مع ازدياد تعقيد المشهد السوري على الأرض بفعل التصعيد المستمر من قبل نظام الأسد من جهة، وانتشار المعاناة الإنسانية مع تضاعف أعداد القتلى والمشردين واللاجئين وارتفاع منسوب الدمار من جهة أخرى، تزداد ضبابية الموقف الدولي إزاء سوريا خصوصا بعد الارتباك الذي تلى مجزرة الغوطة التي استخدم فيها السلاح الكيميائي ضد المدنيين وتجاوزت الخط الأحمر الذي رسمه الرئيس الأمريكي سابقا، مما دفعه إلى التهديد بضربة عسكرية عقابية لنظام الأسد. والتي لاقت تأييدا من عدة دول أوروبية وعربية بالإضافة إلى أستراليا.
انسحاب بريطانيا ومماطلة الولايات المتحدة
رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون آثر عرض مشروع قرار الدخول في الجهود الأمريكية لتوجيه الضربة العسكرية على مجلس العموم، على الرغم من امتلاكه صلاحية اتخاذ القرار بمفرده. وشهد المجلس نقاشات محتدمة بين كاميرون ورئيس حكومة الظل إد مليباند انتهت برفض القرار، ليتعهد كاميرون بعدم تخطي البرلمان تجاه العمل العسكري ضد سوريا. في حين توقع وزير الدفاع فيليب هاموند أن تتم الضربة على الرغم من عدم مشاركة بلاده. وفضل ميليباند انتظار نتائج التحقيق الدولي والتحرك عبر الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من تصريحات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بأن “واشنطن لن تكون رهينة السياسات الخارجية للآخرين”، إلا أن رفض البرلمان البريطاني للعمل العسكري قد ساهم في كبح الجهود الدولية لتنفيذ الضربة. وعزز ذلك إعلان الرئيس الأمريكي نيته اللجوء للكونغرس للحصول على تفويض باستخدام القوة.
يرى مراقبون أن لجوء أوباما إلى الكونغرس قد يكون لتردده في القرار ، والتزامه النأي بالولايات المتحدة عن التورط في حرب لا يؤيدها الشعب الأمريكي الذي يحمل إرثا ثقيلة من تجارب الحكومات السابقة، بالإضافة إلى عدم وضوح المشهد السوري الذي قد يكشف المزيد من المفاجآت بعد الإطاحة بالأسد.
وزيرا الدفاع السابقين في إدارة أوباما روبرت غيتس وليون بانيتا انتقدا عرض القضية على الكونغرس. حيث رأى غيتس أن رفض الكونغرس إعطاء تصريح للرئيس سيضعف الولايات المتحدة أمام حلفائها وأعدائها، في حين استنكر بانيتا خطوة الرئيس في الوقت الذي “تراقب فيه إيران الوضع عن كثب وكل ما تراه هو الضعف في الموقف”.
تقرير لجنة التحقيق بشأن الأسلحة الكيميائية
كانت مهمة لجنة التحقيق بشأن الأسلحة الكيميائية منذ تعيين رئيسها في 26 آذار 2013 آكي سيلستروم هي تحديد ما إذا كانت هذه الأسلحة قد استخدمت، ولذلك رفضها مسؤولون أمريكان لأن مسألة استخدام السلاح الكيميائي بالنسبة لهم كانت محسومة. وكان السؤال الأهم من المسؤول عن استخدامها.
و في تقرير لها قالت اللجنة إنها “دخلت خلال وقف إطلاق النار بين 26 و29 آب مناطق المعضمية وعين ترما وزملكا والغوطة بريف دمشق”، و”قابلت أكثر من 50 من الناجين والعاملين في مجال الصحة”، و”وثقت الذخائر ومكوناتها”، و”قيمت أعراض التسمم البادية على الناجين”، و”جمعت عينات طبية وحللتها”، و”جمعت 30 عينة من التربة والبيئة وحللتها”.
وأعلنت اللجنة أنها تبينت أن “صواريخ أرض أرض التي سقطت وانفجرت ما زالت تحوي غاز السارين”، وأن “البيئة القريبة من مواقع سقوط الصواريخ ملوثة بغاز السارين”، وأنه “جرى تشخيص حالات تسمم واضحة بمركب الفوسفور العضوي بين عدد من الناجين”، وأنه “ثبت وجود غاز السارين وبصماته في معظم عينات الدم المأخوذة من الناجين”.
كل المؤشرات تؤدي إلى الأسد
رأى مدون الشؤون الخارجية في موقع صحيفة واشنطن بوست ماكس فيشر أنه على الرغم من خلو تقرير لجنة الأمم المتحدة من اتهام لجهة باستخدام السلاح الكيميائي إلا أن هناك مؤشرات قوية على أن قوات الأسد هي من استخدمه. وهي:
– إشارة التقرير إلى أن الأسلحة الكيميائية قد ضربت عبر قذائف مصممة لهذا الغرض وهي قذيفة M14 140m وقذيفة أخرى يرمز لها مراقبون بـUMLACA. ومن المعروف أن الحكومة السورية تمتلك هذا النوع من القذائف، في حين ليست هناك أدلة على امتلاك المعارضة لها أو على قدرتها على الوصول إلى التكنولوجيا اللازمة لإطلاقها.
– أوضح التقرير أن القذائف قصفت من الشمال الغربي للمنطقة المستهدفة، وهي منطقة كانت ولا تزال تسيطر عليها قوات الأسد. ولو افترضنا إطلاق الثوار لهذه القذائف لكانت أتت من حيث يتمركزون في الجنوب الشرقي. وقد نشرت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها خريطة تشير إلى أن الأسلحة الكيميائية أطلقت من قاعدة للحرس الجمهوري تقع شمال غربي المنطقة المستهدفة.
– وجد الفريق بعد تحليل 30 عينة مواد أخرى بالإضافة إلى غاز السارين مثل “المثبتات”. مما يدل على أن المواد الكيميائية قد أخذت من منطقة تخزين خاضعة للرقابة، حيث أخرجت ليطلقها جنود مدربون على استخدامها. مما قد يقلل من احتمالية إطلاقها من قبل الثوار الذين قد يكونوا استولوا عليها من الحكومة.
– وجدت على القذائف أحرف سريالية تشير إلى أنها قد تكون روسية المنشأ. وروسيا هي مزود مباشر للأسلحة لنظام الأسد، في حين أنها ليست مزودا مباشرا أو غير مباشر للأسلحة للثوار، الذين كانت معظم الأسلحة التي وصلتهم مصنعة في كرواتيا. واللغة الكرواتية تستخدم أحرفا لاتينية لا أحرفا سريالية.
– خطاب الأمين العام للأمم المتحدة بشأن التقرير، والذي قال فيه إنه لن يتهم جهة بعينها إلا أنه شدد على ضرورة “محاسبة” الجهة الفاعلة، و”أن لا تتمتع بحصانة”، وأنها “ستقدم إلى العدالة”، واقترح تقديمها لمحكمة الجنايات الدولية. وتبدو لغة الأمين العام وتوصيفاته السياسية أقرب لأن تنطبق على جهة رسمية وهي الحكومة السورية من أن تنطبق على مجموعات الثوار.
اتفاق نزع السلاح الكيميائي
في 14 أيلول 2013 توصل وزيرا خارجية الولايات المتحدة وروسيا إلى اتفاقية لتدمير ترسانة الأسلحة الكيميائية السورية. وحسب الاتفاقية فإن على حكومة الأسد تقديم كشوف بترسانتها الكيميائية وأماكن إنتاجها وتخزينها خلال أسبوع من التوقيع. كما تطالب الاتفاقية بالوصول “الفوري وغير المقيد” للمفتشين الدوليين إلى هذه الأسلحة. على أن تنتهي عمليات التفتيش وتكون معدات التحضير وذخائر تعبئة المواد الكيميائية قد دمرت في تشرين الثاني القادم. على أن تدمر كل الأسلحة والمعدات المتعلقة بحلول منتصف العام 2014.
الرئيس الأمريكي باراك أوباما كان قد صرح في وقت سابق بأنه “في حال فشل الدبلوماسية، فإن الولايات المتحدة تظل مستعدة للتصرف”، ووزير الخارجية جون كيري قال إن “الاتفاقية في حال تطبيقها كفيلة بتوفير حماية أكبر لأمن العالم… وفي حال فشل الأسد بالقيام بواجبه تجاه الاتفاقية فإن القضية سترفع إلى مجلس الأمن حيث ستندرج الانتهاكات تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والذي يسمح بإجراء عقابي”. مشيرا إلى “أننا جميعا بالإضافة إلى روسيا متفقون على أنه ستكون هناك عواقب”.
بدوره شدد الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند على “ضرورة بقاء الخيار العسكري على الطاولة… وإلا لن تكون هناك أي ضغوطات”. كما أكد وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ بأن “العالم يجب أن يكون مستعدا لمحاسبتهم إذا لم يلتزموا بالاتفاقية”. ومن جهتها رحبت الحكومة التركية بالاتفاقية، مطالبة الحكومة السورية بعدم استغلالها “لشراء الوقت لارتكاب مزيد من المجازر”. في حين رحب رئيس الوزراء الإسرائيلي بالاتفاق الذي قال إنه “سيكون له تأثير مباشر على إيران”. ووصف رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق عاموس يادلين الاتفاق بأنه “اتفاق ربح- ربح- ربح- ربح لروسيا والولايات المتحدة وسوريا وإسرائيل”.
كان وزير الخارجية في حكومة الأسد قد أرسل قبل يوم من توقيع الاتفاقية إلى منظمة الحد من انتشار الأسلحة الكيميائية رسالة أبلغها فيها رغبة الحكومة السورية بالانضمام إلى اتفاقية الأسلحة الكيميائية CWC. وأعلنت الأمم المتحدة في 16 أيلول 2013 قبولها طلب عضوية سوريا في المعاهدة، على أن تكون عضويتها فعالة في 14 تشرين الأول القادم.
وفي 21 أيلول 2013 أي بعد أسبوع من توقيع الاتفاقية، أعلن المتحدث باسم منظمة الحد من استخدام الأسلحة الكيميائية مايكل لوهان أن الحكومة السورية قد سلمت المنظمة حسب الاتفاق “إعلانا أوليا” عن أسلحتها الكيميائية، وأن المنظمة بصدد دراستها. وعلى الرغم من تقدير الولايات المتحدة وروسيا ترسانة الأسلحة الكيميائية السورية بـ1000 طن من المواد التي تشمل خردل الكبريت وغاز السارين، إلا أن المنظمة لا تعلن عن المعلومات الواردة في الإعلانات المقدمة من الدول الأعضاء في اتفاقية الحد من الأسلحة الكيميائية.
انتقادات للاتفاقية
على الرغم من أهمية الجدول الزمني لتدمير الأسلحة الكيميائية السورية، إلا أن من الصعب الالتزام به في ظل الظروف التي تمر بها سوريا. حيث أن الولايات المتحدة وروسيا تعملان منذ 15 عاما وحتى الآن على تدمير أسلحتهما الكيميائية، ولا يزال أمامهم أعوام للانتهاء من هذه العملية.
لضمان تطبيق الاتفاقية وإعطائها صفة الإلزام، فإن بنودها يجب أن تضمن في قرار تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي من شأنه التفويض بإجراءات عقابية في حال عدم امتثال سوريا. في الوقت الذي ترفض روسيا أي قرار يعطي ذلك التفويض.
الخلاف بين المنظور الأمريكي والمنظور الروسي تجاه القضية السورية لم يتم حله بعد الاتفاق بين وزيري الخارجية على نزع السلاح الكيميائي في سوريا. فلا زالت الحكومة الروسية تصر على أن الأسد لم يستخدم السلاح الكيميائي قرب دمشق في 21 آب، وقال وزير الخارجية سيرغي لافروف إن هناك حاجة للمزيد من التحقيقات قبل اتخاذ مجلس الأمن لأي إجراء حازم. وبالمقابل أصر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري على أن قضية استخدام حكومة الأسد السلاح الكيميائي تستند إلى قاعدة صلبة من الأدلة، خصوصا بعد تقرير الأمم المتحدة الصادر مؤخرا.
ومن المتوقع أن يلتقي كيري ولافروف والمبعوث العربي الدولي إلى سوريا الأخضر الإبراهيمي لبحث عقد مؤتمر السلام “جنيف 2”. إلا أن الخلافات لا تزال موجودة بين الولايات المتحدة وروسيا حول الأطراف التي تجب دعوتها، حيث عارضت الولايات المتحدة حضور إيران وأصرت على حضور مجموعة “لندن 11” التي تضم دولا أوروبية وعربية تدعم المعارضة السورية، كما أصرت على أن يكون للائتلاف السوري المعارض بقيادة أحمد الجربا دور مهم في مفاوضات نقل السلطة إلى حكومة انتقالية يستثنى منها الأسد.