجهات والتيارات، فلا يجب أن يخلو من إطار أخلاقي واحد يحكمه ويرسم شكل الصراع الدائر بين هؤلاء جميعًا، وثقافة المجتمع هي التي تحدد ذلك الإطار، والذي هو حصيلة الأفكار والفهم الديني والحالة السياسية والاقتصادية وغيرها.
الصراع على السلطة لا ينقطع، ولكن آلياته ترينا حجم الهوة في العصر الحالي بين ثقافة مجتمعنا بالتعامل معها مقارنة بالثقافة الغربية مثلاً، فبينما يتم ذلك الصراع في الغرب على صورة تبادل سلمي للسلطة وانتخابات يقرر فيها الشعب ما يريد، تبرز لدينا صورة المستبد المنتصر أو الحاكم المتغلب، وجميعهم يصلون بالقوة ويبطشون بالمنافسين حتى يستقر لهم الأمر، وتجد تلك الحالة ما يفسرها في ثقافة مجتمعنا من الناحية الفقهية على الأقل حين برر بعض الفقهاء سطوة بعض الملوك على السلطة فقالوا بولاية المتغلب.
تبادل السلطة في الغرب بهذه الطريقة ليس نموذجًا مثاليًا، ولا هو أفضل وسيلة لفض النزاعات، ولكنه انعكاس للثقافة السائدة في المجتمع والقائمة على الفردية، وليست الديمقراطية إلا التطبيق السياسي لتلك الثقافة، ولم يتوصل الغرب لتلك الصيغة إلا بعد توافق المجتمع عليها – بغض النظر كيف حدث ذلك – وهو ما يجعلها مثمرة ووسيلة فعّالة لحسم الصراع على السلطة وأي قرار حاسم قد يُختلف فيه، فالمجتمع يخلق قوانينه وآليات تطبيقها بما يتوافق مع الثقافة السائدة فيه، ولا يمكن أبدًا أن تستورد وتركب عليه من طرف آخر.
لا يمكننا بحال من الأحول أن نفصل بين ما نعتقد وما يحدث حولنا، ولا يمكن أن تكون كل تلك الفوضى والحروب من تدبير أعدائنا، فنحن لدينا القابلية لأن نقتل بعضنا وأن نبرر القتل ونرضى به، وأن تكون دماؤنا هي لغة الحوار فيما بيننا، وما تلك التبريرات إلا تعبير ظاهري عن ثقافتنا المشوهة التي تبرر كل ذلك القتل وكل تلك الدماء لمجرد الاختلاف، وقد يكون ذلك مصحوبًا بالأدلة العقلية والنقلية.
ما دامت الثقافة المسيطرة في مجتمعنا هي ثقافة القوة والدماء والغلبة أو التبرير لها على الأقل، فلا الديمقراطية ولا أي نظام سياسي آخر مستورد سيحل مشاكلنا ويحيّد لغة الدماء، فكما أنتجت المجتمعات الغربية نموذجًا سياسيًا نابعًا من ثقافتها لتحل مشاكلها، فيتوجب على مجتمعاتنا من كل بدّ التوصل إلى صيغة نابعة من ثقافتها لحل مشاكلها، ولن يفيدها استيراد أو استعارة أي صيغة، فالديمقراطية ثقافة وليست آلة نتعلم كيفية تشغيلها واستخدامها، ولا أظن ذلك ممكن في ظل الثقافة السائدة.
إن المجتمع الذي رضي بالاستبداد والظلم وبرر له، سيرضى بظلم آخر ويبرر له ما دام يملك ذات الثقافة، وأعني بالثقافة هنا بتفصيل أكبر، كل الموروثات الفكرية والدينية التي تسكن الشعب وتقنعه بالخمول، وتفهمه أن الصبر على الظلم طاعة، وأن الحاكم الغالب هو قدر الله يبتلينا به، وأن لهم الدنيا ولنا الآخرة، إلى آخر ذلك الكم الهائل المتراكم من المثبطات والمحبطات، ما دامت ثقافة المجتمع لم تتطهر من كل تلك الموروثات، فلن تكون قادرة على خلق حلولها أو وسائل تلك الحلول، بل ستعيد خلق الواقع الحالي ولكن بصورة مختلفة، وربما نرى الآن بعض الصور المصغرة عن ذلك الحال.
المصائب الكبيرة تظهر محاسن الشعوب كما تظهر مساوئها، وجميعنا يعلم كمية الدماء التي سالت في أوروبا قبل أن يتوصلوا للغة آخرى يديرون بها حياتهم، لقد هزت كل تلك الدماء الشعوب الأوروبية، وخلقت فيهم وعيًا بضرورة إنهاء ذلك الصراع الدموي وإيجاد طريقة آخرى للتواصل، ولا أدري كم من الدماء نحتاج حتى ندرك تلك الحقيقة!