صدر تقرير توقعات العقد Decade Forecast الذي تصدره شركة ستراتفور كل خمس سنوات لتتكهن بما ستؤول إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية في شتى أنحاء العالم خلال السنوات المقبلة، وهو تقريرها الخامس منذ صدور أول تقرير عام 1996، وكان التقرير السابق الصادر عام 2010 قد تنبأ بالكثير مما جرى خلال الأعوام الخمس الماضية، أبرزها تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني وتزايد الاضطرابات في شرق أوروبا وتفاقم الأزمة المالية الأوروبية وبداية احتواء الولايات المتحدة لإيران.
هنا، نقدم أبرز ما جاء في تقرير 2015 فيما يخص شرق أسيا والاقتصادات الصاعدة.
تحولات العملاق الصيني
يتنبأ تقرير ستراتفور بتحول كبير في طبيعة الاقتصاد الصيني، نظرًا لانتقاله من مرحلة الاقتصاد السريع الرخيص، إلى مراحل أكثر تطورًا وأبطأ في النمو، كما جرى مع اليابان من قبله، وهو اتجاه بدأنا نراه في الصين بالفعل، حين سجل نموها الاقتصادي العام الماضي أقل معدل له منذ عام 1990، إذ أصبحت تكاليف الاستثمارات مرتفعة نظرًا لارتفاع الرواتب وصعود طبقة وسطى ضخمة ذات تطلعات أكبر، وهو نمط طبيعي بالنظر لآليات تطور الرأسمالية الذي شهدته كافة البلدان التي سبقت الصين.
بشكل عام، تتطلب الرأسمالية مناطق تتمتع برواتب منخفضة ومعدلات نمو مرتفعة، وفي كل مرحلة من مراحل تطورها، كان هناك بلد كبير، أو مجموعة من البلدان الصغيرة المجتمعة، التي تؤدي هذا الدور قبل أن تنتقل إلى مرحلة أخرى في السلَّم الرأسمالي تاركة الاقتصاد السريع الرخيص لبلد آخر، حيث تبدأ نجاحات السوق في خلق تطلعات جديدة لدى طبقة وسطى متنامية، بما يؤدي إلى ارتفاع الرواتب، وتوسع الاستهلاك وقطاع الخدمات مقابل انخفاض حصة الاستثمارات الرأسمالية والصناعة.
على سبيل المثال، في ثمانينيات القرن التاسع عشر، كانت الولايات المتحدة هي المنطقة الصاعدة بسرعة والمليئة بالاستثمارات ورأس المال الجديد والمخاطِر، أما خلال العقدين الماضيَّين، فكانت الصين تقوم بهذا الدور، بعد أن حلّت محل اليابان، وهي بصدد تركه لبلدان أخرى الآن بينما تتخذ “المنعطف الياباني”، حيث تشهد حاليًا ارتفاع حصة قطاع الخدمات، وهو قطاع استهلاكي أكثر منه استثماري كما نعرف، في مقابل انخفاض وتيرة الإنفاق العالية على البناء والعقارات التي شهدتها السنوات الماضية.
هذا التحول الصيني، والطبيعي، سينعكس على الداخل والخارج، لاسيما على المستوى السياسي والاجتماعي، إذ إن المناطق الساحلية الأغنى في الصين طالما اعتمدت على معدلات النمو والإنتاج المرتفعة، والتبادل التجاري مع المستهلكين الأمريكيين والأوربيين، مما يعني أن هبوطها سيبرز تحديات سياسية كبيرة للنظام الصيني، وهو ما يفسر الحملة التي دشنها الحزب الشيوعي لمواجهة الفساد، واضطلاعه بدور أكبر في قمع الشركات الملوثة للبيئة بشكل غير مقبول، وهو اتجاه تسلكه بكين في الحقيقة لكبح الإنفاق المبالغ فيه، والذي لم يعد الاقتصاد الصيني قادرًا على تحمله.
تظهر لنا آثار التباطؤ الصيني فيما يجري مؤخرًا في مشاريع الاستثمار الضخمة في المدن، والتي تباطأ أو توقف بعضها، كما حدث في مدينة أوهان الصناعية في شرق الصين، حيث أوقفت الحكومة المحلية مشروع تشييد جسر كبير يعبر نهر يانغتسي بتكلفة 1.28 مليار دولار، نظرًا لعدم توافر الأموال اللازمة.
في هذا السياق، يتوقع تقرير ستراتفور تزايد الاتجاه الاستبدادي للحكومة الصينية، وهو يضع حملة مواجهة الفساد الأخيرة في إطار سياسة جديدة تطمح إلى زيادة المركزية السياسية والاقتصادية، ومحاولة توحيد صناعات مثل الفحم والحديد شهدت نوعًا من الانقسام والتفتت نتيجة السياسيات الرأسمالية التي طبقتها الحكومة في العقود الماضية، وهو توجه ستحاول بكين تطبيقه بحذر لكيلا تخلق معارضة لها بين ولايات الساحل الغنية، لاسيما وقد تحاول بكين تحويل رؤوس الأموال من الساحل الشرقي إلى الداخل الغربي، لتستفيد من مساحات لم تنل ثمار النمو الاقتصادي بالكامل، وقد تستطيع الاستمرار في مرحلة الاقتصاد السريع الرخيص لفترة أطول.
حرب باردة صينية يابانية
يتوقع تقرير ستراتفور أن تحاول بكين تطعيم خطابها “الإصلاحي” الجديد، والهادف نحو تعزيز قوة المركز، ببعض من القومية، والتي قد تعطيه شرعية وشعبية أكبر بين الصينيين، لاسيما بمواجهة اليابان، الغريم الرئيسي في شرق أسيا للطموح الصيني، والذي لا يحاول فقط احتواء الصين في المحيط الهادي، ولكنه قد ينافسها أيضًا حال بدأ سيناريو التصدّع الروسي الذي تنبأ به التقرير، حيث تعج المناطق الشرقية في روسيا بالثروات الطبيعية والإمكانيات الاقتصادية التي قد يحتاجها كلاهما لتعزيز قوته الاقتصادية وموقعه الإستراتيجي في أسيا.
ستكون القوة البحرية على وجه الخصوص عاملًا رئيسيًا في الصراع بين بكين وطوكيو، نظرًا لأهميتها في خلق قواعد انطلاق متحركة بعيدة عن البرّ، فالحرب البرية بالطبع غير واردة بين الطرفين لتهديدها لاقتصاديهما، وللاقتصاد العالمي بأسره.
تعاني الصين في مجال القوة البحرية من قلة الخبرة والقيادات العسكرية المخضرمة مقارنة بالولايات المتحدة، حليف اليابان صاحب القواعد المتفرقة في المحيط الهادي، وحتى مقارنة باليابان، والتي تمتلك تاريخًا بحريًا طويلًا نظرًا لطبيعتها الجغرافية كجزيرة معزولة، وهي خبرة جمّدتها اليابان على مدار سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية إثر خسارتها واعتمادها على واشنطن، ولكنها بدأت مؤخرًا في الظهور بمواجهة السياسات الصينية الجديدة.
في هذا السياق، يتوقع التقرير اهتمام اليابان بقوتها العسكرية في السنوات المقبلة، خاصة وأنها تعتمد بشدة على وارداتها من الطاقة والثروات الطبيعية من جنوب شرق أسيا والخليج حيث ممرات الملاحة الإستراتيجية عالميًا التي تحميها الولايات المتحدة الآن، والتي قد تتأثر جراء تراجع النفوذ الأمريكي من تلك المناطق، تاركة كل بلد ليضطلع بأمن تجارته في العالم بنفسه.
في المُجمَل، سيتصاعد الدور الصيني لأسباب سياسية واقتصادية في المحيط الهادي، وكذلك الاستعداد الياباني لاحتوائه، وستشهد المنطقة تنافسًا قد يتطور لمناوشات بحرية بين الحين والآخر حول التركة الروسية بشكل خاص، والتي يتوقع التقرير حدوثها بالنظر لتراجع القدرة البحرية الروسية على حماية مصالحها في الشرق وانشغالها بالجبهة الغربية في أوروبا والبحر الأسود، وهو ما يعني حربًا باردة بين اليابان والصين، على غرار الحرب البادرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، لا نشهد فيها أي مواجهات مباشرة بين الطرفين، بقدر ما نشهد محاولات احتواء مستمرة، ومواجهات مباشرة ربما، في إطار المنافسة بينهما على الهيمنة في أسيا.
ما بعد الصين: معاقل استثمار جديدة ونمو أمريكي
بعيدًا عن أسيا، وبالنظر إلى تبعات كل ذلك على المستوى العالمي، قد لا تكون المواجهات السياسية والعسكرية ذات أهمية بقدر التحولات الاقتصادية، وبالتحديد تحول الاقتصاد الصيني، فصعود الصين إلى مرحلة رأسمالية جديدة كما أشرنا أنفًا سيتطلب ظهور مناطق نمو مرتفع جديدة كثيرة ومتوزعة على شتى أنحاء العالم لتستطيع لعب نفس الدور الصيني في الاقتصاد العالمي، وهو دور دائمًا ما توجد مناطق طامحة للاضطلاع به.
في هذا الصدد، يشير تقرير ستراتفور إلى 16 بلدًا، بتعداد سكاني مجمَّع يبلغ 1.15 مليار شخص، ستقوم بالدور الصيني خلال العقد المُقبِل، وهي بلدان تم اختيارها على أساس دراسة ثلاث صناعات مهمة، الأولى هي صناعة الملابس، خاصة الأجزاء الرخيصة منها، كأطرافها مثلًا كما يحدث مع صناعة المعاطف، والثانية هي صناعة الأحذية، والثالثة هي صناعة أجزاء من الهواتف المحمولة، وتلك الصناعات الثلاثة بالذات تُعَد مؤشرًا مهمًا على ماهية الاقتصادات الجديدة الصاعدة لأنها تتطلب رأسمال منخفض، حيث تتحرك الشركات الكبرى فيها بسرعة من بلد لآخر لاستغلال المناطق ذات الرواتب المنخفضة.
عادة ما تكون هذه البلدان غير مستقرة بالكامل من الناحية السياسية، ولا تمتلك منظومة قانون واضحة وصارمة، وتعاني من بنية تحتية هشة، وهو ما تتجنبه الصناعات الثقيلة والمتطورة، على عكس الصناعات الخفيفة والرخيصة، والتي تقوم منذ عقود ببناء نماذج استثمارية واقتصادية خصيصًا لاستغلال هذه البلدان والعمل فيها.
أين توجد إذن هذه البلدان الآن؟ معظمها موجود في حوض المحيط الهندي، في جنوب شرق أسيا وشرق أفريقيا، بالإضافة إلى أمريكا اللاتينية، وهي إندونيسيا والفيلبين وفيتنام وكامبوديا ولاوس وميانمار وبنغلادش وسري لانكا وإثيوبيا وكينيا وتنزانيا وأوغندا والمكسيك وجمهورية الدومينيكان ونيكاراجوا وبيرو، ويتوقع تقرير ستراتفور أن تتولّى هذه المجموعة الدور الاقتصادي الصيني، السريع والرخيص، بينما تتجه الصين لمرحلة جديدة في السوق العالمي.
للمفارقة، ونظرًا لهبوط أسعار النفط والغاز في الولايات المتحدة، فإن تكاليف الصناعة في الكثير من الولايات الأمريكية أصبحت تنخفض، وبالأخذ في الاعتبار ارتفاع نظيرتها الصينية كما أشرنا سابقًا، فإن التكاليف هنا وهناك تقترب من بعضها البعض بشكل كبير، مما يعني أن الولايات المتحدة نفسها قد تكون أحد معاقل الاقتصاد السريع الرخيص في الفترة المقبلة، وهو ما رأينا بوادره العام المنصرم حين حقق الاقتصاد الأمريكي نموًا غير مسبوق منذ 11 عامًا.
على سبيل المثال، تُعَد تكاليف الاستثمار في ولاية تكساس حاليًا قريبة جدًا من الصين، وهو مؤشر على أن الشركات الأمريكية قد لا تجد الحافز للاستثمار خارج الولايات المتحدة في الفترة المقبلة كما كانت تفعل سابقًا، وستستغل بدلًا من ذلك المناخ الاقتصادي “النامي” في الداخل.
الشركات الأمريكية ليست فقط المستفيد من هذا النمو الأمريكي، بل يبدو أن الشركات الصينية، والتي تواجه ارتفاعًا في التكاليف داخل بلادها، ستتجه هي الأخرى للتواجد في السوق الأمريكي، وهو اتجاه بدأ العام الماضي حيث تزايد الاستثمار الصيني في أمريكا، فبعد أن وصل بالكاد إلى 400 مليون دولار خلال 2011 و2012 و2013، بلغ ملياريّ دولار خلال عام 2014 فقط، كما تضاعفت الوظائف الأمريكية التي تقدمها شركات صينية من 20،000 في 2010 إلى 80،000 العالم الماضي.
——-
بتحوّل العملاق الصيني نحو اقتصاد استهلاكي متقدّم ونمو بطيء، وعودة الولايات المتحدة جزئيًا إلى جني ثمار مرحلة النمو السريع والرخيص – جنبًا إلى جنب مع وجودها على خريطة الاستهلاك والاقتصاد المتقدّم بالطبع – وباتجاه رأس المال الصيني بشكل أكبر إلى الخارج، بينما يزداد انكفاء نظيره الأمريكي في الداخل، وعودة اليابان كقوة بحرية، ورغبة الصين في تعزيز مكانتها السياسية والعسكرية، كيف سيؤثر كل ذلك على الولايات المتحدة، وكيف سينعكس على دورها في الخارج، لسيما في آسيا والمحيط الهادي؟ هذا ما يناقشه الجزء الأخير من التقرير.