لم ينتظر مجلس نواب الشعب التونسي كثيرًا ليُعلن اندلاع أولى أزماته، فبعد ما رافق تشكيل الحكومة من شد وجذب، وبعد الاتفاق على القانون الداخلي الذي سينظّم عمله، انطلق المجلس في تكوين مكتبه ثم لجانه البرلمانية التي ستهتم كل منها بملف معين كما هو الحال في جل برلمانات العالم.
وبحسب الدستور التونسي الجديد، تُعهد للمعارضة رئاسة لجنة المالية دفعًا لفكرة الرقابة، إلا أن تعريف المُعارضة المعنية بهذا المنصب حسب النص القانوني يبدو أنه لم يكن جليًا كفاية؛ ما فتح الباب أمام تأويلين: فأما التأويل الأول فيقول إن المعني برئاسة لجنة المالية هم الكتل التي لم يُصوت أعضاؤها للحكومة فقط (ويحقّ لكل عشرة نواب فأكثر تكوين كتلة)، أما الثاني فيرى بأن القانون لم يخُص الكتل بهذه الصفة وبالتالي فإن التعريف يشمل المستقلين أيضًا.
لم نكن لنشهد هذا اللغط لو لم يُقدِم النائب إياد الدهماني (نائب عن الحزب الجمهوري) على تجميع نواب بعض الأحزاب الذين تحصلوا على بعض المقاعد كالمؤتمر من أجل الجمهورية والتيار الديمقراطي والمبادرة ومستقلين لدعم ترشحه لرئاسة اللجنة منافسًا بذلك مُرشّح كتلة الجبهة الشعبية (أقصى اليسار) النائب المُنجي الرحوي، بل متجاوزًا بذلك عدد نواب الجبهة وهو ماخلق له أغلبية داخل المعارضة البالغ عدد النواب فيها خمس وثلاثون.
ولقد مر ماراثون الحسم في هذا الجدال بمرحلتين كانت الأولى عبر مُضيّ مكتب مجلس نواب الشعب التونسي في ترجيح التأويل الثاني الذي لا يستثني المستقلين وهو ما يعني فوز مرشح “الكتلة الاجتماعية” برئاسة اللجنة قبل أن يتراجع حزب نداء تونس عن رأيه في مرحلة ثانية ليدفع نحو الحسم عبر جلسة عامة.
الجبهة تطالب بالتطبيق الحرفي لفصول النظام الداخلي
اعتبرت الجبهة الشعبية القراءة التي مضى فيها مكتب مجلس النواب الشعب قبل أن يتراجع عنها حزب نداء تونس تآمرًا ضدها من أجل حرمانها من حقها الطبيعي في رئاسة لجنة المالية كأكبر كتلة في جسم المعارضة وبأن القانون واضح وصريح، وطالبت بالتطبيق الحرفي لفصوله التي تحدثت عن كتل ولم تتحدث عن الأفراد، وصرح زياد الأخضر، الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين أحد مكونات الجبهة، بأن إشكالية رئاسة لجنة المالية بالبرلمان لا تتلخص في معركة بين شخصين بل في معركة بين قراءتين وتصورين لنص قانوني واضح، وبأنه يجب تطبيق الفصل 70 من الدستور الذي ينص على وجوب إسناد رئاسة لجنة المالية للمعارضة.
كما اعتبر الأخضر أن الجبهة تعد أهم جزء في المعارضة حسب الفصل 70 من الدستور، وبأن أصل الإشكال يعود إلى مدى تطبيق النظام الداخلي للمجلس وبأنه يوجد من يبحث عن الحجج والفتاوى في التعامل مع النصوص القانونية، حسب تعبيره، قائلاً بأنه رغم الاحتراز المسجل، ستمضي كتلة الجبهة إلى الجلسة العامة وسنقوم بالتصويت بطريقة علنية لا سرية.
من جهته وفي تصريح لإذاعة خاصة ، قال أحمد الصديق، أحد قيادات الجبهة الشعبية بأن هناك عودة للتغول وتقاسم السلطة بين حركة النهضة ونداء تونس مع وجود ائتلاف حكومي مقدس يتجسد يومًا بعد يوم لا يخدم مصلحة البلاد خاصة في ظل محاولة الاستئثار بالمهام وبرئاسة اللجان صلب مجلس نواب الشعب، حسب تعبيره، متابعًا بأن هناك غياب للتوافق عن اللجان في محاولة محمومة من طرف كتلة نداء تونس لحرمان الجبهة الشعبية من ترأس اللجنة المالية صلب المجلس رغم أنها الكتلة الأكبر في المعارضة لصالح صندوق النقد الدولي وبالتالي لا يرغبون بأي نشاز في الجوقة الموسيقية التي لا تتحرك في مسألة المديونية وتحميل الطبقات الفقيرة كل تبعات الأزمة المالية وبأن هناك محاولات لإقصاء الجبهة من تولي الملفات الاقتصادية على رأس اللجنة المالية.
تصريحات بهذه الحدة وما يبدو أن اتفاقات الغرف المُظلمة دفعت نداء تونس ومن يمثلونه في مكتب المجلس للتراجع عن القرار السابق الذي اعتبر المستقلين معنيين برئاسة اللجنة وبالتالي منح رئاستها لإياد الدهماني ليُقرر لاحقًا التصويت على أحد القراءتين في جلسة عامة.
الجبهة لا تمثل المعارضة
تراجع مكتب المجلس عن منح رئاسة اللجنة أشر لوجود توجه نحو تسليمها للجبهة الشعبية باعتبار أن نداء تونس صاحب الكتلة البرلمانية الأكبر بات يُفضل الجبهة الشعبية لتعارضه من خلال دعمه للقراءة التي تتركها دون منافسة وهي التي تلغي حق المستقلين في المنافسة عليها، حيث قال خالد شوكات قبل الجلسة العامة إن كتلة النداء ستصوت للجبهة الشعبية في الجلسة العامة التي ستحسم بالتصويت على التأويلين على مفهوم المعارضة التي لها الحق في ترؤس لجنة المالية.
من جهته، قال المرشح الثاني إياد الدهماني بأن نواب الجبهة الشعبية غير قادرين على استيعاب أنهم ليسوا وحدهم في المعارضة، وذلك في علاقة بالخلاف حول رئاسة لجنة المالية صلب مجلس الشعب والتي ينص القانون على أن يترأسها نائب من المعارضة وبأن رئيس كتلتها في البرلمان أحمد الصديق صنف نواب المعارضة إلى صنف أول وصنف ثان وشدد الكتل جُعلت لتسهيل العمل وليس لاكتساب حقوق على حساب النواب الآخرين، كما اعتبر الخلاف داخل المعارضة يمكن أن يُحسم بالتوافق وفي حال عدم التوصل إلى ذلك يتم تحكيم الأغلبية، كما أن المبدأ يمنح الأغلبية داخل المعارضة الحق في تقديم ممثلها في رئاسة لجنة المالية.
الجبهة الشعبية وفية لطبعها الصدامي، فشلت حتى في أن تحتوي عددًا من مستقلي المجلس وفي أن تبحث لمرشحها عن تأييد داخل مجموعة المعارضة التي يبلغ عددها خمسة وثلاثون شخصًا، ورغم نجاحها في حمل نداء تونس على تغيير موقفه تجاهها مستفيدة من الشق اليساري داخله، يبقى السؤال عن ماهية الاتفاق وبنوده بين الحزبين وإذا ما كنا سنُشاهد كل التصريحات السابقة حول المديونية وماجاورها من الشعارات تُطبق على أرض الواقع أم أننا سنتأكد بأنها شعارات تسويقية لا غير.
حركة النهضة تنأى بنفسها عن هذا الصراع
اعتبرت حركة النهضة بأن مُضي المجلس للحسم في موضوع يخص المعارضة في جلسة عامة تُشارك أطراف التشكيل الحكومي في التصويت فيها يضع الجميع أمام إشكال أخلاقي وسياسي، فمرور المجلس نحو حسم تفرضه الأغلبية الحاكمة يتعارض مع روح الدستور الذي ضمن مكانة للمعارضة وإعلاء من شأنها وحماية للديمقراطية وبالتالي فنحن إزاء أول لي لعنق الأخير في أول تطبيق لمبادئه الكبرى.
وعبرت حركة النهضة أنها لا يُمكن أن تسمح بأن يُسجل عليها بأنها رضت وهي المشاركة في الائتلاف الحاكم بأن تختار معارضة على المقاس، وبأنه كان على المجلس أن يترك المسألة للمعارضة وفقط دون تدخل الأطراف الحاكمة للانتصار إلى شق على حساب شق آخر، وبأن التمشي الأسلم كان يستدعي أن تتم مُرافقة المعارضة حتى تخرج باتفاق فيما بينها، وبأن الجلسة العامة ليست مُخوّلة لتأويل نص قانوني فالتصويت فيها سيكون تعبيرة سياسية وليس قراءة قانونية.
من جانبه قال أستاذ القانون الدستوري شوقي قداس إن هناك دراستان للفصل لم يحدد من هي المعارضة الكتلة أو المستقلين، مشيرًا إلى أن ما يحدث اليوم هو نتاج كتابة نصوص القانونية دون تريث وأنه كان على النواب دراسة النصوص القانونية بتريث قبل المصادقة عليها، وأكد أن الحل الوحيد للخروج من هذه الإشكالية اليوم بالنقاش والتحاور وإيجاد حل توافقي فيما بين النواب.
في الجلسة العامة، الحاكم يختار معارضيه مع وقف التنفيذ
قدم رئيس مجلس نواب الشعب محمد الناصر في مستهل الجلسة العامة القوائم النهائية لتركيبة الكتل البرلمانية باستثناء كتلتي الجبهة الشعبية والاتحاد الوطني الحر اللتين لم تشهدا تغييرات، وانضمت كل من لمياء الغربي وهدى سليم وطاهر بطيخ لكتلة نداء تونس، أما النهضة فقد انضمت إليها وفاء عطية ومعز الحاج رحومة وانضمت ريم محجوب وليليا يونس إلى كتلة آفاق تونس، أما الكتلة الاجتماعية الديمقراطية فلم يتم تعويض التوهامي العبدولي بعد استقالته آليًا (تعويضًا للنواب الذين التحقوا بالحكومة).
وبعد المداولات حول موضوع التأويلات القانونية، وكما كان متوقعًا دفع نداء تونس والجبهة الشعبية وآفاق تونس نحو أن يكون الحسم عبر الجلسة العامة لتمرير القراءة التي تُهدي للجبهة رئاسة لجنة المالية، وهو ما عارضه نواب المؤتمر من أجل الجمهورية الذين قاطعوا الجلسة.
وقد عبرت حركة النهضة عن رفضها لهذا التمشي من خلال التحفظ وعدم التصويت لفائدة أي من القراءتين باعتبار أنها وكما أوردنا سابقًا ترفض أن يساهم الحاكم في اختيار معارضيه.
إثر التّصويت، حصل الرأي الذي يحرم المستقلين من رئاسة لجنة المالية على 109 صوت وهو عدد الأصوات الأدنى الذي يمكن أن يمر به، وبذلك تكون الجبهة الشعبية ومرشحها على اللجنة المذكورة ويكون بذلك الحاكم قد اختار من يعارضه.
فرح نواب حزب نداء تونس الحاكم بانتصار الطرح الذي يجعل من الجبهة الشعبية حزبًا يعارضهم لم يدُم طويلاً، إذ تفطّنت احدى جمعيات المجتمع المدني التي تُراقب عمل المجلس إلى أن أحد النواب عن كتلة آفاق تونس قد صوت مرتين، إلكترونيًا وعبر رفع اليد، وبمواجهته اعترف وهو ما يسقط آليًا نتيجة التصويت، باعتبار أن إلغاء الصوت الوهمي إلى 108 صوت وبذلك تكون كلا القراءتين لم تحصلا على مُصادقة مجلس النواب وهو ما أطال مجددًا في عمر هذه الأزمة البرلمانية، فالقانون الداخلي لمجلس نواب الشعب التونسي يفرض أن يُحال الأمر من جديد إلى لجنة النظام الداخلي للبت فيه ثم عرضه مرة أخرى على الجلسة العامة.
كان حريًا بمجلس نواب الشعب التونسي ألا يسقط في مثل هذا السجال القانوني الذي بين مرة أخرى بأن القوانين والدساتير لا تُعدّضمانات حقيقة، إذ يُفسرها دائمًا الأقوى، وكان الحل ربما في الاحتكام إلى المحكمة الإدارية لتفصل في هذا الخلاف عوض أن يكلف السياسيين أصحاب الأجندات الحزبية مهمة تأويل نص قانوني.
أن يختار الحاكم معارضيه في انتظار إعادة تنصيبهم في جلسة بروتوكولية أخرى أمر حزين في ديمقراطية يُعلق عليها الجميع آمالاً عريضة، وهو أيضًا يُثبت بأن مهمة التشريع لا تنتهي بنشر النص بل إن الجهد تراكمي للتحسين ولسد الثغرات.