تومبكتو – 2008
جالسًا في مكتبِه بعمّته الخضراء وعباءته البنفجسية، ومحاطًا بالعشرات من صناديق المخطوطات، أخذ عبد القادر حيْدَرَة مخطوطة قديمة مجلّدة تعود للقرن الثامن عشر من إحدى الأدراج، وفتحها لأجد بين دفتيها كلمات عربية في العلوم الشرعية، مكتوبة في كافة الاتجاهات في شكل أشبه بخيوط العنكبوت.
في الحقيقة كانت تلك المخطوطة حديثة نسبيًا، مقارنة بنُسَخ القرآن والكتب القديمة، والتي رأيتها بينما تجوّلت مع حيدرة في منزله، حيث يحفظها بعناية ويضعها في صندوق زجاجي مُلحَق ببطاقة صغيرة تشرح موضوع كل كتاب، ومؤلفه إن وُجِد، والحقبة التاريخية التي يعود لها.
تقدّر أعداد المخطوطات القديمة في تومبكتو بحوالي نصف مليون أو يزيد، وهي ليست مجمّعة في متحف كبير على غرار تقاليد البلدان الأوروبية، إذ يوجد معظمها في مكتبات شخصية متفرقة، مثل مكتبة حيدرة، والتي تشمل كل أنواع التراث المكتوب، من القرآن والسيرة النبوية وكتب العلوم الشرعية والتاريخ، وحتى الفلك والطب والزراعة والكيمياء، بل ومدونات تحتوي على إيصالات وقوائم مشتريات ومبيعات تعود في الأغلب إلى التجار الذي عاشوا أو تاجروا في تومبكتو.
هنا، وعلى مدار ألف سنة، كُتِبَت هذه الكتب على أوراق مصنوعة من جلد الغزال أو لحاء الشجر، وباستخدام الصمغ العربي المخلوط مع الفحم والماء، أو الأحبار الملونة، والتي طالما عبرت الصحراء بالجمال من وإلى المدينة، مثلها مثل الملح والحرير والذهب والعاج، وغيرها من خيرات لا تُعَد ولا تُحصى اشتهرت بها تومبكتو في عصرها الذهبي.
تومبكتو: بين الجَمَل والمَركِب
تقع تومبكتو في النقطة التي يجري فيها نهر النيجر شمالًا باتجاه جنوب الصحراء الكبرى، وهو موقع مميّز بين الصحارى الجافة في الشمال، ومنطقة الساحل حيث المياه والزراعة في الجنوب، أو “بين الجمل والمَركِب” كما يقول سكانها؛ مما جعلها ملتقى لمختلف القبائل العربية والأفريقية في هذه المنطقة.
يعود تأسيس المدينة إلى القرن الثاني عشر، حين بدأت قبائل الطوارق في الإقامة المؤقتة فيها نظرًا لموقعها المناسب للتجارة، وما إن بدأت أهميتها تتزايد حتى استحوذت عليها مملكة مالي في أواخر القرن الثالث عشر، لتصبح في غضون عقود مركزًا لتجارة الذهب والملح عبر الصحراء، ومن ثم معقلًا لعلوم الدين الإسلامي، والذي انتشر بقوة في غرب أفريقيا نتيجة للروابط التجارية.
بحلول منتصف القرن الخامس عشر كان تعداد المدينة قد بلغ حوالي 100.000، وقد دخلها آنذاك حاكم مملكة الصُنغاي، سُنّي علي، لتحكم أسرته غرب أفريقيا من المدينة لحوالي قرن، ولتصل في عهده إلى ذروة ازدهارها التجاري والثقافي والعلمي، جاذبة الكثيرين من شتى أنحاء القارة الأفريقية والجزيرة العربية كنقطة هامة على طريق التجارة بين قلب أفريقيا الغنية وتجارة المتوسط الدينامية، وكمركز من مراكز الثقافة الإسلامية يُشَد إليه الرحال بكليّتها المعروفة التي انقسمت بين ثلاثة جوامع، الجامع الكبير وجامع سيدي يحيى وجامع سانكوريه، والتي درس فيها حوالي 25.000 طالب، وهو رقم ضخم بمقاييس ذلك الوقت، بالإضافة إلى مدارسها القرآنية التي بلغ عددها 180 مدرسة.
في أواخر القرن السابع عشر، استحوذت أسرة السعديين الحاكمة في المغرب على تومبكتو، وبدأت المدينة لأول مرة في تاريخها بالانحدار التدريجي نظرًا لقمع السعديين لعلمائها المعارضين لسلطانهم، ونفي الكثير منهم إلى المغرب، كما أن عدم قدرة السعديين على توفير الحماية المطلوبة للمدينة أوقعها بين الحين والآخر تحت رحمة هجمات القبائل المختلفة، وهز استقرارها الاجتماعي والاقتصادي، وبالتالي نشاطها التجاري والثقافي.
لم يمر وقت طويل حتى بدأت القوى الأوروبية الآخذة في الصعود بالانتباه إلى تلك المدينة الغنية، إذ بدأ اهتمام الرحالة بها في مطلع القرن التاسع عشر، حين زارها الرحالة الإسكتلندي جوردون لاينج، والألماني هاينريش بارت، والفرنسي رينيه أوجوست كاييه، والذي قال عنها “حين أدخل إلى هذه المدينة الغامضة، ينتابني شهور مُذهِل بالرضا لم أشعره في حياتي من قبل، وتغمرني سعادة شديدة”،هكذا قال كاييه عن المدينة رغم أنها لم تكن في أوجها كما كانت، إلا أنها ظلت تأسر القاصي والداني، حتى دخلتها فرنسا عام 1894، ثم أصبحت جزءًا من دولة مالي حديثة الاستقلال عام 1960 طبقًا لما خطته أقلام الفرنسيين.
اليوم، تقع المدينة بتعداد سكاني لا يتجاوز 20.000 بمعزل عن محيطها، إذ تعتبر الحمير وسيلة المواصلات الرئيسية بالإضافة لحوالي ست سيارات لاند روفر عتيقة تذهب من وإلى نهر النيجر الواقع إلى جنوبها، أضف إلى ذلك أنه تم إلغاء رحلات الطيران من شتى أنحاء مالي إليها نتيجة الاقتتال الجاري بين النظام العسكري في العاصمة باماكو، المدعوم من فرنسا، والمتمردين من القبائل والإسلاميين في الشمال، ويُنصَح أي أجنبي فيها بالتحرك مع سيارات الأمم المتحدة، حيث ينتشر حوالي 1.200 جندي من قوات حفظ السلام هناك، كما انخفضت بالطبع أعداد السياح فيها؛ مما أدى لتدهور معيشة الكثيرين ممن اعتمدوا على السياحة.
يحاول سكان تومبكتو التكيف بتسيير حياتهم عبر تبادل السلع الأساسية مع جيرانهم بالشاحنات الكبيرة، والتي يعتمد على أرباحها الكثيرون هنا، وهي تنقل كافة احتياجاتهم من ألبان وفاكهة وخضروات وبطاطين وقطن وغيرها، وتمثل الرئة الاقتصادية الوحيدة تقريبًا للمدينة، عدا ذلك، فإن النزوح هو الحل الوحيد مع من لا يستطيع التكيّف، وهو حل يلجأ له الكثيرون الآن جراء اشتداد الصراع وتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وتعطّل الكثير من أعمال التجارة البسيطة، مما يعني المزيد من التضاؤل في التعداد السكاني، وربما اختفاء أي شكل للحياة الطبيعية مقابل تمدد ساحات المعركة والفقر المدقع.
في خضم كل ذلك، وبالنظر لتلاشي الآمال بمستقبل أفضل للمدينة، ماذا يفعل سكانها حيال ماضيها العريق؟
تومبكتو – 2013
بعد خمس سنوات من لقائنا الأول، التقيت مع حيدرة مجددًا، ولكن هذه المرة في العاصمة باماكو، بعد أن نزح هو الآخر من تومبكتو، وجلسنا لساعات على سجادة فارسية، وأخذت أحتسي الشاي بينما حدّثني عن رحلته الشاقة لنقل مخطوطات تومبكتو إلى هنا، بعيدًا عن أيادي المتمردين، والتي أحرقت جزءًا منها بالفعل، وبعيدًا عن أيادي الفرنسيين الذين أخذوا في السابق مخطوطات كثيرة واحتفظوا بها في متاحف فرنسا، وقد تمتد أياديهم إليها مجددًا.
كان على حيدرة أن يسهر كل ليلة مع 15 من أصدقائه لوضع مخطوطات مكتبته في صناديق معدنية صغيرة، ثم شرع في جمع مخطوطات أخرى من عائلات تومبكتو الكبيرة حتى نفذت كافة الصناديق في المدينة، واضطر إلى طلب المزيد من موبتي، مدينة مجاورة تبعد يومين بالمركب عن طريق نهر النيجر، حتى أصبح لديه أكثر من ألف صندوق، بدأ إما في إخفائها، في غرف سرية ببيوت أصحابها أو تحت الأراضي الطينية، أو تهريبها عبر نهر النيجر إلى أيدي أمينة في مدن أخرى.
لم تكن تلك أول مرة يقوم فيها أهل تومبكتو بمهمة كهذه، إذ مرت عليهم من قبل جيوش المغاربة والرحالة الأوربيون والقوات الفرنسية، بشكل أصبح معه إخفاء المخطوطات الثمينة رد فعل طبيعي، وخطة طوارئ معروفة للكثيرين في لحظات المِحَن، “كان الأوربيون يقومون بالاستيلاء على المخطوطات هنا، ولذلك دأب علماء مالي وتومبكتو على إخفائها في غرف سرية، وفي صناديق من الجلد تحت الأرض، حتى اختفت تمامًا من أمام أعينهم، ثم عاودت الظهور بعد الاستقلال وتأسيس معهد أحمد بابا، والذي حوت مكتبته بعض من المخطوطات التي أخرجناها من مخابئها”، كذا حكى حيدرة عن تقليد أهلي قديم في حفظ التراث في مدينته.
في يناير 2013، حين نجحت القوات الفرنسية والمالية في دخول تومبكتو، بدأ المتمردون في التراجع، وقاموا بإضرام النار في بعض البنايات، ومنها مكتبة معهد أحمد بابا، والتي حوت حوالي 30.000 مخطوطة، لتكتسي أرضيتها ببقايا مخطوطات محروقة، وسط ادعاءات بأن المتمردين قد دمّروا محتوياتها.
خلال ساعات، كان المصورون على موعد مع المفاجأة، إذ كانت أغلب الصناديق والغرف خالية من محتوياتها، ولكنها لم تكن مفاجأة لحيدرة ورفاقه، والذين كانوا على علم بخلو المكتبة من معظم المخطوطات، إذ عملوا سرًا لتفريغ المكتبة من محتوياتها حين بدأ التوتر يلوح في الأفق.
يملك حيدرة بالفعل بعض المفاتيح الخاصة بصناديق من المكتبة وغيرها من مخطوطات، والتي رفض الإفصاح بالطبع عن أماكنها، “لقد كان حملًا ثقيلًا أن تأتمنني العائلات التي امتلكت معظم هذه المخطوطات على سلامتها، لقد هرِمت بسبب هذه الرحلة الطويلة”، هكذا قال حيدرة مشيرًا بيده إلى شعره، والذي اكتسى بوضوح باللون الرمادي، مقارنة بأول لقاء لنا.
من المصادر: ذا هاربرز – الغارديان – موقع تراث تومبكتو