تعيش تونس تحت وطأة أزمة سياسية تعتبر الأكثر حدة منذ ثورة 14 جانفي 2011 . و اندلعت بوادر هذه الأزمة إثر أول اغتيال لسياسي تشهده البلاد إثر سقوط حكومة الرئيس المخلوع بن علي. حيث لقي شكري بلعيد الناطق الرسمي و القيادي بحزب الجبهة الشعبية مصرعه أمام منزله صبيحة يوم 6فيفري إثر إصابته بأربعة عشر طلقة نارية. و قد كانت هذه الحادثة مشهدا غريبا أحدث خوفا في نفوس التونسيين.
و قد لقي هذا الحدث إنكارا و تنديدا من جميع التيارات السياسية الفاعلة في الساحة السياسية التونسية اليمينية منها و اليسارية. و وجهت الجبهة الشعبية اتهاما واضحا من خلال تصريحات قادتها إلى حركة النهضة بضلوعها في هذا الاغتيال و بتنفيذ من أيادي ذات الانتماء السلفي. و حددت يوم الأربعاء من كل أسبوع موعدا لوقفة احتجاجية أمام مقر وزارة الداخلية رافعة شعارات حل المجلس الوطني التأسيسي و إسقاط الحكومة الحالية وتعويضها بكفاءات وطنية مستقلة.
ويعد المجلس الوطني التأسيسي مطلبا رفعه التونسيون إثر هروب الرئيس المخلوع و في ظل الحكومة الأولى حكومة محمد الغنوشي و حكومة الباجي القايد السبسي. وهو أول قبة برلمانية يتم انتخاب أعضائها بصفة مباشرة من الشعب بعد ستين عاما من حكم بورقيبة و بن علي و الذي عرف بتزوير نتائج الانتخابات.
لم تكن الاحتجاجات التي دعت إليها الجبهة الشعبية بالقدر المرغوب فيه كما و عددا. و لكن تأزم و احتقان الوضع السياسي حينها دفع حمادي الجبالي إلى تقديم استقالته من منصب رئاسة الحكومة في كلمة ألقاها مساء يوم 21 فيفري 2013. و بناء على قانون التنظيم المؤقت للسلط العمومية تم تعيين علي العريض خلفا عن الجبالي بعد أن شغل منصب وزير الداخلية في أول حكومة تنبثق من مجلس وطني منتخب بالبلاد التونسية. إضافة إلى تغيير في وزارات السيادة و التي اسندت لشخصيات مستقلة.
وفي ظل هذه التغييرات التي تعتبر تلبية جزئية لمطالب المعارضة التونسية تواصلت الاحتجاجات لإسقاط حكومة علي العريض. لكن المجلس الوطني التأسيسي واصل أشغاله البرلمانية و التي بلغت إنهاء صياغة الدستور و تمريره للمصادقة النهائية بالتصويت عليه فصلا فصلا كما تم انتخاب أغلب أعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات و التي ستكون خلفا للهيئة الأولى بعد التوافق حول أسماء أعضائها.
من جهة أخرى فقد أعلنت وزارة الداخلية برئاسة لطفي بن جدو عن تعرفها على مجموعة من الأشخاص المحسوبين على التيار السلفي الجهادي و المتهمين في قضية اغتيال بلعيد.
في خضم هذه الإجراءات الأخيرة من المرحلة الانتقالية التي تعيشها تونس، تعود يد الاغتيالات لتطال هذه المرة محمد البراهمي عضو المجلس الوطني التأسيسي عن حركة الشعب و التي استقال منها ليؤسس التيار الشعبي. تم ذلك ظهر يوم الخميس 25 جويلية بطلق ناري أمام منزله.
مثل هذا الاغتيال الصدمة الثانية التي تهز المشهد السياسي بتونس لتليه بعد ثلاث أيام مصرع ثمانية جنود بجبل الشعانبي بالمنطقة الحدودية بين تونس و الجزائر إثر قيامهم بدورية تمشيطية للمنطقة في إطار البحث عن المتورطين بعملية الاغتيال الأولى.
و من الملاحظ أن المعارضة التونسية سرعت في ردود أفعالها هذه المرة خشية أن تفوت فرصة إسقاط حكومة النهضة كما تم إبان اغيال بلعيد. حيث علق قرابة خمسين نائبا برلمانيا عضويتهم. و تم تكوين جبهة ضمت كل أطياف المعارضة التونسية اليسارية و الأعضاء المنسحبين تحت اسم جبهة الإنقاذ. و شهدت ساحة باردو اعتصاما لحل المجلس التأسيسي و إطاحة الحكومة الحالية قابله اعتصام ثان لدعم الشرعية.
و رغم الأزمة السياسية الراهنة إلا أن كل الأطراف السياسية تجمع حول استبعاد إعادة المشهد المصري على الساحة التونسية.
في هذا الإطار لعبت أربع منظمات وهي الاتحاد العام التونسي للشغل و منظمة الأعراف و الهيئة الوطنية للمحامين و رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان دور الوسيط بين الائتلاف الحاكم الذي يضم حركة النهضة الحائزة على أكبر نسبة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في انتخابات 23 أكتوبر 2011 و حزب المؤتمر من أجل الجمهورية و حزب التكتل و بين كل أطياف المعارضة الذين لم يكن لهم حظ كبير في الانتخابات السابقة.
وقد قدم هذا الرباعي مبادرة أولى لحل الأزمة القائمة تمثلت في نقطتين أساسيتين و هما استقالة حكومة علي العريض و تعويضها بحكومة كفاءات وطنية تترأسها شخصية مستقلة تقوم بإدارة المرحلة المتبقية إلى حدود الانتخابات. أما النقطة الثانية فتمس القبة البرلمانية حيث يتم تعيين لجنة من الخبراء لتنوب الأعضاء المنتخبين وتقوم بإنهاء صياغة ثاني دستور للجمهورية التونسية و يقتصر دور النواب في المصادقة على الدستور كاملا و ليس فصلا فصلا و المصادقة على أعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات و التي يتم تحديد أعضائها إثر توافقات من خارج القبة البرلمانية بين مختلف الفرقاء السياسيين إضافة إلى تحديد موعد للانتخابات. و حددت مدة هذه الأعمال في أجل لا يتجاوز الأسبوعين يعتبر المجلس بعده منحلا ذاتيا.
تبنت جبهة الإنقاذ هذه المبادرة كمنطلق للحوار الوطني في حين تحفظت الترويكا على أجزاء منها. و قدمت من جهتها مقترحا ينص على استقالة الحكومة بعد إنهاء الأعمال التأسيسية و التي تتمحور أساسا حول إنهاء الدستور و استكمال أعضاء هيئة الانتخابات و إعداد القانون الانتخابي و تحديد موعد الانتخابات في أجل أقصاه أربعة أسابيع منذ انطلاق الحوار الوطني. ثم عدل الائتلاف الحاكم موقفه و أرجأ القانون الانتخابي لإعداده في ظل الحكومة الجديدة.
في ظل هذه الأحداث المتسارعة قرر مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي مساء يوم 6أوت تعليق الأعمال النيابية نظرا لتأزم الوضع السياسي و كامتصاص لغضب الأعضاء المنسحبين والمعارضة على حد قوله. و من الممكن أن يكون قراره مبنيا على خوف من معطيات الأحداث السائدة بمصر إثر الانقلاب العسكري و ما آلت إليه من توتر و احتقان.
لم يكلل الحوار بين الفرقاء السياسيين بالتوصل إلى حل. فقررت جبهة الإنقاذ التصعيد من تحركاتها خاصة بعد أن قرر رئيس المجلس التأسيسي إعادة الأعمال البرلمانية في ظل تشبث النواب المنسحبين لقرار عدم مزاولة مهامهم النيابية. و رغم استقبالها لوفود من اليسار الفرنسي جاؤوا لدعم مطالب جبهة الإنقاذ ودعواتها المتواصلة للتعبئة فقد كان جليا أن المعارضة التونسية لم تلق دعما شعبيا كبيرا خاصة أمام ما شهدته القصبة ليلة 6أوت من مظاهرة حاشدة دعما للشرعية الانتخابية و دعما للحكومة الحالية.
يشار أن الأطر الرسمية الفرنسية أو الأوروبية تدعم المسار الانتقالي الديمقراطي الحالي و تعتبره خيط الأمل الأخير في منطقة الربيع العربي و الذي ما فتئ يشهد تأزما في محاولة لإخماد روح الثورات.
بعد مبادرته الأولى ، قدم الرباعي الراعي للحوار مبادرة ثانية تؤيد استئناف أشغال المجلس الوطني التأسيسي و إكمال مهامه التأسيسية من مصادقة على الدستور و استكمال للهيئة العليا للانتخابات و إعداد القانون الانتخابي في ظرف أربعة أسابيع و تحديد موعد الانتخابات في غضون أسبوعين من تشكيل هيئة الانتخابات. و تكون لجنة من الخبراء لمساعدة المجلس و دعم تسريع أعماله. أما في ما يخص مسألة الحكومة فقد دعا الرباعي إلى الاتفاق حول شخصية وطنية هذا الأسبوع تكلف بتشكيل حكومة جديدة في أسبوعين. و تقدم الحكومة الحالية استقالتها وجوبا في ظرف ثلاثة أسابيع. و يكلف المجلس الوطني التأسيسي بالمصادقة على الحكومة الجديدة. كما تنص المبادرة على التزام كل الأطراف السياسية بمواصلة الحوار الوطني تحت رعاية المنظمات الأربعة لحل بقية النقاط الخلافية التي تعيق استكمال نجاح المرحلة الانتقالية و بهدف مساندة الحكومة الجديدة في مهامها.
على إثر ما تقدمت به المنظمات الراعية قبلت كل من جبهة الإنقاذ و الثلاثي الحاكم هذه المبادرة. حيث أصدرت حركة النهضة الحزب الأكبر في الائتلاف الحاكم بيانا تؤكد فيه موافقتها على المبادرة المطروحة داعية إلى هدنة سياسية و اجتماعية تساعد على الاستقرار الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي بالبلاد. أما جبهة الإنقاذ فقد تمسكت بالاستقالة الفورية للحكومة الحالية متهمة إياها بتواطئها في اغتيال البراهمي. و ذلك على إثر الوثيقة المرسلة من وكالة الاستخبارات الأمريكية والتي عرضتها لجنة الدفاع عن شكري بلعيد و التي تبين علم أطراف أمنية بوزارة الداخلية بعملية استهداف البراهمي. في حين نفى كل من وزير الداخلية و رئيس الحكومة علمهم بهذه الوثيقة المسربة إلا بعد حادثة الاغتيال.
أمام ردود كل الفرقاء السياسيين و قبولهم بالمبادرة المقترحة، لا يزال اتحاد الشغل يعلن مماطلة حركة النهضة و إعاقتها للحوار الوطني وهذا ما صرح به حسين العباسي الأمين العام للاتحاد صبيحة اليوم 21 سبتمبر إثر ندوة صحفية عقدتها المنظمات الراعية.
وأمام تعنت جبهة الإنقاذ و إصرارها على استقالة الحكومة الفورية و تحفظ الثلاثي الحاكم حول بعض النقاط خاصة تمسكها بصلاحيات المجلس التأسيسي و صلاحيات الحكومة الجديدة و انضوائها تحت رقابة التأسيسي، يظل السؤال حول آفاق الوضع السياسي في البلاد التونسية؟ و ماهي التداعيات القادمة إذا ما فشل الحوار الوطني.