لا شك وأن التطور التكنولوجي ألقى بظلاله على العصر في كافة الاتجاهات وأصبحت الثورات الشعبية لها مقدمات رقمية هي الأخرى واضطرت الحكومات لأن تستخدم نفس السلاح لمنع هذه المقدمات من التميهد للتغيير.
الثورة التونسية والثورة المصرية والثورة السورية كانوا الأبرز في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي بكافة أشكاله في عملية دعم الحراك السلمي على الأرض وإنشاء جهاز إعلام بديل مقاوم لإعلام السلطة في كل بلد من بلدان الربيع العربي، ذلك الأمر نفسه الذي يفسر الهجمة الشرسة على هذه المواقع من قبل الإعلام التقليدي في هذه البلاد الذي خشي أن يُسحب البساط من تحت عرشه من قِبل مجموعة من المدونين لا يعرفهم أحد سيحطمون أساطير نجوم الشاشات العربية.
فطنت لذلك الحكومات التي عادت مع الهجمات المرتدة للثورات المضادة وبدأت في غزو الإعلام الرقمي بمريديها؛ فبدأ الحديث عن جيوش إلكترونية جُيشت من أجل تشويه الثورات ورموزها ليصبح ملعب الإعلام الرقمي ليس حكرًا على مريدي الثورات فقط بل ساحة حرب رقمية بين الثورة والثورة المضادة.
تشير الإحصائيات أن عدد المدونين تضاعف عقب الثورات في المنطقة العربية وشهد المحتوى العربي انتشارًا وإثراءً لم يعهد من قبل في هذه المنطقة وبدا وكأن حراكًا ثقافيًا واجتماعيًا ينشأ من خلال الإعلام الرقمي الذي اعتمد على المواطن أكثر من النخب التي احتكرت الفكر لقرون عدة في هذه البلدان، فأصبح من اليسير أن يحصل الشباب على منصات لنشر أفكارهم وآرائهم بعد انطلاق عدة مواقع ومدونات تحمل هذه الروح التي تعتمد على الكتابات الشابة في كافة المجالات بلا خطوط حمراء أكثر من الكتابات التقليدية التي لا تستهوي رواد هذه المنصات.
هذه المنصات الجديدة التي كسرت احتكار الإعلام التقليدي الذي عادة ما ينحاز لطرف السلطة باتت تكسر هيبة الدولة في أمر حصرية تدوال المعلومات، فقرارات حظر النشر التي تصدرها الجهات القضائية لم تعد ذات قيمة في هذا العصر وفي هذا الفضاء، بل إن قرار حظر النشر في قضية من القضايا يجعل نجم الإعلام الجديد الرقمي يسطع أكثر فأكثر لأنه ينصب اهتمامه في هذه الفترات على ما تم حظره ليقوم بدوره في فك حظر النشر عنه للجمهور.
لم يقتصر التغيير الرقمي على أمر الأخبار وتدوال المعلومات في تحدي السلطات ولكن الأمر تعدى ذلك للدخول في دهاليز الدولة حتى الأعماق وكشف ما كان لا يمكن الكشف عنه في السابق وجعله متاحًا للجميع، فالأحاديث الجانبية بين رجال السلطة باتت مهددة أيضًا بالنقل إلى المشاع والكلمة أصبحت محسوبة لأنها مهددة بالإذاعة في أي وقت، ظهر ذلك في الحالة المصرية بعد أن استطاعت شبكة رصد الإخبارية الحصول على التسجيل الصوتي لحوار أجراه الجنرال السيسي في عز سطوته الأمنية مع جريدة موالية له وبالطبع كان التسجيل يحتوي على كثير من الحوارات الجانبية وما بين السطور من الذي لا يمكن التصريح به للعامة ولا نشره في حوار على الملأ، وبعد هذا السبق توالت التسريبات من كل حدب وصوب من دواليب الدولة المصرية ومكاتبها، حتى إن مكتب وزير الدفاع المصري أصبح مخترقًا تذاع منه تسجيلات شبه يومية من قِبل وسائل إعلام معارضة في حرب لأجهزة سيادية استطاعت إحداث خرق داخل المنظومة الأمنية المصرية وكسر حظر النشر لما يدور داخل الكواليس، حتى أصبح العرض للجميع وهو لا شك نصر للثورة الرقمية في مقابل سطوة الدولة التي تحتكر أحاديث الغرف المغلقة دائمًا.
الهجمات المرتدة من قِبل الثورات المضادة كانت في جزء كبير منها تستهدف المشاركين في الثورات بالتشويه، وهو ما فعلته الأجهزة الأمنية بنشر مكالمات مسجلة لبعض نشطاء الثورة لترويج أفكار عمالتهم للخارج وأن الثورات كانت جزء من مؤامرة كبيرة على البلاد، هذا ما رسخ في العقل الأمني المصري وهو ما تحدث عنه الجنرال السيسي وإعلامه من قبله عن حروب الجيل الرابع وغيرها، وهو إبراز للمعاناه التي تعاني منها الدول المتسلطة جراء التغيير الرقمي الذي بات شبحًا يؤرقهم، فصّعدت الدول حملات أمنية ضد مواقع التواصل الاجتماعي ودعت أبواق إعلامية تقليدية لغلقها، وما المثال التركي عنا ببعيد حين أُغلق موقع التواصل الاجتماعي تويتر لفترة بعد انتشار مكالمات مسجلة قيل إنها لرئيس الوزراء حينها رجب طيب أردوغان ومسؤولين في حكومته؛ الأمر الذي أثار ضجة سياسية كادت أن تعصف بالاستقرار السياسي في البلاد، وبغض النظر عن صحة هذه التسجيلات من عدمها فإن استخدام التكنولوجيا الرقمية في الصراعات السياسية بالداخل التركي أصبح واقعًا حتى اضطرت الحكومة لغلق أحد النوافذ التي أرقت الحكومة بعد ازدياد الشحن ضدها.
وهنا لا يمكن أن نغفل الحملات الأمنية على رواد هذه المواقع من قبل الأجهزة الأمنية واعتقال المدونين الناشطين عليها، ومثال على ذلك الذي يحدث في مصر من تدوال الأنباء كل فترة عن القبض على أحد مديري صفحات معارضة في محافظة من محافظات بدعوى التحريض على الجيش والشرطة، كذلك إرسال التهديدات إلى الناشطين للتوقف عن بث آرائهم المناهضة لأنظمة الحكم العربية من الخارج كما هو الحال في برنامج “فتنة” الذي يقدمه الناشط السعودي عمر عبدالعزيز من كندا، في تصد واضح من الحكومات لهذا التغيير الرقمي الذي يستخدم للتمهيد للثورات الشعبية على الأرض.
لم تكتف الحكومات العربية بالحل الأمني فقط كما أشرنا في سابق الأمر بل استخدمت نفس الأدوات في صراعها مع الثورات الرقمية، فبات الحديث عن المجموعات الإلكترونية الموالية للأنظمة والأحزاب السياسية فيما يعرف باسم “اللجان الإلكترونية” أو “الجيوش الإلكترونية” والتي تصنع صناعة رأي عام مضاد على مواقع التواصل الاجتماعي، كما تعمل على اختراق الصفحات المعارضة كما حدث مع شبكة رصد الإخبارية عقب بث التسريبات التي تخص النظام المصري، وأصبحت هذه المجموعات تعمل على مهاجمة خصوم الدولة وتشويه كل المعارضين والرد على كل ما يثار في هذه الموقع من وجهة نظر الدولة حتى جمعت المريدين في هذا الاتجاه وأصبحت من أضخم المجموعات في الإعلام الرقمي، والأمر لم يقتصر على استخدامها في الشؤون الداخلية؛ ففي الثورة السورية التي اتخذت طابعًا إقليميًا نظرًا لتدخل دول عربية في الصراع مع النظام الأسدي ظهرت مجموعة تسمى بالجيش السوري الإلكتروني تعمل على اختراق حسابات المعارضين ومهاجمة الصفحات والمواقع المناهضة للنظام والموالية للثورة السورية حتى أعلن هذا الجيش عن نجاحه في اختراق عدة قواعد بيانات لمؤسسات تركية وسعودية وقطرية وأنه سوف ينشر وثائق سرية من هذه المؤسسات تتعلق بالشأن السوري، وبالطبع من المفهوم أن هذا التصرف ردًا على مطالبة هذه الدول بتنحي رأس النظام في دمشق بشار الأسد وجهود هذه الدول في إسقاطه منذ اندلاع الثورة السورية في 2011.
وهكذا يتضح الدور الذي تلعبه الحروب الإلكترونية في المنطقة العربية والذي من المتوقع أن يزداد في الفترة القادمة مع ازدياد الخبرات للشباب العربي في مجال القرصنة واختراق الأنظمة، وهو أمر يشكل خطورة على الأنظمة العربية المتكلسة بطبيعة الحال، حيث لا تستطيع مواجهة هذا المد غير المنظم وغير المكلف والعشوائي وفي كثير من الأحيان غير معروف المصدر، فالثورات العربية صاحبة سبق فيه والشباب العربي يعمل على تطوير أساليب المقاومة للديكتاتوريات العربية التي قد لا تلحق بركب هذا التطور الرقمي بسبب عقود التخلف الذي ترقد فيها هذه الحكومات.
هذا المقال يأتيكم ضمن ملف “مستقبل القوة” على نون بوست، يمكنكم أيضا قراءة المقال الأول حول حروب الفضاء الإلكتروني والثاني حول التسريبات الاقتصادية وكيف تعمل كأداة حرب في المستقبل، والثالث حول الجيش الأمريكي وإعادة بنائه ليوائم الحروب القادمة، والرابع حول إعلام تنظيم الدولة بين الاحترافية والتأثير، والخامس عن إعلام تنظيم الدولة: لماذا تنجح داعش؟ والسادس حول مؤسسات داعش الإعلامية والسابع بعنوان اختراق المؤسسات والشبكات: وسيلة مقاومة وأداة للردع