قامت الحضارة الأوروبية على اعتقاد لا يمكن وصفه بالإنساني، قامت على فكرة الخلاص، بكل بشاعات هذا الخلاص، من مطاردةٍ وقبضٍ ثم صلبٍ مزعوم على خشبتين عملاقتين وبمسامير طويلة تخترق أطراف الضحية، ثم يعلق على باب المدينة ليجف دمه من كل السوائل، وبعد وفاته لم يكتفوا بتركه في قبره بل زعموا أنه خرج وأظهر لهم جروحه وفراغات جسده وبعدها وبكل بساطة يرحل صاعدًا إلى السماء، ولكن هذه الجريمة المزعومة ضد عيسى عليه السلام والتي – كمسلم – لا أؤمن بها لأن الله يقول: {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم} هي ما فتح الباب للمسيحيين بحرق وصلب كل من وقف ضد دينهم أو شكك فيه، وذلك من القرن الرابع إلى القرن العشرين، بل وحتى يومنا هذا ولكن بحروب وحروق أكثر ذكاءً.
في القرن الرابع انتشرت المسيحية إلى أسيا الصغرى وبها غزت أوروبا وعاصمتها روما، فحرقوا كتب الرومان وآلهتم ودمروا معابدهم ووضعوا الناس للسيف وصلبوا كل من رفض هذا الدين، وجعلوا المسيحية دين الدولة وما عداها فهو محرمٌ يوجب القتل، وهكذا تم مسح آثارٍ رومانيةٍ كثيرة ولم ينجو منها إلا ما تم إخفائه أو تسريبه خارج هذه البلاد، بعد أعوام، وصل هذا الدين إلى مصر وفُعل بالإسكندرية ما فُعِل بغيرها من المدن ولكن هذه الجرائم وصلت ذروتها في عام 385 م في أول جريمة حرق لإنسان حي بتهمة “الكفر”.
وصل هذا التفكير الإجرامي إلى قرطاج بعد ست سنوات من جرائم الإسكندرية؛ فحرقوا ودمروا المعابد وقتلوا وحرقوا الكثير من الوثنيين “الكفار” في داخل هذه المعابد، وبعد ما يقارب من العقدين من الزمن تفشى هذا الفكر الفاشي فلم يعد للوثنيين ملاذ إلا اعتناق هذا الدين والتسليم لرجل مصلوب على خشبة بدل أن يُصلبوا هم كما حدث للكثيرين في روما والإسكندرية وقرطاج وغيرها.
في سنة 415 م قام “الثوار المؤمنون” بأفكار الخلاص بمهاجمة وقتل هيباثيا الإسكندرية، كانت هيباثيا فيلسوفة وباحثة في علوم أفلاطون الحديثة وكانت سيدة عصرها في الحساب وعلم الفلك، كانت تؤمن بالبحث الرياضي والمنطقي للوصول إلى حقيقة الأشياء بدلاً من البحث التجريبي، بحسب هؤلاء الغوغاء كانت جريمتها ممارسة السحر والشعوذة والإلحاد، فجروها من شعرها في شوارع الإسكندرية، جردوها من ملابسها وربطوها بالحبال وظلوا يجرونها حتى سلخت الأرض جلدها، وبعد موتها البشع لم يكتفوا بترك جثتها أو دفنها، بل أعدوا لها كومة من الأخشاب وألقوها فيها ثم أشعلوا فيها النار.
وبقتلهم لهيباثيا تم الخلاص من الفلاسفة “الكفار”، أذ انهم فروا بأرواحهم إلى بلاد فارس والهند وأغلقت أبواب مدرسة أثينا في الإسكندرية، وبهذا اندحرت الإسكندرية كعاصمة للعلم وأصبحت عاصمة للفاشية وجرائم الصليب، حمل هؤلاء العلماء الفاريين من الإسكندرية وغيرها معهم أهم كتب عصرهم في الحساب والفلك والهندسة والطب واحتفظوا بها وعلموها لطلابهم حتى وصل إليهم المسلمون وترجموها للعربية واستفادوا منها وطوروها، في الوقت الذي كانت أوروبا غارقة في بحر من الخلاص الدموي بعد أن أحرقوا كل الكتب العلمية، وأصبح العلم محصورًا على الكنيسة، حتى إنهم حرقوا كل من شكك ولو مازحًا في الكنيسة وتعاليمها.
أما جرائم مسيحيي القرون الوسطى فحدِث ولا حرج، من محارق جماعية إلى ذبح في الشوارع كما حدث في جنوب فرنسا باسم المسيح وخاصة في عام 1209م عندما أمر البابا أنونسنت الثالث بإطلاق حملة ضد البيجان وتم ذبح 7000 شخص في كنيسة مادلين وحدها، وبعد عامين جريمة كبرى في ستراسبرغ تم فيها حرق العديد من “الكفار” أحياء، وبعد واحد وثلاثين سنة تبدأ محاكم التفتيش لتطهير المجتمع من المنافقين والمندسين وأعداء الكنيسة
وبعد قرن من هذا الجهل، يضرب الطاعون الأسود أوروبا ولا خلاص لها لأن الكنيسة حرّمت الطب لأنه من الشعوذة والكفر؛ وبهذا مات ثلث سكان أوروبا، والمفارقة المضحكة المبكية هي أنهم وضعوا كل اللوم على اليهود لأنهم – وبحسب الكنيسة – قاموا بسحر كبير استخدموا فيه نوعًا من الثعابين السوداء الضخمة تسمى الباسيلسك (Basilisk) فصنعوا منها سمًا فتاكًا وضعوه في مياه الشرب في الأنهار والآبار، واعتبروهم المسؤول الوحيد لموت ملايين البشر، فما كان من عشاق الخلاص إلا أن تخلصوا من اليهود بطريقتهم المعتادة، ألا وهي الحرق.
قال المؤرخ نورمان كانتون في كتابه “في أعقاب الطاعون”: “أُحرِق اليهود على طول الطريق الساحلي من البحر المتوسط إلى ألمانيا، تحت وطأة التعذب حتى يعترفوا بكيفية نشرهم للطاعون وكيف خلطوا السم في الآبار وكيف صنعوه من جلد البزيليسك (الثعبان الأسطوري)”، فيالسخرية الأيام عندما يأتي هؤلاء وأتباعهم ليعلمونا الإنسانية وحقوق البشر.
ثم ندخل في القرن الخامس عشر والقتل بالجملة، وخاصة بعد سقوط الأندلس وحرق المسلمين واليهود ومحاكم التفتيش والتعذب بآلاتٍ لم يشهدها التاريخ من قبل، حتى إنه وبعد مرور أربعة قرون من سقوط الأندلس وتحديدًا في عام 1808م أرسل نابليون جنوده إلى إسبانيا فوجدوا فيها أقبح صور الإجرام فيما كان يعرف بقاعات التعذيب والتي كانت معظمها في الطوابق الأرضية للكنيسة وتحت سجاداتها الفاخرة المقدسة.
وجد جنود نابليون سجونًا أرضية وغرفًا معدنية لا تكفي لطفلٍ في العاشرة يوضع فيها السجين حتى يموت، وجدوا هياكل عظامٍ مازالت في قيودها، وجدوا أجهزة لسلخ الجلد وأخرى لتكسير العظام وخلع الأظافر والكثير مما يقشعر له الجسد ولا يمكنني نقله هنا لبشاعته، أما القرن الـ 16 والـ 17 فلا تختلف الهمجية فيها عن غيرها من حرق للعلماء بتهمة السحر والشعوذة وتوزيع لسكوك الغفران وتكميم الأفواه والعقول، وعلى هذا الحال تستمر فكرة الخلاص المقدس إلى عام 1782م وحرق اناه جولدي بجريمة السحر في سويسرا، وبعدها حرق باربرا زديونك في بولندا عام 1811م بنفس التهمة، لتكونا آخر من يطبق عليهما هذا الحد الكنسي لتطهير أرواحهن.
وبعدها ندخل في الحروب العالمية ونظرية نيتشي “السوبر مان”، وأفكار هتلر ومن معه في سعيهم للخلاص من كل من يخالف دينهم وعرقهم بالحرق والتعذيب والإقصاء وجعلهم قربانًا للصليب الأيديلوجي المعلق في رؤوسهم المتعطشة للعنف ضد كل من يملك الشجاعة ليعارضهم، لتحصد هذه الحروب أرواح أكثر من 71 مليون شخص، قد يكون الدين المسيحي اليوم يأخذ مقعدًا خلفيًا في سياسة محاربة الآخر ولكنه بفعل جرائمة اللامتناهية رسخ الكثير من الأفكار التي مازلنا نعيش تحت ظل رحمتها إلى اليوم، فها هو العالم اليوم يحترق في سعيه للخلاص من الظلم من دون وجود أي موقف قوي من الكنيسة لدعم هذه المطالب أو انتقاد من ينتهك حقوق هذه الشعوب، وكيف لهم أن ينتقدوا وتاريخهم الأسود يدفعهم للخجل وغض البصر؛ فلقد فعلوا أبشع بكثير مما نشاهده اليوم من مذابح في سوريا والعراق وبورما وغيرها من مناطق العنف المسلح.
وعليه فإننا نحتاج للموضوعية بشكلٍ أكبر لفهم ديننا والدفاع عنه باللتي هي أحسن لا بالهروب منه ومهاجمته في كل حين أو الاعتذار عن الجرائم الفردية التي يرتكبها منتسبو هذا الدين، قد لا نختلف في أن الاسلام دين تسامح ولكن نختلف في محاولة مقارنة جرائم المجتمع الإسلامي بالمجتمعات الغربية وتجريم المسلمين جميعهم بسبب أفعال شرذمة متشددة ومتعطشة للخلاص الدموي، نختلف أيضًا في عدم موضوعيتنا في سرد الأحداث التاريخية، فالمصدر التاريخي النجس لا يمكنه أن يعطيكم معلومات طاهرة بل سينجس عقلك ويشكك في دينك لتكره هويتك وتصبح أنت شخصيًا باحثًا عن خلاصك بكل السبل.