قام مؤخرًا عالم الاجتماع الألماني وولفغانغ شتريك بتقديم كتابه الجديد الصادر عن دار جاليمار الفرنسية بعنوان “الزمن المشترى” عن الأزمة التي تعاني منها الرأسمالية الديمقراطية، وتم التقديم في دار هانشر هاين بالمدينة الجامعية بباريس.
تكمن أهمية الموضوع في علاقته بالحالة الطارئة التي سببتها الأزمة أو بالأحرى سلسلة الأزمات التي زادت من حدة البطالة والديون والتي لا ندري حتى الآن كيف نتجاوزها، وفي هذا الإطار كتب وولفغانغ شتريك كتابه “الزمن المشترى” أو كيف يمكننا ربح الوقت أمام فشل نظام الرأسمالية الديمقراطية، ذلك النظام الذي تم إرساؤه بأوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية وأضفت عليه الحكومات بُعدًا اجتماعيًا واشتراكيًا أكثر من خلال تدخل الدولة التي تفرض قواعد لحماية العمال وضمان توزيع عادل للثروات.
عندما تنقص مواطن الشغل وتغلق الشركات فإن النمو الاقتصادي يتباطأ وبالتالي تزداد ديون الدول وتضاف الى الديون الخاصة لا يشكّك أحد في ضرورة تدخل الحكومات، ويعتقد أنصار النظريات الاقتصادية الليبرالية أن دور الحكومات يكمن في تنشيط الحركة الاقتصادية من خلال تخفيض تكلفة العمل وإضفاء مرونة أكبر على سوق الشغل لزيادة حركة العمالة وهذا ما يشجع الشركات على الاستثمار، كما أن خفض المصاريف الحكومية مقابل زيادة العائدات يساعد على سداد الديون، ولكن المشكلة تكمن في أن هذه السياسات لم تحقق حتى الآن الأهداف المرجوة إلا في حالات قليلة.
انخفاض قيمة العملة المحلية
أثبتت سياسة الحفاظ على الاستقرار النقدي التي يدافع عنها أنصار سياسة العرض والطّلب ويسمّونها “التخفيض من قيمة العملة المحلية” فشلها، ورغم أنها تقوم على خفض الأجور وزيادة الضغط الجبائي بهدف خفض ديون الدول وتشجيع الاستثمارات؛ فإنها لم تكن مثمرة في هذه الدول باستثناء بعض الدول المصدرة التي تكون عائداتها من التصدير مخرجًا لها، وعلاوة على ذلك لا يمكن أن تعزز هذه السياسة سوى عملية تراكمية سلبية والنقص المبرمج في العوائد الجبائية، وبالتالي انعدام القدرة على سداد الديون السيادية في وقتها .
نحن نتحدث عن موضوع تخفيض قيمة العملة المحلية من خلال التحويرات الهيكلية، وهذا يتضمن قبل كل شيء إعادة هيكلة أنظمة الحماية الاجتماعية التي تحقق الرفاهية الاجتماعية وتُميّز البلدان التي كانت تسمى في وقت من الأوقات بالمتقدمة مقارنة بالبلدان الفقيرة النامية التي اصبحت ذات قدرة تنافسية عالية نظرًا لتدني كلفة اليد العاملة فيها.
بالنسبة لبيار لاروتورو فإن نهاية الثلاثة عقود المجيدة بين 1945 و1975 كانت نتيجة لأزمة النفط إثر وصول ريغان للحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قام هذا الرئيس بإلغاء كل القواعد الاجتماعية باسم الحرية، وعندما ننظر للأمر من جانب فلسفي يبدو لنا جيدًا، لكن في الحقيقة ذلك يعني “إذا لم تكن سعيدًا هنا فاذهب إلى مكان آخر”.
يفسّر بيار لاروتورو ذلك بأن القسط الذي تم تقديمه إلى أصاحب رؤوس الأموال على حساب أجور العملة والحماية الاجتماعية يزداد يومًا بعد يوم، بالنسبة له من واجب أصحاب رأس المال التفكير بأنهم مدينون للعمل، لأن أهميته مثله مثل توازي أهمية الأسواق المالية، هذا هو واجب أصحاب رؤوس الأموال على الأجيرين.
قام العضو السابق في الحركة الاجتماعية الأوروبية بيار لاروتورو بتأسيس حزب من أجل دعم سياسة مغايرة وهي سياسة فرانكلين روزفالت التي تدير ظهرها لليبرالية الاقتصادية وتحاول منح الدولة الصلاحيات لتوزيع الأعباء على كافة الأطراف على غرار سياسة “المقاربة الجديدة” التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأمريكية بين 1933 و1938 .
الخوف من التضخم
حين يجب أن تشجع على الاستثمار من أجل إعادة إحياء الحركة الاقتصادية وخلق مواطن الشغل، وتكون الظروف غير مشجعة لرأس المال؛ فالتضخم هو النتيجة الحتمية، لكن هناك حل وهو إصدار النقود .
عملية تُعد من المحرمات في بروكسل وفرنكفورت، ولكنها عملية تقوم بها العديد من البنوك الخاصة يوميًّا، ولولا ذلك كيف يمكن إذًا تمويل القروض؟ هل تقوم ببعث أموال البنك ثم التمويل في وقت لاحق؟
لماذا إذن يتم تشجيع المصارف الخاصة في حين يمنع ذلك على البنوك المركزية؟ ألن يكون هذا أفضل من الدمار الاجتماعي للبلدان المثقلة؟ للألمان ذكرى رهيبة مع التضخم تعود لفترة ما قبل الحرب حين كان الفرد يحتاج للكثير من المال لشراء الخبز وحسب وولفغانغ هنالك ربما هويات وطنية مرتبطة بالعملة أي “شهوة المال” وتقديس المارك الألماني في ألمانيا الشرقية التي كانت مثالاً للمعجزة الاقتصادية، والفرق بينها وبين ألمانيا الديمقراطية أن الأخيرة كانت منتمية للنظام السوفياتي وكان المارك هو العملة المشتركة حين توحدت ألمانيا بالإضافة لعملات أخرى عديدة موحدة بعيدًا عن أوروبا .
اليورو يسبب انقسام الأوروبيين
أصبحت العملة “ديانة اقتصادية” كما يقول وولفغانغ، فهي تعمل بطريقة مختلفة حسب ما تفرضه كل دولة ولأجل إضفاء الطابع المؤسسي عليها، يرى يورغن هابرماس أن الاتحاد النقدي الأوروبي يمكن أن يكون الأساس لاتحاد سياسي على أساس عملية التحول الديمقراطي في الاتحاد الأوروبي، لكن وولفغانغ يرى أن هذه التجربة طائشة وقد أظهرت الأزمة مدى هشاشتها.
تمويل الاقتصاد ذهب جنبًا إلى جنب مع تراجع النمو
بالنسبة لووفلغانغ فإن النظام المالي صار عالميًا ومسيطرًا على كل المجتمعات وكل شيء مرتبط بحسن سيره ونجاحه، فالقروض الخاصة الصعبة السداد صارت تنتمي للدين العام بعد سنة 2008 بالولايات المتحدة الأمريكية، كما أن البنك المركزي الأوروبي يساعد البنوك دون أي رقابة ديمقراطية، ومئات المليارات من اليوروات هي اليوم تحت تصرف البنوك المركزية الوطنية والبنوك الخاصة دون رقابة ديمقراطية.
فهل البنوك المركزية أهم من البرلمانات؟