صدر تقرير توقعات العقد Decade Forecast الذي تصدره شركة ستراتفور كل خمس سنوات لتتكهن بما ستؤول إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية في شتى أنحاء العالم خلال السنوات المقبلة، وهو تقريرها الخامس منذ صدور أول تقرير عام 1996، وكان التقرير السابق الصادر عام 2010 قد تنّبأ بالكثير مما جرى خلال الأعوام الخمسة الماضية، أبرزها تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني وتزايد الاضطرابات في شرق أوروبا وتفاقم الأزمة المالية الأوروبية وبداية احتواء الولايات المتحدة لإيران.
هنا، نقدم أبرز ما جاء في تقرير 2015 فيما يخص الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
نهاية المنظومة القومية
بالنظر للأحداث الجارية في المنطقة الواقعة بين إيران وتركيا والخليج (الهلال الخصيب بشكل عام)، يبدو بجلاء أنها تشهد انهيار المنظومة القومية التي وضعها الاستعمار الأنجلوفرنسي في القرنين التاسع عشر والعشرين، لتؤول فيها القوى العسكرية والسياسية والاقتصادية إلى، وتتوزع على، المكونات الاجتماعية الأساسية، من مجموعات دينية وطائفية وعرقية وقبلية، وربما تشيكلات مبنية على المصالح الاقتصادية المشتركة، وهو ما سيدفع هذه البلدان كافة إلى نموذج أشبه بالوضع اللبناني، والذي يتسم بضعف المركز السياسي والاجتماعي الممثل في الدولة، وامتلاك الأطراف المختلفة المكونة للبلد للقوة الفعلية في المساحات التي تسكنها المجتمعات التي يمثلها.
هذا السيناريو الذي وصل إلى ليبيا والصومال أيضًا قد يتمدد إلى مساحات واسعة من غرب أفريقيا، والتي رسم الاستعمار الفرنسي بشكل كبير حدودها، وتعاني من دول مركزية ضعيفة لم تستطع على مدار عقود استقلالها أن ترسّخ شرعية اجتماعية، وبالتالي لاتزال القبيلة أو الدين أو الطائفة فيها هي المحدد الرئيسي للقوة الاجتماعية والسياسية، وأحيانًا العسكرية، وهو ما يعني باختصار انفراط عقد المنظومة الحدودية والقومية الهشة السائدة حاليًا في منطقة الصحارى بالكامل.
ستكمن المشكلة الرئيسية في هذه المرحلة، أثناء وبُعَيد انهيار المنظومة القومية، في غياب الحسم، إذ تعتمد معظم هذه المجموعات على نقطة ارتكاز ديمغرافية و/ أو جغرافية (حزب الله يرتكز للشيعة في جنوب لبنان، البشمركة ترتكز للأكراد في شمال العراق، ميليشيات الثورة والإسلاميين في ليبيا ترتكز في برقة، داعش إلى العرب السنة في المشرق، إلخ) بشكل يستحيل معه هزيمتها في عُقر دارها أو تمددها هي إلى خارج تلك النقطة، وهو وضع يعني استمرار الصراع حتى تجد تلك الأطراف صيغة للتعايش، أو يجبرها اللاعبون الكبار في الجوار، إن كانوا متحكمين فيها لما يكفي (مثل تركيا وإيران)، على الدخول في تسوية لإرساء منظومة جديدة.
من ناحيتهم، ستكون الدول الكبيرة والمستقرة، والتي نجحت الدولة القومية فيها بترسيخ شرعية اجتماعية نوعًا ما وتلعب دورًا إستراتيجيًا هامًا، مثل تركيا وإيران ومصر والسعودية (وإن كانت الأخيرتان أكثر هشاشة)، واقعة تحت ضغوط شديدة نظرًا لعدم قدرتها على التدخل المباشر وحسم الصراعات لصالح طرف أو آخر، لأن ذلك ينطوي ببساطة على قمع مستحيل فعليًا لتشكيلات ديمغرافية بأكملها لم تنجح الدول المركزية المعنية بها أصلًا في قمعها، ولا الاستعمار أو التدخل الأمريكي.
تباعًا، ستعاني تلك البلدان الكبيرة من اهتزاز استقرارها الاجتماعي والاقتصادي نظرًا لوقوعها بالقرب من تلك المساحات الشاسعة من الفوضى والعنف، وهو اهتزاز سيكون أعنف حال نجحت بعض من تلك المجموعات في جذب شرائح من مجتمعات هذه البلدان لخطابها، والمرشح الوحيد حتى الآن لإحداث هذا التأثير المتجاوز لنقطة جغرافية معيّنة هي الجماعات السنية الجهادية، إذ ينتشر السنة العرب في كافة أنحاء المنطقة على عكس غيرهم، وهو تأثير سيكون احتمال حدوثه أكبر في المساحات التي تعاني فيها منظومة الدولة من فقدان أو ضعف الشرعية، مثل سيناء في مصر، أو ربما المنطقة الشرقية في السعودية.
في حين تقبع تركيا بمنأى عن تأثير تلك الجماعات نظرًا، أولًا، لشرعية نظامها الديمقراطي وشعبية حزبها الحاكم، وثانيًا، لطبيعة الثقافة التركية المغلقة، وإن كان جنوب شرقها الكُردي معرّض للانجذاب لأي مركز قوة كردي، كما تُعَد إيران أيضًا بعيدة عن تأثير الجهاديين نظرًا لثقافتها الشيعية، سواء الفارسية أو العربية في الأحواز.
من ناحيتها، وفي إطار تخفيف دورها في المنطقة، لن تستطيع الولايات المتحدة التدخل في صراعات كهذه، لاسيما وقد فشلت سابقًا في حسمها، إلا إذا تجاوزت تلك الصراعات خطوطًا معيّنة بشكل تصبح معه تهديدًا للمنظومة العالمية، على سبيل المثال، إذ ما شكّلت خطرًا على منابع النفط في الخليج، أو على وجود إسرائيل بشكل مباشر، أو على أمن أوروبا.
توسّع الدور التركي
نتيجة لغياب الدور العسكري الأمريكي، وفي ظل غياب قدرة أي بلد على التدخل المباشر، ستبرز تركيا، بسبب موقعها وتاريخها، باعتبارها اللاعب الوحيد المرشّح لتوسيع دوره بشكل ما، على الأقل لإحداث نوع من الاستقرار على المدى القصير في سوريا والعراق، في صورة اتفاقات بين الحين والآخر بين الأطراف المختلفة، وفي نفس الوقت إيجاد صيغة للتعايش على المدى البعيد، ربما بالتعاون والتنسيق مع إيران.
على العكس من إيران، والتي لا يهددها غياب الاستقرار في الشام بسهولة، نظرًا لوجود حزام شيعي عراقي يحول بينها وبينه، ونظرًا لطبيعة إستراتيجيتها في المنطقة والتي تستند لخلق جيوب عسكرية لها لا تمانع في الدخول في صراعات طويلة، تُعتَبَر تركيا أكثر حرصًا على استقرار المنطقة، حيث يمسها العنف والفوضى بشكل مباشر في جنوبها، كما أن مشروعها في المنطقة يعتمد على التمدد الاقتصادي والسياسي المرهون بالاستقرار، أضف إلى ذلك أن دورها الذي تتطلع للقيام به في مناطق أخرى كالبلقان والبحر الأسود يستوجب معه التأكد من استقرار جبهتها الشرقية.
تباعًا، ستصبح تركيا في القلب من الأحداث السياسية الجارية في المنطقة، وستشكل تحالفات مختلفة لتعزيز إستراتيجيتها تمتد إلى شمال أفريقيا (المغرب وتونس)، وتتحرك بين السعودية وإيران بدينامية لتحقيق أهدافها، وإن كانت ستميل إلى السعودية أكثر نظرًا لتعامد أهدافهما في المشرق بشكل أكبر، وهو ما يعني احتدام التنافس مع إيران في المرحلة المقبلة.
في هذا السياق، سيستمر التحالف الأمريكي التركي بل وقد يزداد في الفترة المقبلة، إذ تحتاجه تركيا لإحداث التوازن مع إيران وحمايتها من أي خطر مباشر على أراضيها في المستقبل، وهو دور سيقدمه الأمريكيون في مقابل اضطلاع أنقرة بدور أكبر في احتواء الروس في شرق أوروبا، وهي المنطقة التي تحاول واشنطن تخفيف وجودها فيها لصالح أسيا ولكنها تعاني من غياب أي بديل لدورها العسكري، وتركيا هي أفضل المرشحين حاليًا، خاصة بالنظر لعلاقاتها القوية مع جيورجيا وأذربيجان ودول مختلفة في البلقان وبولندا.
في المُجمَل، وبعد أن كانت طوال العقد المنصرم قوة على الهامش تحاول استعادة مركزيتها الإقليمية، ستصبح أنقرة خلال العقد المقبل بالفعل المركز الرئيسي لكل ما يدور في المشرق، هو ما يعني تحوّلًا سيؤثر على بنيتها الداخلية كدولة، فمن المتوقع أن يتحول حجم وطبيعة وعقيدة أجهزتها الدبلوماسية والاستخباراتية والعسكرية لتتناسب مع دورها الجديد.
في المُجمَل، يتوقع تقرير ستراتفور بزوغ القوة التركية بشكل أكبر في الفترة المقبلة، واضطلاعها بالدور الأكبر في إرساء قواعد المنظومة الجديدة، بالتنسيق مع قوى موجودة وستبقى بالفعل مثل إيران، وبالتعاون مع حليفها الدولي الرئيسي، الولايات المتحدة.