ترجمة من الفرنسية وتحرير نون بوست
انتشرت في الولايات المتحدة الأمريكية ظاهرة “التعليم المنزلي”، أي استبعاد الطفل من المدرسة وتعليمه في المنزل؛ وحسب المعهد القومي للبحث في التعليم المنزلي، وهو مؤسسة مختصة في البحث في هذا النوع من التعليم، فقد تم سنة 2011 استبعاد أكثر من 2.3 مليون طفل أمريكي من المدرسة من قبل والديهم، مما يعني ذلك ارتفاعًا بنسبة 75% خلال 14 سنة.
وعادة يرجع السبب الرئيسي وراء اختيار الوالدين إلى قناعات دينية؛ ففي 2009 بحثت روبرت آل ويست، البروفيسور في ولاية “ماريلاند” في التعليم المنزلي وتأكد لها أن هذا الممارسة كان يقوم بها بالأساس البروتيستانت الأصوليون “لأنهم لا يوافقون على اللائكية، ولا على الليبيرالية، ولا على النزعة الإنسانية، ولا على طريقة التنشئة ذات التوجه النسوي”، وفي بعض الحالات لا يوافقون حتى على وجود المدارس العمومية أصلاً.
وفي سياق متصل، خلصت دراسة أخرى أجرتها وزارة التعليم الأمريكية، إلى أن الأولياء يستبعدون أبناءهم من المدارس لأنهم يعتبرون أن المادة التعليمية المقدمة غير كافية أو لأن المدرسة بعيدة جدًا عن مكان الإقامة أو كذلك لأنهم يعتقدون أن ذلك أفضل لسلامة أبنائهم؛ وازداد انتشار الظاهرة بسرعة بعد حادثة إطلاق النار على مدرسة في مدينة “نيوتاون”.
ولكننا نتحدث هنا عن فئة من الناس الذين لهم دوافع أخرى تمامًا جعلتهم يفضلون التعليم المنزلي: إنهم يريدون حماية أطفالهم من العنصرية، وقد تناولت صحيفة “الآتلانتيك” موضوع الأولياء السود الذين اختاروا استبعاد أطفالهم من المدرسة في مقال طويل وشيق.
أستاذ يشبههم
حسب المعهد القومي للبحث في التعليم المنزلي فإن 200 ألف طفل أمريكي من أصول أفريقية انقطعوا تمامًا عن الدراسة ويزاولون تعليمهم في المنزل، وهم يمثلون 10% من تلاميذ التعليم المنزلي (مقابل 16% من العدد الإجمالي للمرسمين في المدارس العمومية في كامل أنحاء البلاد، وذلك حسب المركز القومي لإحصائيات التعليم).
وقد أوردت صحيفة “الآتلانتيك” كمثال حالة الطفل الأسود مارفيل روبينسون، ذي الـ 7 سنوات الذي أصيب بمتلازمة “أسبرجر” وهي نوع من التوحّد، لقد كان الأسود الوحيد في قسمه وواحدًا من بين القليل في مدرسته في “سان دياغو”، وبحسب والدته فإنه تتم مضايقته والسخرية منه باستمرار بسبب لون بشرته، وأضافت “بسبب تعرضه للمضايقات سيتنهي بنا المطاف إلى تغيير المدرسة أو إلى العودة إلى “كينساس”، فهنالك على الأقل يوجد تعدد عرقي أكثر، وفي النهاية قرّرت ترتيب ساعات العمل بحيث تعمل في نهاية الأسبوع كي تستطيع أن تدرس ابنها.
هذا النقص في التنوع العرقي يتذمر منه أولياء آخرون، إذ تبلغ نسبة المعلمين الأمريكيين السود أقل من 2% من إجمالي المعلمين، “معظم السود الذين يذهبون إلى المدرسة لم يجدوا أمامهم أبدًا أستاذًا يشبههم”، هذا ما قالته باولا بين نابريت، وهي أم أخرجت أبناءها الثلاثة من المدرسة منذ سنة 1990 وكتبت حول ذلك رواية بعنوان “كيف ندرّس أبناءنا الأمريكيين من أصول أفريقية في المنزل لنوصلهم إلى رابطة اللبلاب” (وهي رابطة رياضية تجمع جامعات تُعتبر من الأقدم والأشهر في الولايات المتحدة الامريكية)، وهو كتاب أحدث جدلاً حتى من قبل الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية ذاتهم لأن خال هذه المرأة كان من بين المحامين الذين سمحوا بإصدار أمر أٌقرّ الفصل العرقي داخل المدارس العمومية، وهو أمر مخالف للدستور.
وتضيف هذه السيدة قائلة: “العديد من الناس، وبسبب مشاركة عائلتي في إدماج السود في النظام التعليمي، يعتقدون أن استبعادي لأطفالي من هذا النظام كان نوعًا من الخيانة لهم ومهدمًا لكل جهودنا”، فاستبعاد السود لأبنائهم من المدارس يراه البعض مظهرًا من مظاهر الجحود.
الوقاية من المعاملة العنصرية
وذهبت باولا بين نابريت إلى ما هو أبعد من فكرة التعليم المنزلي بعد التأكد من وجود وقائع عنصرية ثابتة، لقد دعت إلى الوقاية من المعاملة العنصرية: “أظن أنه على جميع العائلات السود القادرة على تعليم أبنائها في المنزل أن تقوم بذلك من أجل تجنب أن يُصنف أبناؤهم على أنهم مثيرو شغب لأنه متوقَع منهم أن يتصرفوا ويتعلموا بطريقة مغايرة عن البقية”.
وقد تبدو هذه الوقاية غير مناسبة، إلا أن الأمر هو بالأساس ردّ على نتائج الفشل؛ فبعد أكثر من خمسين سنة من إعلان عدم قانونية الفصل العنصري في المدارس، لايزال بعض التلاميذ السود يتعرضون لمعاملات عنصرية وخاصة للعزلة، وفي نفس الصدد تحدّثت واشنطن بوست سنة 2010 عن حالات عديدة من إنشاء لمدارس “عنصرية”، ففي منطقة ميسيسيبي كانت مدرسة ثانوية تتكون من 75% من التلاميذ السود وتتكون أخرى من ثلثين من التلاميذ البيض، فطالب أولياء التلاميذ البيض بتسجيل أبنائهم في المدرسة الثانية “لأنهم سيشعرون براحة أكثر هناك”، وتعرض صحيفة سليت دراسات تثبت أن الفصل العنصري في المدارس الأمريكية موجود أكثر مما كان عليه قبل تخفيف الحكومة من تنفيذ القوانين ذات الصلة بالحقوق المدنية في ثمانينات القرن الماضي.
وتُوجت هذه البحوث بدراسة أجرتها وزارة التعليم الأمريكية أثبتت أن “حظوظ” التلاميذ السود في الطرد الوقتي أو النهائي أكبر بثلاث مرات ونصف؛ فالطريقة البيداغوجية المقترحة من قبل المؤسسات التعليمية تختلف حسب لون بشرة التلاميذ: 29% من المدارس ذات التواجد الأكبر للأقليات يقدّمون دروسًا في الحسابات الرياضية، في حين تقدّم هذه الدروس في 55% من المدارس التي تقل فيها نسبة تواجد الأقليات”، وحتى أجور المعلمين الذين يعملون في المدارس المتواجد بها نسبة كبيرة من الأقليات أقل من أجور المعلمين الذين يعملون في المدارس الأخرى (أقل بـ 2251 دولار في المعدل).
تعليم أوروبي التوجّه
ويُضاف إلى هذا، حسب أما مازاما، العضو في قسم الدراسات الأمريكية الأفريقية في جامعة فيلاديلفيا، أن النظام الدراسي الأمريكي التقليدي يحرم الأمريكيين من أصول أفريقية من التعرف على ثقافتهم ويجعلهم يسبحون في تعليم “أوروبي التوجه”، وتضيف أما مازاما قائلة: “الدروس التي تهم ثقافة السود تبدأ بالعبودية وتنتهي بالحركات المطالبة بحقوقهم المدنية؛ كتلميذ أسود تسمع المعلم يتحدث عنك كما لو كنت من سلالة العبيد، وهو شيء غير مشجع، فالتاريخ الأفريقي أكبر من هذا بكثير، وترى أما مازاما أن الأولياء السود الذين يدرسون أبناءهم في المنزل يعتنون بالحديث عن خصوصيات التاريخ الأفريقي وثرائه، مما يسمح لهؤلاء الأطفال بالشعور بالثقة في النفس وبالاعتزاز العرقي.
وعلى كل حال، فقد أحرز مارفيل الصغير تقدمًا كبيرًا حسب ما روت أمه، “فهو الآن يقول إنه يريد العمل في وكالة الفضاء ناسا، فنقترح عليه أن يواصل دراسته التخصصية في هذا المجال. (…) أريد فقط أن يكون ابني مفكّرًا حرًا وفضوليًا في كل شيء، وكم تمنيت أن تتاح لي مثل هذه الفرصة.
المصدر: موقع سليت