ترجمة من الفرنسية وتحرير نون بوست
اعتبر الملاحظون اتفاق السلام الموقع يوم الأحد غرة مارس في العاصمة الجزائرية بين الحكومة المالية والمجموعات المتمردة في شمال مالي اتفاقًا متواضعًا من حيث الأهداف، ولكن ربما يكون هذا هو مكمن قوته فيه وسر نجاحه.
إذ يمكن تفهم تواضع هذه الأهداف بالنظر لتعقيد القضية وصعوبة التوصل لحل، فالوثيقة التي تمت صياغتها في الجزائر لم يتم إمضاؤها بشكل رسمي بل تم التوقيع عليها بالأحرف الأولى، ولن تقوم الحكومة المالية بالمصادقة عليها إلّا في الأسابيع القادمة في حركة رمزية تهدف إلى محو ذكريات المعاهدات السابقة التي وقعت برعاية الجزائر وتم نقضها من قبل الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا بدعوى مساسها بالسيادة الوطنية، كما أن تنسيقية حركات أزواد التي تضم ست مجموعات والتي تطالب بانفصال شمال مالي الذي تسميه “أزواد” لم توقع هي أيضًا، وهو ما اعتبره البعض فألاً سيئًا في انتظار أن تقوم كل هذه الأطراف بوضع توقيعها الرسمي على الوثيقة.
حركة أزواد: فسيفساء من المجموعات الانفصالية
من بين الموقعين المنتظرين لهذا الاتفاق هناك الحركة الوطنية لتحرير أزواد وهي من الشركاء الأساسيين في التوصل إلى حل، إلى جانب تشكيلات أخرى ممثلة لجماعات عرقية، مثل الحركة العربية للأزواد والمجلس الأعلى لتوحيد الأزواد الذّي يضم مقاتلين سابقين من حركة إياد أغالي المقرب من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
ويعود سبب التأخير في توقيع الاتفاق إلى طلب تنسيقية حركات أزواد لمهلة إضافية لاستشارة قواعدها قبل الإمضاء، وهو طلب تقدمت به هذه التنسيقية في ظل مخاوف من التعرض للعقوبات التي هددت الأطراف الراعية للحوار بفرضها على كل من يعيق التوصل لحل سلمي للأزمة، إلا أن طلب هذه المهلة يعود لأسباب متعلقة بالدبلوماسية الداخلية بهدف إرضاء القواعد التي خرجت في مظاهرات في كيدال وميناكا وبير رافضة لنص الاتفاق لأنه لم يأت على إمكانية إعطاء نوع من الاستقلالية للشمال أو إرساء النظام الفيدرالي، وهو بند كان مرفوضًا منذ بداية المفاوضات من قبل باماكو والجميع كان على علم بذلك، إذًا لم يعد أمام أنصار “حركة أزواد” الآن سوى التسليم بأن أزواد المستقلة لن يكون لها أي وجود قانوني وعليهم قبول الواقع الذي فرضته عليهم صعوبة التوصل إلى سلام وفرضته مالي التي تريد أن تبقى موحدة ولائكية، فقد اضطرت جميع الأطراف إلى تقديم تنازلات مؤلمة حتى لا تصل المحادثات إلى طريق مسدود.
وقد صرح وزير الخارجية الجزائري رمطان العمامرة أن هذا الاتفاق يمثّل بوصلة تتميز بالمصداقية والفاعلية ستسير بالجميع نحو مرفأ السلام، ولكنه اعترف بالمقابل بوجود أزواد كظاهرة إنسانية في مجاملة رمزية لحلم الانفصاليين بتأسيس دولة أزواد في شمال مالي.
إعادة بناء الجيش المالي
بعد هذا الاتفاق تتطلع مالي إلى رسم خارطة طريق نحو إنشاء مجالس جهوية منتخبة في انتخابات حرة وطنية ومباشرة في غضون ثمانية عشر شهرًا، بالإضافة إلى السماح بتمثيل أكبر داخل دواليب الدولة والمؤسسات الرسمية للمنحدرين من الشمال.
ويبقى التحدي الأهم هو إعادة هيكلة الجيش المالي بإدماج مقاتلي الحركات الانفصالية في الشمال داخله.
وقد أظهرت التجارب السابقة صعوبة تحقيق هذه الأهداف التي تم إدراجها في اتفاقيات سابقة بهدف إنهاء التمرد في سنتي 1992 و2006، ولكن اليوم هناك أمل في أن تقوم المؤسسات المحلية بالمشاركة في إنجاح الاتفاق إذا تمكّنت من كسب الثقة ولم ينخر عظامها الفساد.
كما يُنتظر أن تقوم لجنة تحقيق دولية بالنظر في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والانتهاكات الأخرى الخطيرة التي تم ارتكابها خلال سنوات النزاع، رغم أن الكثيرين شككوا في إمكانية التوصل إلى نتيجة واضحة في هذه التحقيقات في ظل الضغط السياسي الذي سيمارس على اللجنة.
ولكن رغم محدودية الطموحات المعلنة والثغرات التي شابت هذا الاتفاق يبقى اتفاق الجزائر الفرصة الأخيرة لإنقاذ البلاد من الحرب الأهلية.
يذكر أن مالي دخلت في أزمة مفاجئة في شهر مايو الماضي عندما اندلعت مواجهات عنيفة على إثر زيارة وصفت بأنها غير مسؤولة لرئيس الوزراء السابق إلى مدينة كيدال في الشمال، حيث مُنيت القوات الموالية للحكومة المركزية بهزيمة كبيرة في هذه المنطقة التي تعتبر معقلاً للحركة الوطنية لتحرير أزواد وبقية مجموعات الطوارق.
الواقع يفرض نفسه
يُذكر أن الرئيس الموريتاني محمّد ولد عبد العزيز تدخل لتحقيق أول وقف لإطلاق النار وتجنب حدوث انهيار آخر في الجيش المالي، حيث تواجه سلطة باماكو واقعًا مؤلمًا اضطرت معه لقبول الوساطة الأجنبية.
في خضم تلك الفوضى وبفضل الدور الفعّال الذي لعبته بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في مالي؛ تم الاتفاق على إجراء محادثات في العاصمة الجزائرية في شهر يوليو الماضي، حيث تألف فريق الوساطة الموسع من ممثلين عن البعثة الأممية، الاتحاد الأفريقي، المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، منظّمة التعاون الإسلامي، الاتحاد الأوروبي، موريتانيا، النيجر والتشاد.
وفي السياق الإقليمي تعتبر الجزائر من أبرز المعنيين بالوضع في شمال مالي حيث تتواجد جماعات تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي التي يقودها الكثير من الجزائريين، إلى جانب المصالح البترولية حيث تتواجد مصادر غير مستغلة من قبل شركات استخراج الطاقة التابعة لها، أما بوركينا فاسو المعنية هي أيضًا بهذا الملف فقد بدت منشغلة جدًا بوضعها الداخلي الذي يشهد فترة انتقالية بعد الإطاحة بالرئيس بلاز كمباوري في أكتوبر الماضي، ويأتي هذا الاتفاق في ظل غياب المغرب الذي يواجه مشاكل مع الجارة الجزائر ويتنبأ الملاحظون بأن يحقق صعودًا إقليميًا في الفترة القادمة.
وقد جرت خمس جلسات تفاوض بقيادة الجزائر منذ بداية المفاوضات على أمل أن تكون الجلسة الخامسة هي الأخيرة، في ظل مخاوف كبيرة من تقديم حل متسرع غير فعّال عوض خطّة سلام حقيقية بسبب الترتيبات السطحية والضغط الدبلوماسي، وتطلب الأمر متابعة سياسية جدية لتجنب الفشل الذي مُنيت به المحادثات السابقة.
وقد حذرت مجموعة الأزمات الدولية ICG من هشاشة الوضع، مشيرة إلى أن حل النزاع يمر عبر صياغة توليفة معقدة ومرضية لجميع الأطراف تأخذ بعين الاعتبار المصالح المتضاربة المتعلقة بسلامة المنطقة وطبيعة دولة مالي والتوازنات المحلية بين المجموعات المنقسمة في الشمال، ففي ظل المواجهات المسلحة تبرز الحاجة الملحة للسير بخطى حثيثة نحو توقيع اتفاق مبدئي يضمن الأمن على المدى القصير، ولكن في نفس الوقت حذرت المجموعة من التسرع وأكدت على ضرورة توفر الوقت والوسائل اللّازمين من أجل بناء أسس سلام دائم.
المنطقة منقسمة أكثر من أي وقت مضى
تشهد المنطقة انقسامًا غير مسبوق بعد تعرضها لصدمات متتالية بسبب الجماعات الجهادية والمهربين، وهذه الجماعات بدورها تشهد توترًا داخليًا، مثل الخلاف بين المجموعات التي تمثل الانفصاليين منذ زمن وقوات الدفاع الذاتي للطوارق ايمغاد وحلفائها التي ظهرت في شهر أغسطس الماضي.
وتعتبر هذه الحركة المسلحة نظريًا السابعة التي تظهر في المنطقة، بينما تعتبر عمليًا الجناح المسلح الموالي باماكو والجيش النظامي، والتي اضطرت للخروج من معسكرات الجيش في المدن الشماليّة بعد الهزائم التي منيت بها في الاضطرابات الأخيرة، وتنتشر الآن هناك جنبًا إلى جنب مع قوات الأمم المتحدة والقوات الفرنسية.
تأخذ هذه الانقسامات بعدًا أخطر مع صعود جديد للجماعات الجهادية التابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي عبر تسلل المقاتلين من الدول المجاورة وتفعيل الخلايا النائمة، وقد أظهرت عمليات قتل ارتكبت مؤخرًا بأن هناك من يعمل على زعزعة الاستقرار في المنطقة كما هو الحال في ليبيا المجاورة.
المصدر: صحيفة لوموند الفرنسة