لعمرك ما البلية فقد مال .. ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن البلية فقد حر .. يموت بموته خلق كثير
هذه كلمات كتاب طابت صفحاته، وزكت ورقاته، ورقَّت كلماته، وراقت صحبته.
أما المؤلف فهو الشيخ د. حاكم المطيري، الأستاذ المساعد بقسم التفسير والحديث بكلية الشريعة جامعة الكويت، والمنسق العام لمؤتمر الأمة الإسلامي، ومجدد علم السياسة الشرعية في زمننا هذا بكتبه المشهورة “الحرية أو الطوفان” و”تحرير الإنسان وتجريد الطغيان” و”الأصول الشرعية في الأحكام السياسية”… وغيرها.
وأما الموضوع فهي سيرة الشيخ المجاهد الشهيد محمد بن سعد آل مفرح، رفيق المؤلف في التأسيس لمؤتمر الأمة الإسلامي، والناطق الرسمي لحزب الأمة السعودي، ثم الأمين العام له، والذي توفي في إسطنبول يوم 17/12/2014 في حادثة تدور حولها شبهات قوية في أن تكون اغتيالاً بالسمّ نفذته المخابرات السعودية.
وكنت قد لقيت الشيخ محمد آل مفرح لقاءات محدودة قصيرة حين وصلت إلى إسطنبول منتصف أغسطس 2014، ولم يدر بيننا فيها كلام مطلقًا، اللهم إلا أني أحببته لنسبه الأموي – فأنا ممن يحب الأمويين غاية الحب – وسألته عن كتب تستقصي من بقي من ذرية الأمويين فدلَّني على بعض ما سألت، ولم ألمح من أحواله إلا كثرة الصمت وكثرة الذكر وحضور البشاشة، حتى فوجئت بمرضه ووفاته، ثم فوجئت أكثر بهذا الكتاب الذي يروي سيرة الرجل العجيب المتفرد!
يقول د. حاكم في مقدمة الكتاب بأن الله فرَّغه لهذا التأليف على غير العادة في باقي الكتب، وأنه أنجزه في وقت ليس من الطبيعي أن يُنجز فيه، واعتبر ذلك من كرامات الرجل التي بقيت بعد موته، وأن الله قد ألهمه تأليف هذا الكتاب ليساهم في خلود سيرته.
هذه المقدمة التي تثير العجب تزول مع صفحات الكتاب، إذ تكشف الصفحات عن سيرة رجل غني زاهد، مهاجر مجاهد، بلغ – كما يؤكد المؤلف- مرتبة الولاية فصار في عداد أولياء الله الصالحين، وروى الكتاب شيئًا كثيرًا عن أحوال الرجل في طول العبادة وكثرة الذكر وحميد السجايا ومحاسن الأخلاق، ثم عدد من الكرامات المدهشة العجيبة التي وقعت له، ومنها تلك الرؤى التي كان يراها في المنام فلا تكاد تخطئ وتتحقق كفلق الصبح، ومع كل هذا فقد التزم المؤلف ألا يحكي شيئًا رآه منه وحده، بل ما رآه منه أصحابه ورفاقه، وكتم أشياء كثيرة يقول إنه لو حكاها فلن تُصَدَّق، وهو ما يثير دهشة عجيبة، إذ إن الذي حكاه هذا هو في غاية العجب.. فكيف يكون الذي كتمه رفقًا بعقول الناس؟!
وُضِع الكتاب في قسمين؛ الأول: يحكي عن مقاماته وكراماته وأحواله، وفيها يستلُّ الشيخ حاكم – من الشهادات التي كتبها أصحاب ورفاق الشيخ المفرح – مقامات الولاية ويضعها إما مسبوقة أو ملحوقة بتعريف هذا المقام الذي يعتمد فيه على كتاب الإمام ابن القيم “مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين”، فهو يعرف بهذا المقام من مقامات الأولياء ويسرد ما قيل فيه من القرآن والسنة وأقوال السلف الصالح والعارفين بالله ثم يذكر تحقق هذا المقام في الشيخ محمد المفرح، أو قد يتحدث أولاً عن تحقق هذا المقام في الشيخ ثم يتبع ذلك بتعريف المقام والكلام عنه وصفات أهله، ولذا فإنه يمكن اعتبار هذا القسم – بنحو تجوز – خلاصة خلاصة كتاب مدارج السالكين لابن القيم، لكنها خلاصة عملية لا نظرية، وُضِعت في حياة رجل!
ولذا جاء القسم الأول حديث طويل عن الشيخ محمد في مقامات اليقظة والبصيرة والفكر والعزيمة، والإيمان بالله والكفر بالطاغوت، والصدق، واليقين، والتوكل، والرضا، والطمأنينة، والسكينة، والحب، والفرار إلى الله، والاستقامة، والحرية، والعبادة، والذكر، والعلم، والنصيحة، والصبر، والزهد، والرجاء، والتواضع، والإخبات، والأدب، وحسن الخلق، والإحسان، والتمحيص، والغربة، والهجرة، والجهاد، والشهادة، ويختم بمقام “الولاية والرؤى الصادقة” التي كان شأن الشيخ المفرح فيها عجيبًا عظيمًا ولا يكاد يُصدَّق، وقد أطال المؤلف في ذكرها، فذكر عددًا من الرؤى التي تحققت في حياة الشيخ وبعضًا من الرؤى التي تحققت بعد وفاته، ومن ذلك أنه رأى أن يموت عبد الله ملك السعودية قبل تمام أربعين يومًا من وفاته وقد كان، ورأى الحوثي يلبس تاج اليمن وقد كان، وقبل أن تنطلق الثورات رأى في المنام خمس ثورات تقضي على خمسة ملوك ورؤساء، ثم رأى بأن الثورة المصرية ستكون يوم 25/1/2011، ورأى أنه سيموت ويدفن في مكة وهذا كان أمرًا عجيبًا بالنسبة لحالته كمعارض للنظام السعودية لكنه كان.
وأما القسم الثاني من الكتاب فقد كان استعراضًا لحياة الشيخ محمد وسيرته، منذ نشأته وطلبه للعلم وبره بأهله وتنقله في أحوال التجارة حتى صار من الأثرياء وهو لم يزل في سن صغيرة، ويمضي على كل ذلك سريعًا حتى يصل إلى لحظة التقائهما وتأسيسهما معًا لمشروع مؤتمر الأمة الذي يأخذ على عاتقه الدعوة إلى مواجهة الاستبداد السائد في الدول العربية وتحرير الأمة منه ودعم الثورات العربية في كل مكان ومحاولة إيجاد نسق يجمع شتات فصائل الأمة وحركاتها.. فيسرد المؤلف منذ أن استجاب الشيخ المفرح لهذه الدعوة ثم تأسيسه لها في السعودية مع الشيخ عبد العزيز الوهيبي وأحمد الغامدي (وكلاهما الآن معتقل في السجون السعودية) ومحاولة إشهار “حزب الأمة السعودي” ثم اضطراره إلى الخروج من السعودية مهاجرًا إلى تركيا (وهو الخروج الذي كان بسبب رؤيا رآها، ولاقى في طريقه من الشدائد كما لاقى من الكرامات ما يثير العجب)، ثم بقائه في تركيا التي اتخذها مقرًا لدعوته الإصلاحية ضد الاستبداد ومركزًا لدعم الثورات العربية لاسيما الثورة السورية، لكن الضغط السعودي على الحكومة التركية لم يكن ليُحْتَمَل فقد أصرت السعودية على طلب تسليمه وأرسلت طائرة خاصة لتنقله إلى أراضيها، فاضطر الشيخ إلى التخفي ثم لم يعد التخفي ممكنًا ولا بد من الخروج فاختار الخروج إلى الشام بعدما أريد له أن يخرج إلى أي دولة أوروبية ليكون ذلك أضيق عليه في العمل، وهناك ساهم في الجهاد السوري ودعمه بما يملك من مال وجهد ووقت حتى أُصيب إصابة بالغة فعاد متخفيًا إلى تركيا، ثم تعرض فيما بعد لأربعة محاولات اغتيال واختطاف حتى منَّ الله عليه بقبول الحكومة التركية لاعتباره لاجئًا سياسيًا، ثم بدأت محاولات أخرى من الإغراء بالعودة للسعودية والتصالح مع النظام مقابل أموال طائلة (بلغت سبعين مليون ريـال)، وقد واجه كل ذلك بالرفض حتى تدهورت صحته فجأة في أحداث يُشير المؤلف إلى أنها محاولة اغتيال بسم بطيء يؤتي أثره بعد شهور، ويُعتقد أنه أكله في طعام كان ضمن لقاء مع وفد أمني سعودي حضر إليه في إسطنبول.
وفي هذا القسم تفصيل جيد لأحداث غير مشتهرة في الثورة السورية، وفي مسيرة مشروع الأمة المستهدف من قبل الحكومات الخليجية تحديدًا حتى إنهم اضطروا لأن يعقدوا مؤتمرهم على ظهر سفينة خارج المياه التركية وبغير استعمال مكبرات الصوت.
إن سيرة الرجال أبلغ في النفوس من زخرفة المقال، وقد كان سلفنا الصالح يهتمون بأن يعلّموا أبناءهم السير والمغازي كما يهتمون بتعليمهم القرآن، فإن ذلك هو التطبيق العملي له، وبغير الرجال الصالحين لا يكون المنهج واقعيًا، فالرجال هم من يثبتون بعملهم أن بلوغ مراتب العلا ممكن غير مستحيل، لكنه محتاج إلى صبر ومثابرة وجهاد، وهم بأنفسهم ينتصبون أعلامًا على الطريق ومعالمه ومنازل السير فيه.
ولهذا فإن الكتابة عن الصالحين من أبرع الطرق لإصلاح النفوس وجذبها للطريق القويم وإثارة مكنونات الخير فيها.. ولقد كان منها هذا الكتاب، فهو مؤثر بليغ.
قضى الشيخ محمد وذهب إلى ربه شهيدًا بإذن الله تعالى.. لنرثيه بما رثى الشيخ المكي البطاوي الرباطي به شيخه أبا إسحاق التادلي المغربي قائلاً:
حكم الإله بذي الخليقة جارِ .. تفنى البرية والبقا للباري
والحي ميت لو يطول بقاؤه .. ورحى المنون تدور بالأعمارِ
لكن مصائب ذي الأنام تفاوتت .. لا يستوي ذو العلم مع أغمار