هذه رسالة الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف (1860-1904) إلى أخيه نيكولاي تشيخوف. وهي رسالة من مجموعة رسائل كتبها تشيخوف إلى عائلته وأصدقائه منشورة في كتاب لا أدري إن كان قد ترجم إلى العربية أو لا. ومع أنّ النصائح التي جاءت في الرسالة أخلاقيّة في المقام الأول وليست ذات علاقة مباشرة بالقراءة والثقافة، إلا أنّها تكشف عن جانب لعله ليس معروفًا لكثير منّا عن تشيخوف وعلاقته بأخيه، رغم أن أنطون يصغره بعامين. وإليكم أقدّم حضرات القرّاء ترجمة الرسالة العربيّة مع شيء بسيط من التصرّف في المقدمة لتجنّب الإطالة.
كثيرًا ما اشتكيتَ وقلت لي إن الناس لا يفهمونك! أتعرف أنّه لم يشك من هذا الأمر نيوتن ولا حتّى جوته؟ لم يشك من مثل هذا سوى المسيح، ولكنّه كان يتكلم عن العقيدة لا عن نفسه. لا أظنّ أن لدى الناس مشكلة في فهمك، إن كنت أنت لا تفهم نفسك، فليس هذا خطأهم. إنّ مشكلتك تكمن في أنّك لا تملك شيئًا من الثقافة وأخلاق المثقفين. إن كنت تريد أن تشعر بالثقة والسعادة عندما تختلط بالمتعلمين فعليك أن تمتلك شيئًا من الثقافة. لقد جلبتك موهبتك الفنّية على تخوم هذه الدائرة، فأنت تنتمي إلى هذه الطبقة، ولكنّك تنوء بنفسك بعيدًا عنها في تقلّبك بين أهل الثقافة وأهل السفاهة.
أعتقد أنّ على المثقفين تحقيق الشروط الآتية:
المثقف يحترم الشخصية الإنسانية، لذا تراه دومًا لطيفًا مهذبًا باسطًا كفّه للآخرين في سماحةٍ وتواضع. لا يمكن للمثقف أن يغضب ويثور لصوت مطرقة حوله أو لضياع ممحاة. ولا يرى المثقف لنفسه فضلًا على الآخرين لعيشه بينهم، ولا يتنكّر لمن كان يألفه في الماضي. يصبر المثقف على الإزعاج والبرد واللحم المجفف وسماجة بعض البشر ويحتمل وجود الغرباء في بيته.
يعطف المثقف على المتسوّلين والقطط، بل إنّ قلبه يئنّ حتى لآلام من لا يراهم ولا يعرفهم. يجلس ليلًا يفكّر كيف يساعد الآخرين، وكيف يوفّر النقود لإخوته ليكسوهم وليدرسوا في الجامعة.
يحترم المثقف حقوق الآخرين، لذا يلتزم بسداد ديونه.
المثقف يحرص على الصدق، ويتجنّب الكذب كما يتجنّب اللهب. المثقف لا يكذب حتى في توافه الأمور، فالكذب إهانة للمستمع وتقليل من شأنه. كما أنّه لا يتكلّف، فيتصرف في الشارع كما يتصرف في البيت، ويتجنّب المباهاة بما يملك أمام أصدقائه. وترى المثقّف دومًا يعرض عن الثرثرة وفرض قناعاته على الآخرين. وتراه احترامًا للذين حوله يؤثر الصمت على الكلام.
يتجنّب المثقّف الانتقاص من نفسه استجلابًا لتعاطف الآخرين، فلا يلعب على مشاعرهم ولا يستجدي شفقة منهم. فلا تجده يقول “لا أحد يفهمني” أو “لا أحد يهتمّ بي” فكلّ هذا سعيٌ لأثر رخيص وهو علامة على دنوّ وتفاهة وكذب في النفس
يتسامى المثقّف عن الغرور وسفاسف الأمور، فلا يكثرث لمعرفة المشاهير ومصافحتهم، أو الاستماع لابتهاج مُشاهد عابر في عرضٍ ما، ولا يبالي إن لم يعرفه أحدٌ في الحانات. ولا يفاخر المثقّف إن جنى شيئًا من المال أو حظي بفرصة الدخول إلى حيث لا يدخل سواه من الناس. إن الموهوب بحقّ يحرص دومًا على خمول الذكر بين العامّة وينأى قدر الإمكان عن الدعاية لنفسه. حتى إنّ كريلوف قد قال يومًا إن البرميل الفارغ له صدىً أعلى من البرميل الممتلئ.
إن وجد المثقف في نفسه موهبة فإنه يحترمها، ويضحّي براحته من أجلها ويهجر النساء والخمر والغرور في سبيلها. فالمثقف يفتخر بما لديه من موهبة، ويضع لها أعلى المعايير.
يطوّر المثقّف الوعي الجماليّ في نفسه، فتراه لا ينام بملابسه المتسخة، ولا يصبر على قذارة البيت، ويحرص على أن يطيّب نفَسَه وأن لا يمشي على القذر. ثم إنّ المثقف يتعفّف في علاقاته مع المرأة ولا يطلبها للسرير وحسب، كما لا يطلبها لدهائها الذي يظهر عادة في سلسلة من الكذب والخداع. بل إن ما يطلبه المثقف، خاصة إن كان فنانًا، هو النضارة والأناقة والإنسانية وامتلاك القدرة على الأمومة. كما أنّ المثقّف لا يمضي ليله ونهاره في شرب الفودكا وتعاطي المخدّر، وإلا كان أشبه بالخنزير. المثقف لا يشرب إلا في وقت فراغه وفي المناسبات، فالعقل السليم في الجسم السليم.
هذه هي سمات المثقفين، ولكي تكون منهم وفي منزلتهم فإنه لا يكفيك أن تقرأ “أوراق بيكويك” لديكنز أو تحفظ شيئًا من فاوست لجوته.
لا بدّ من المداومة على العمل، ليل نهار، وصرف الوقت في القراءة والدراسة، فلكل ساعة وزنها. تعال إلينا، ألق الفودكا من يدك، واجلس واقرأ. ولتبدأ بقراءة تورغينيف إن أحببت، فأنت لم تقرأه بعد.
دع عنك غرورك، فأنت لست طفلًا، إنّك على أبواب الثلاثين.
لقد حان الوقت.
إنني في انتظارك.. جميعنا في انتظارك.