أشارت قناة الجزيرة في تعريفها ببرنامجها الجديد “برقيات التجسس” إلى أن البرنامج لن يقدم سردًا لقصص أشبه ما تكون بأفلام السينما الجاسوسية التي تقدم أجهزة المخابرات بصورة عملاء يتمتعون بقابليات متميزة على القتل والوحشية، وإنما ستقدم مشهدًا للحياة العملية اليومية لأناس طالما غلفت السرية جل نشاطاتهم”، وذلك بعد أن أعلنت شبكة الجزيرة عن حصولها على “مئات الوثائق عالية السرية الصادرة عن أجهزة مخابرات عالمية”، كما أكدت احتواء هذه الملفات الرقمية على “مئات الوثائق الاستخباراتية السرية الصادرة عن شبكات التجسس العالمية، والتي تكشف تفاصيل التعاملات الميدانية بين العاملين في عالم التجسس بما في ذلك الحديث الذي يدور بين هؤلاء الجواسيس في مقار عملهم الشبيهة بأي مقر عمل آخر، والتي يستخدمها الجواسيس لتجميع المعلومات وترتيبها وتصنيفها قبل أرشفتها وإرسالها لمراكز التجميع”.
وحسب ما تم ننشره حتى الآن من تفاصيل أولية وقليلة جديدة حول هذه الوثائق المسربة، يتوضح أن الرابط المشتركة بين معظم هذه التسريبات هو دولة جنوب أفريقيا التي قالت الجزيرة إن عملاء جهاز أمن الدولة فيها، والمعروف اختصارًا باسم “إس إس أي”، كتبوا تقاريرًا مفصلة وتحليلات وصلت إلى فريق إعداد البرنامج، بالإضافة إلى المراسلات السرية بين جنوب أفريقيا ووكالة المخابرات الأمريكية (سي آي أي)، والمخابرات البريطانية (أم آي 6) والمخابرات الإسرائيلية (الموساد) والمخابرات الروسية، والمخابرات الإيرانية، وعشرات أجهزة الاستخبارات الأخرى حول العالم من أسيا إلى الشرق الأوسط إلى أفريقيا.
وإن لم تحدد الجزيرة ولا صحيفة الغارديان التي تشترك مع الجزيرة في هذا العمل، الجهة التي سربت هذه الوثائق التي يُعتقد أنها تمثل أحد أهم عمليات تسريب لوثائق بهذه الدرجة من الخطورة، فإن ارتباط كل التسريبات التي تحدث عنها حتى الآن بدولة جنوب أفريقيا وجهاز استخباراتها والسفارات العاملة داخلها، يرجح أن الجهة التي قامت بتسريب هذه الملفات هي جهة نافذة داخل دولة جنوب أفريقيا وجهاز استخباراتها أو جهة أخرى نجحت في اختراق جهاز الاستخبارات الجنوب أفريقي.
وحسب ما نشر إلى حد الآن، يُعتقد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي يستعد لإلقاء كلمة هامة جدًا أمام الكونغرس الأمريكي، والذي تمر علاقته بالرئيس الأمريكي باراك أوباما بتوترات حادة؛ هو أكثر الساسة الذين سيتأثرون سلبًا بهذه التسريبات، نظرًا لأنه يستعد لخوض الانتخابات التشريعية، ونظرًا لأن الوثائق المسربة تكشف بوضوح كذب نتنياهو عند حديثه طيلة السنوات الماضية عن سعي الجمهورية الإيرانية لتصنيع أسلحة نووية رغم امتلاكه لوثائق استخباراتية تؤكد عدم صحة هذه الادعاءت.
ومن بين التفاصيل التي لم يتبين بعد ما إذا كانت مجرد تحركات استخباراتية تهدف إلى جمع المعلومات وفتح قنوات اتصال غير رسمية، أو ما إذا كانت في إطار التمهيد لانفتاح سياسي أمريكي على حركة المقاومة الإسلامية حماس، كشفت الأوراق المسربة أن المخابرات الأمريكية حاولت في السنوات الماضية أن تتواصل مع حماس بشكل مباشر، وهو ما يشكل تعارضًا مع سياسات إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما التي تعتبر حركة حماس حركة إرهابية وتدعي رفضها لأي شكل من التعاون معها.
ورغم ما يبدو من تشابه بين “تسريبات الجزيرة” وتسريبات العميل السابق لوكالة الأمن القومي الأمريكية “إدوارد سنودن”، أشارت الجزيرة إلى أن هذه التسريبات مختلفة بشكل كامل عن تسريبات سنودن، قائلة: “تختلف هذه التسريبات عن تلك التي تنسب إلى إدوارد سنودن وموقع ويكيليكس، حيث إن الأخيرة كانت تركز على برقيات استخباراتية إلكترونية يشار إليها في عالم الاستخبارات بكلمة سيغنت (SIGINT)، بينما تعتمد برقيات التجسس التي نحن بصددها على المعلومات التي يجمعها وينقلها البشر وتعرف بكلمة هيومنت (HUMINT)”.
ورغم أن برنامج الجزيرة سيقدم تفاصيل مهمة ذات علاقة مباشرة بأهم الملفات السياسية التي شغلت وتشغل العالم والتي يدور معظمها في منطقة الشرق الأوسط، فإن الجانب الأهم من ملفات أجهزة الاستخبارات هو الجانب الذي لم يتم تسريبه، حيث إن أكثر الشخصيات التي يبدو أنها ستتضرر من هذه التسريبات هي شخصيات تقترب تجربتها السياسية من النهاية أو يراد لها أن تنهي تجربتها السياسية، مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي كُتبت تحاليل وتقارير كثيرة حول انزعاج إدارة باراك أوباما من تصرفاته ورفضها لسياساته ورغبتها في منعه من الحديث أمام الكونغرس الأمريكي.
ومن الجهة الأخرى، وبغض النظر عن انعكسات هذه التسريبات على المشهد السياسي العالمي والإقليمي، سيكون لهذه التسريبات انعكاس مباشر على مستوى وعي المتابعين بما يدور في عالم التجسس، إذ تقدم هذه التسريبات صورة عن الجواسيس تمثلهم في شكل موظفين يعملون في إدارات رسمية وتصب معظم أعمالهم في إطار جمع المعلومات وتأمينها، على عكس الصورة التي شكلتها أفلام هوليود حول عالم الجواسيس الملئ بالدم وجرائم القتل.