قام مجلس اللوردات البريطاني أول أمس بإجازة تعديلات على القانون المعنيّ بعيادات التخصيب الصناعي ليسمح لها باستخدام تقنية “زراعة الميتوكوندريا”، المعروفة باسم التخصيب الثلاثي (3 Person IVF)، بعد موافقة 280 عضوًا مقابل اعتراض 48، لتصبح بريطانيا أول بلد في العالم يجيز هذه التقنية، فاتحة باب النقاش بين أنصار التخصيب الثلاثي ومنتقديه داخل بريطانيا وخارجها.
وكان التعديل، والذي تم تمريره منذ أسبوعين في مجلس العموم البريطاني، يقضي بإيجاد حالة استثناء تسمح باستخدام هذه التقنية، مع الحفاظ على نص القانون الذي يقضي بحظر أي إجراء يؤدي لتعديل جيني في المعمل يمكن أن يتم توارثه بعد التخصيب من ذرية لأخرى، وهو تعديل مبني على أهمية زراعة الميتوكوندريا، والتي تسمح للأمهات اللواتي تعاني الخلايا الخاصة بهنّ من وجود أمراض في الميتوكوندريا (عضيّ من عضيّات الخلية)، بالحصول على أخرى سليمة من امرأة تقوم بالتبرّع ببعضٍ من بويضاتها.
ما هو التخصيب الثلاثي؟
الميتوكوندريا هي واحدة من أهم مكوّنات الخلية، وتلعب دورًا مهمًا في توليد الطاقة الخلوية وتنظيم نموها، وتُعَد مكوّنًا مثيرًا لامتلاكها حمض نووي خاص بها منفصل عن الحمض النووي الأساسي المتعارف عليه داخل نواة الخلية، ونظرًا لأهميتها تلك يُعَد أي مرض فيها، أو تحوّر في حمضها النووي، خطرًا يمكن أن يرثه الجنين من أمه؛ بما يؤدي إلى خلل في وظائف أي من الدماغ والكبد والقلب والكلة وجهاز التنفس، وهي أمراض تصيب بالفعل واحدًا من 5.000 إلى 10.000 شخص.
الأم هنا هي محط الأنظار لأن الجنين يرث الحمض النووي الخاص بالميتوكوندريا من الأم، وبالتالي فإن تقنية زرع الميتوكوندريا تستهدف فقط الإناث ذوي الميتوكوندريا المريضة، وذلك عن طريق استخلاص الحمض النووي الخاص بها وجمعه في بويضة واحدة مع الحمض النووي الخاص بميتوكوندريا سليمة من امرأة أخرى، ومن ثم تخصيبهما مع الحيوان المنوي المطلوب.
تباعًا، وعلى المستوى البيولوجي والجيني، يرث الجنين مواد وراثية من أب وأم وامرأة متبرّعة، وهو ما أدى لرواج مصطلح “التخصيب الثلاثي”، إلا أن الجنين في الواقع لا يحصل إلا على 0.2٪ فقط من المواد الوراثية من المتبرّعة، مقابل 99.8٪ من أبيه وأمه بشكل طبيعي.
بالنظر لكون هذا القانون أول تشريع يسمح بإجراء تعديلات جينية يمكن توارثها، فإنه قد فتح باب النقاش على مصراعيه في أوروبا والولايات المتحدة حول أخلاقية التشريع، بين من يقولون بأنه ليس تخصيبًا ثلاثيًا في الحقيقة وإنما عملية أشبه بزرع الأعضاء ولكن على المستوى الجيني، وأنه يعطي الفرصة للكثير من النساء في إنجاب أطفال أصحاء، وبين ما يقوله المنتقدون من أن التشريع سيفتح الباب أمام التلاعب الجيني بالأجنّة، وقد يعرّض هؤلاء الأطفال في المستقبل للخطر نظرًا لتشابك المهام التي يقوم بها الحمض النووي العادي وحمض الميتوكوندريا النووي.
ردود أفعال مختلطة
“العائلات التي تعاني من رعاية أطفالٍ مرضى نتيجة لعلة في الميتوكوندريا هم الأحق بتقرير ما إذا كانت تقنية كهذه ستفيدهم أم لا، ونحن نشيد بالطبع بدور البرلمان في إتاحة هذه الفرصة لهم مادامت الإجراءات تخضع لقواعد النظام البريطاني في هذا الصدد”، هكذا قال جيريمي فرار، مدير مؤسسة ويلكام تراست، والتي تدعم البحوث الخاصة بزراعة الميتوكوندريا.
بدوره، قال الصحافي مات ريدلي، مؤلف العديد من الكتب العلمية واسعة الانتشار في بريطانيا، والعضو عن الحزب المحافظ، أن رفض التشريع يعني ببساطة تمديد آلام مرضى الميتوكوندريا المعلولة، وأنه “يجب على الجميع دعم هذه الخطوة في بريطانيا، والتي طالما قادت العالم في الكثير من الإنجازات والتطورات البيولوجية”.
على الناحية الأخرى، يقول دميان دولينغ، الباحث بجامعة موناش في أستراليا، إن بعض البحوث تشير إلى أن الخلايا التي ينتمي فيها الحمض النووي العادي والحمض النووي للميتوكوندريا إلى والدتَين مختلفتين، تُظهر تغيّرًا في الطريقة التي تتصرف بها، بدءًا من معدّل النمو وحتى القدرات الذهنية، وهي تغيّرات غالبًا ما ستكون للأسوأ.
ويضيف دولينغ أن زراعة الميتوكوندريا في هذا السياق ليست مجرد استبدال مكوّن بآخر كما الحال في زراعة الأعضاء، ولكنها استبدال خيط في شبكة جينية معقّدة لاتزال في حاجة للمزيد من البحوث للتيقّن من سلامتها، أو على أقل تقدير تعريف الرأي العام، وخاصة النساء اللائي سيُقبِلن على التخصيب الثلاثي، على مختلف البحوث والنتائج التي لا ترسم الصورة البراقة التي يرسمها البعض للتقنية الجديدة.
ردًا على هذه الحجج، يقول أنصار التخصيب الثلاثي إن التشريع البريطاني يمنع تمامًا استخدامه للتجارب والتلاعب، وأنه يضع إجراءات صارمة للقيام به تقتصر على المريضات بالعلة المذكورة آنفًا، وتخضع لرقابة هيئة التخصيب والأجنة البشرية في بريطانيا HFEA، والتي تدرك جيدًا كافة الاستنتجات التي تقولها مختلف البحوث، وتعرف آفاق وحدود استخدام هذا النوع من التخصيب، وأن تركيز الإعلام على فكرة الآباء الثلاثة مبالغ فيها وغير دقيقة، وتثير الضجة ليس إلا، في حين أن الأمر لا يعدو عملية زراعة على مستوى دون الخلية.
في جميع الأحوال، وكما يقول ستيفن ويلكينسون، أستاذ الأخلاق البيولوجية في جامعة لانكاستر، لا يمكن مقارنة تغيّرات وراثية يُحتَمل حدوثها في المستقبل لذرية هذه الأجنة، بما قد يعانونه هم بالفعل من أمراض نتيجة اعتلال الميتوكوندريا لدى أمهاتهم، وهو أمر جدير، على أقل تقدير، ببدء العمل على هذه التقنية بالتوازي مع تكثيف البحوث والدراسات حتى يظهر لنا استنتاج يشير إلى خطر واضح وحقيقي.
بعد التشريع البريطاني، ستتجه الأنظار إلى الولايات المتحدة باعتبارها البلد الآخر الوحيد الذي يجري تجارب في مجال زراعة الميتوكوندريا، حيث قام باحثون في جامعة أوريجون للصحة والعلوم بتركيب كيسة أريمية (Blastocyst) ثلاثية وأثبتوا قدرتها على التطور إلى خلايا جنينية جذعية صحية، كما يعمل على هذه التقنية أيضًا باحثون بجامعة كولومبيا في نيويورك، والذين نشرت أبحاثهم في مجلة نيتشر المرموقة، هذا ويقر باحثو أوريجون بأن التخصيب الثلاثي يُعَد نوعًا من التعديل على المستوى الجنيني، والذي ترفضه الغالبية العظمى من المشرعين والعلماء، ولايزال مجرّمًا في كافة القوانين.
“دائمًا ما يتم اتهامنا بلعب دور الإله، ولكننا في الحقيقة لا نحاول أن نحل محله، ولكن فقط أن نضيف إلى ما وهبه إيانا”، هكذا علّق اللورد وينستون بالأمس على تمرير التشريع.