ترجمة وتحرير نون بوست
في خيمة مصنوعة من الأقمشة البلاستيكية جلست مباركة القصيرة وهي تحمل طفلها بيد واحدة، وفي ذات الوقت تضم طفلها الآخر باليد الأخرى إلى صدرها لترضعه الحليب، مباركة استمعت باهتمام إلى حديث نساء قبيلة كيش الأوداية الذي تمحور حول خيبة أملهم من المخزن، وهو مصطلح له دلالة خاصة في العربية المغربية، ويُصطلح به النخبة الحاكمة في المغرب التي تمحورت حول الملك أو السلطان سابقًا، ويتألف المخزن من النظام الملكي والأعيان وملاك الأراضي وزعماء القبائل وكبار العسكريين ومدراء الأمن ورؤسائه وغيرهم من أعضاء المؤسسة التنفيذية.
“إنهم يعاملوننا مثلما تعامل إسرائيل الفلسطينيين”، صاحت إحدى النساء، ولوّحت أخرى ببطاقة هوية قديمة وقالت “إنهم لن يقبلوا عنواننا الحالي بعد الآن، لا أستطيع حتى تجديد هويتي الشخصية”، قالتها وهي تشير إلى وجود كدمات لدى النساء نتيجة لتعرضهن للضرب بالهراوات من قِبل الشرطة في وقت سابق من ذلك اليوم.
خارج الخيم يجلس الرجال المشردون بمواجهة سياج معدني تم بناؤه حول أرض كانت قبل فترة قصيرة قريتهم المسماة أولاد دليم، يدخنون السجائر، ويحدقون مطولاً في حافلات الشرطة التي تبعد عنهم بضعة مئات الأمتار، ويهمهمون فيما بينهم، الوضع كان مأساويًا لدرجة أن أحد أفراد القبيلة حاول الانتحار قبل بضع ساعات فقط خلال اشتباكات مع أفراد الشرطة.
كيش الأوداية هي واحدة من قبيلتين تعيشان على الحدود الريفية لمنطقة الرباط سلا، حيث تم طرد هاتين القبيلتين من أراضيهما التقليدية من قِبل شركتين عقاريتين في المغرب، الأولى هي شركة تطوير الرياض “Société d’Aménagement Ryad” أو اختصارًا “SAR” والتي اشترت أراضي قبيلة كيش الأوداية، في حين أن أراضي القبيلة الأخرى أولاد سبيطة تم بيعها لمجموعة الضحى.
الشركات العقارية والأراضي الجماعية
مجموعة الضحى هي شركة خاصة يديرها المدير التنفيذي أنس الصفريوي، وهو على علاقة مقربة من القصر الملكي، وخاصة من منير الماجيدي السكرتير الشخصي للملك، أما شركة “SAR” فهي شركة عقارية تابعة لصندوق الإيداع والتدبير “Caisse de Dépot et Gestion” أو اختصارًا “CDG” وهي مؤسسة مالية يديرها الملك.
نتيجة لهذه العلاقات حصلت الشركتان على الأراضي في جميع أنحاء المغرب بأسعار منخفضة، وتؤكد الدولة أن بيع الأراضي هو قانوني كون هذه الأراضي تعتبر من “أراضي الجموع” وهي أراضٍ جماعية مشاع جارية بملكية الدولة.
تم إدخال نظام أراضي الجموع إلى المغرب من قبل الإدارة الاستعمارية الفرنسية في قانون 1919، الذي أعاد تنظيم الأراضي الريفية، وذلك بنزع ملكية القبائل عن هذه الأراضي وجعلها من ممتلكات وزارة الداخلية، وبموجب قانون عام 1919، يتم إدارة كل أرض شائعة من قِبل نائب يتم انتخابه من القبيلة، وهذا النائب يلعب دور كبير المفاوضين في المعاملات الجارية على الأراضي داخل القبيلة وكذلك بين القبيلة والدولة، وحتى اليوم مازال قانون عام 1919 ساري المفعول، وينظم حوالي 15 مليون هكتار من أراضي الجموع التي تشكّل حوالي 40% من البلاد.
بعد أن بدأ المغرب بتنفيذ السياسات الليبرالية الجديدة في أوائل التسعينيات، بدأت الدولة بطرد القبائل من أراضيها بشكل جماعي، وعمدت غالبًا إلى تسليم هذه الأراضي إلى الشركات الكبرى، حيث زعمت الحكومة أن هذه الشركات ستعمل على خلق قيمة اقتصادية كبيرة من هذه الأراضي.
هذه المصادرات أدت إلى انتشار موجة من الانتقادات المتزايدة التي أطلقتها المنظمات غير الحكومية التي تكافح الفساد – الذين يدعون أن مصادرة الأراضي غالبًا ما تنطوي على فساد إداري – والنشطاء الذين يهمهم التراث الريفي المغربي.
على الرغم من تضرر أكثر من قبيلة من حملة المصادرات الحكومية، إلا أن قضية قبيلتي كيش الأوداية وأولاد سبيطة تلقت اهتمامًا خاصًا، نظرًا للجهود المبذولة من هاتين القبيلتين لمقاومة ضغط الدولة، ورفضهما للخروج من الأراضي وتنظيمهما للمظاهرات.
كيش الأوداية
منطقة دوار أولاد دليم التي تعتبر أحد المناطق التي تعيش فيها قبيلة كيش الأوداية تم هدمها بالكامل في ديسمبر 2014 من قبل الجرافات المحمية بقوات الشرطة، وتقع هذه المنطقة جنوب العاصمة مباشرة بالقرب من منطقة الرباط – سلا، ما بين أوتوستراد الرباط – الدار البيضاء وحي الرياض الثري.
قبيلة كيش الأوداية هي أحد القبائل الفرعية لقبيلة محاربة قديمة تدعى كيش، وقبل الاستعمار الفرنسي للمغرب، كانت قبيلة كيش هي إحدى القبائل البدوية المسلحة والتي أصبحت في نهاية المطاف قوية جدًا لدرجة أنها شكلت تهديدًا لحكم السلطان مولاي عبد الرحمن، لذا عمد الأخير إلى تقديم عرض على القبيلة يتضمن تسليم أسلحتهم مقابل تمليكهم مساحات كبيرة من الأراضي يمكن لهم أن يستقروا بها بشكل دائم، وفعلاً وافقت القبيلة على الاقتراح، وعاش أفرادها على هذه الأراضي منذ ذلك الحين.
ولكن عندما احتل الفرنسيون المغرب، قاموا بإصدار قانون 1919 الذي ينظم الأراضي الجماعية “المشاع”، حيث قام هذا القانون بإعادة تنظيم أراضي كيش واعتبرها من ضمن الأراضي الجماعية، وبذلك شمل القانون أراضي كيش الإستراتيجية القريبة من العاصمة الإدارية الرباط، حيث سهّل إعادة تنظيم هذه الأراضي من مهمة الاستيلاء عليها من قبل السلطات الفرنسية من أجل توسيع المنطقة الحضرية.
ومع ذلك، قام الملك محمد الخامس في قانون 1946 بسحب هذه الأراضي من وزارة الداخلية المغربية ووضعها بملكية كيش، ولكن هذا القانون تم ابطاله في عهد الحسن الثاني بدعوى ضياع هذا القانون من السجلات، وعاد قانون 1919 ليسري على هذه الأراضي وينظم أوضاعها القانونية.
إن قانون عام 1946 لم يعد من الممكن العثور عليه سوى في الذاكرة الشعبية للمواطنين وفي بعض الوثائق الرسمية التي تشير إليه، والتي لا تعتبر كافية لإثبات مليكة قبائل كيش لهذه الأراضي، مما أفسح المجال أمام الرباط لتوسيع حدودها على حساب أراضي القبيلة، وكان تدمير قرية أولاد دليم أحد آخر هذه الممارسات الممنهجة، والتي ستستمر في السنوات المقبلة.
وفقًا لمباركة القصيرة فإن 126 أسرة متضررة من أحداث هدم قرية أولاد دليم، لم تتلق أي تعويض عن هذه الخسارة، وبعد تدمير القرية انتقلت بعض الأسر للعيش مع أقاربها في المدن الأخرى، في حين بقيت أسر أخرى في الشارع بعد تهديم القرية.
وتعبيرًا عن الاحتجاج لعدم تعويضهم من الدولة، نصبت بعض الأسر الخيام وبقيت في الأرض حيث تقول مباركة “لقد كنا نعيش في منازل بسيطة ولكن كنا نعيش حياة كريمة، عندما دمروا بيوتنا اضطررنا للعيش في خيام مصنوعة من القماش البلاستيكي”.
من جهتها واجهت الحكومة مخيمات الاحتجاج، عن طريق وضع عدة حافلات دائمة تابعة لشرطة مكافحة الشغب في موقع الخيم، ووفقًا لأفراد قبيلة كيش الأوداية فإن الشرطة تضايقهم باستمرار من خلال مهاجمتهم بالهراوات وحرق ممتلكاتهم وخيامهم، وحتى الآن، تم اعتقال العديد من القرويين بينما يعاني آخرون من إصابات ناجمة عن الاشتباكات مع الشرطة، ويقول إدريس الداودي الذي تم هدم منزله في مارس الماضي “يمكنهم استعمال كافة الطرق لمحاولة طردنا من أرضنا، ولكن لا يمكننا أن نترك هذه الأرض، لأننا لا نملك مكانًا لنذهب إليه، وسنبقى هنا حتى إيجاد حل عادل لقضيتنا”.
في أحدث غارة للشرطة هذا الأسبوع تم إحراق مخيم كيش الأوداية بالكامل، وسكان دوار أولاد دليم يحاولون الآن اتباع الطرق القانونية للحصول على التعويض الملائم لهم.
أولاد سبيطة
على الجانب الآخر من المدينة، بين سلا والقنيطرة، تعيش قبيلة أولاد سبيطة التي تتكون من حوالي 300 عائلة يعيشون من الزراعة والثروة الحيوانية، ويزعم شيوخ هذه القبيلة أن قبيلتهم استوطنت في هذه المنطقة منذ عهد السلطان مولاي إسماعيل في القرن الـ17.
في عام 2007، تمت مناقشة أفراد القبيلة من قِبل المسؤولين في الدولة لشراء أجزاء من أراضي القبيلة التي تلامس الساحل، ووافقت القبيلة في البداية على هذا الاقتراح كون منازلهم ليست مبنية بالقرب من الشاطئ، كما أن الرمال ليست صالحة للزراعة أو الرعي.
وفعلاً تم بيع هذه الأراضي من قِبل وزارة الداخلية لمجموعة الضحى، والتي كانت مطالبة بتعويض السكان بمبلغ 55 درهم عن كل متر مربع، وتعمل مجموعة الضحى على استخدام هذه الأراضي لبناء ملعب للجولف وشقق فاخرة وفيلات وفندق ومركز تجاري ضخم.
ولكن عندما بدأ البناء، أدرك سكان القبيلة أن المشروع يمتد إلى أماكن أبعد من الأرض التي وافقوا على بيعها، وقد تأكدت أقوالهم عندما بدأت الجرافات بالاقتراب من منازلهم بغية هدمها، وعندها بدأ أفراد قبيلة أولاد سبيطة بمقاومة مشروع الضحى، حيث تشير القبيلة إلى أن الدولة لم تعوضهم عن المباني – البيوت الزراعية والحظائر – التي سيتم هدمها، كما أن تعويض الأرض سيتلقاه أكبر ذكور الأسرة فقط، حيث إن الشباب والشابات الذين لديهم أيضًا حصة بهذه الأراضي لن يتلقوا أي تعويض.
لكن عدم التعويض ليس القضية الوحيدة في هذا المجال، فوفقًا لأحد أعضاء القبيلة، تم مساومة السكان للحصول على رشاوى بقيمة 40.000 درهم من أجل الحصول على تعويض، ولكن أعضاء القبيلة رفضوا دفع رشاوى للحصول على ما هو أصلاً من حقهم.
أولاد سبيطة رفضوا البقاء صامتين حول هذه القضية، حيث قاموا بتنظيم الاحتجاجات بانتظام، وهم يتجمعون حول كل منزل قبل هدمه لمنع الجرافات من الوصول إليه، ولكن مع ذلك، وعلى الرغم من المحاولات المستمرة لمنع المشروع، أنجزت مجموعة الضحى بالفعل حوالي 10% من البناء، وحاولنا الوصول إلى المجموعة للاستفسار منها إلا أننا لم نستطع ذلك، أما شركة “SAR” فاستطعنا التواصل معها ولكنها رفضت التعليق على الموضوع.
المصدر: ميدل إيست آي