عندما تذكر الواقعية أو البراغماتية لا بد أن نعي أننا نتحدث عن علم المصالح الذي لا يمت للقيم والأخلاق بأي صلة، تعتمد كل من نظرية الواقعية والبراغماتية في علم السياسة على أساس وضع أمن الدولة ومصالحها نصب الأعين واستخدام جميع الأساليب من أجل تحقيق مصلحة أمن واستقرار الدولة مهما كلف الثمن ومهما كان نوع الأسلوب، وهذا أيضًا ما يدعي بالميكافيلية الرامية إلى أسلوب الغاية تبرر جميع الوسائل الهادفة لتحقيق مصلحة الدولة العامة، عندما نتحدث عن بوتين نجد أنه الرجل الواقعي البراغماتي الميكافيلي الذي تعاون حتى مع الشيطان وضحى بأمور عدة من أجل استعادة استقرار وقوة روسيا بعد انحلال الاتحاد السوفييتي وانهياره.
سنقوم بذكر العناوين والأفكار الرئيسية لنظرية الواقعية التي تشمل بدورها البراغماتية والميكافيلية وبعد ذلك سنقوم بذكر كيفية توافق سياسة بوتين مع هذه النظرية وأساليبها.
عند ذكر الواقعية لا بد لنا من ذكر أبيها توماس هوبس، إنجليزي الجنسية والذي يُعد أحد الفلاسفة السياسيين المهمين الذين لهم دور كبير في رسم قواعد اللعبة السياسة في العصر الحالي، يعبر هوبس من خلال كتابه الشهير ليفياثان Leviathan والذي يعني حسب التوراة الشيطان، عن أهمية الدولة كمؤسسة حاضنة للشعب ومن دون الدولة السياسية فلا وجود للشعب، فالدولة هي الحامية والمدافعة والعائلة للشعب، لذا على الشعب أن يقدم الغالي والرخيص من أجل الحفاظ على الدولة مهما كلف الأمر، وفي الدولة الواقعية التي يرسمها توماس لا قيمة للفرد؛ فالفرد وجد للدفاع عن الدولة وللتضحية من أجلها ولا يملك أي حق للرفاهية أو للتنعم بالحرية أو الديمقراطية إذا كانت الدولة في خطر، أيضًا حسب ادعاء توماس، العالم الإنساني هو بالأصل حيواني فهو أناني وشرس ووحش، وأن أي إنسان يسعي دومًا للاستيلاء على حقوق الإنسان الآخر بالقوة والشراسة الحيوانية النابعة من نفسه الداخلية الحيوانية، ولأن البشر ذوي نفوس حيوانية نجد دومًا الفوضى منتشرة والحياة حياة غاب، القوي بها يغلب الضعيف، ويذكر أيضًا توماس أنه لا وجود للحقوق والقيم الإنسانية في الساحة الدولية، وإن وجدت هذه القيم فتكون موجودة لخدمة مصالح الدول القوية لذا يجب علينا ألا نعطي بالاً أو أي اهتمام لتلك الحقوق ونحاول فقط استخدامها لخدمة مصالحنا.
ويقوم توماس بتطبيق هذه الصورة على جهاز الدولة السياسي، مدعيًا أن قادة هذه الدولة بشر من أصل حيواني وهم أيضًا يحاولون دائمًا السيطرة من خلال أجهزة الدولة على مصالح ومقدرات الدول الأخرى؛ لذا يتوجب على كل دولة مواجهة هذه الأنانية بقوة وحزم من خلال إعداد جيش قوي لا يرحم، والحصول على ترسانة سلاح مدمرة وتوفير قوة اقتصادية ضخمة بغض النظر عن طرق توفيرها سواء كان توفيرها من خلال الاستيلاء على مقدرات الدول الأخرى ونهبهم أو من خلال الاعتماد على الذات وغلق التجارة المربحة للطرف الآخر، بمعنى أن يكون الرابح من التجارة المتبادلة طرف واحد وليس الطرفان المتبادلان للتجارة لأنه يجب علينا دومًا ألا نعطي أي فرصة للدول الأخرى لتكون أقوى منا، دومًا يجب علينا العمل على إضعاف الدول الأخرى.
جميع هذه الأساليب الواقعية تهدف بشكل كبير للمحافظة على أركان الدولة وإبقائها قوية قادرة على الدفاع عن نفسها ضد مطامع الدول الأخرى، من خلال هذه النقطة يؤكد توماس على أن الشعب يجب أن يقدم لدولته الغالي والرخيص وإن كان الثمن رفاهيته وحياته وكل مايملك من أجل الحفاظ عليها قوية لتحميه من الفوضى الموجودة في الساحة الدولية القائمة على الأنانية والتوحش.
بوتين طبق هذا المفهوم مائة بالمائة .. كيف ذلك؟ تم اختيار بوتين كرئيس لروسيا الاتحادية عام 2000، تسلم بوتين الرئاسة والدولة خاوية على عروشها والفساد ناخر في كل عرق بها، لكن بوتين فور قدومه سعى إلى استعادة قوة روسيا لجعلها دولة قوية متحكمة وليست دولة منهوبة مستغلة من الدول الأخرى، فبعد قدومه بفترة قصيرة قام بتصفية الكثير من قادة الجيش الفاسدين، أيضًا عمل على إعداد جندي وطني معتز بنفسه ليس كما في السابق أي في عهد يلتسن، حيث كان الجندي الروسي رخيص جدًا وكان يمكن شراءه بعدة قروش وكان يبيع سلاحه إذا احتاج للمال وكانت قيادة الجيش فاسدة أكثر بكثير من الجنود، حيث كانوا يتفقون مع المافيات لتسهيل أعمالها وكانوا يعيدون الكثير من صفقات السلاح الوهمية .. إلخ، ولكن عندما أتى بوتين عمل على تنظيف الجيش من تلك الثغرات وعمل على إعداد جيش قوي بقادة جدد وترسانة قوية وجند وطني مخلص، كون بوتين رئيس الجهاز الاستخبارتي في السابق ساعده بشكل كبير على معرفة نقاط الضعف الموجودة في الجيش وإزالتها وتحسينها.
بعد ذلك عندما رأى بوتين أن أغلب الشركات والمؤسسات الرئيسية في البلاد – مثل شركات البترول والغاز والكهرباء والبنك المركزي .. إلخ – مخصصة وتابعة لجهات أجنبية قام بالغاء جميع اتفاقيات التخصيص التابعة لتلك الشركات ضاربًا حقوق الأفراد والمؤسسات الخاصة (رفاهية الأفراد وحقوقهم ليست مهمة بالنظرية الواقعية كما أسلفنا) بعرض الحائط، والهدف من ذلك هو إيجاد اقتصاد ذاتي غير تابع لأي طرف أجنبي للحفاظ على استقرار البلاد الاقتصادي من خلال إبعاد الدولة عن أي تبعية لجهات أجنبية ممكن أن تتحكم في قوتها الاقتصادية.
هناك مفكر آخر يعتبر واقعي على غرار هوبس وهو الأمريكي جون ميرشيمر والمعروف بصاحب المنهج الهجومي، بمعنى أنه يتوجب على الدولة أن تكون دومًا في موضع الهجوم وليس الدفاع لحماية أمنها وبقائها، وهذا ما طبقه بوتين حرفيًا في أوكرانيا بحيث لم ينتظر قدوم الاتحاد الأوروبي وأمريكا إلى جانبه ليدخل موضع الدفاع بل قام هو بالهجوم على أوكرانيا وهو الآن يحاول إدخال أوكرانيا إلى حالة الدولة الفاشلة ليسيطر عليها تمامًا ويحمي نفسه من أي خطر أمريكي مداهم لأمنه، أيضًا عندما قامت جورجيا بالهجوم على الإقليم الانفصالي أوستيا الموالي لروسيا؛ قامت روسيا بالانقضاض مباشرة على الجيش الجورجي، وكذلك مساعدتها للنظام السوري والإيراني الخادمين لمصالحها، فتدخلها في هذه الأزمات كان على أساس واقعي بحت لم يمت للحقوق والقيم الإنسانية بأي صلة، وكل هذا كان من أجل مصالحها الخارجية وأيضًا من أجل الدفاع عن مصالحها عن طريق الأسلوب الهجومي الاستباقي وليس الوضع الدفاعي.
من ناحية البراغماتية، بمعنى ترك بعض المبادئ مؤقتًا والتعاون مع أي كان من أجل مصلحة الدولة، طبق بوتين هذه النظرية عن طريق عقده عدة اتفاقيات اقتصادية قوية مع تركيا، على الرغم من معارضة تركيا لكثير من مبادئ روسيا السياسية وخاصة مبادئ دعم النظام السوري ضد الإرهاب، ولكن بوتين تجاهل معارضة تركيا لهذه المبادئ وتجاهل دعمها للجيش الحر وتجاهل تشكيلها خطر كبير على مصالح روسيا في سوريا وقبِل أن يعقد معهاعدة اتفاقيات اقتصادية من أجل مصلحة الدولة، خاصة بعد الحصار الاقتصادي المفروض على روسيا من قِبل الغرب.
أما الميكافيلية فهي أن الغاية تبرر الوسيلة وأنه لا يوجد أي قيم إنسانية أو أخلاقية أثناء تحقيق مصالح الدولة، وتثبت ميكافيلية بوتين في دعمه للنظام السوري والمصري على الرغم من انتهاكهم القانون الدولي والقوانين الإنسانية والحقوقية وذلك كله من أجل مصالح دولته الإستراتيجية في كل من سوريا ومصر؛ فعلى الرغم من دراسة بوتين للقانون الدولي الذي يستدعيه ليكون مثالي وصاحب أخلاق قانونية إلا أن ميكافيليته وواقعيته غلبت على مجال دراسته وجعلته شرس ووحش، فكره وهمه الوحيد هو مصلحة دولته واستقرارها وبقائها القوي.
كما رأينا قمنا بشرح النظرية الواقعية بشكل مبسط وبعد شرحها قمنا بملائمة الأمثلة التطبيقية لبوتين على هذه السياسة التي يقوم بتطبيقها وإتباعها بكل حذافريها ودون أي تفكير، فبوتين وضع نصب عينيه فكرة استعادة التاريخ الروسي الأوراسي التليد، ومن أجل ذلك لا يسعه إلا أن يتبع هذه الطريقة التي تعتبر الطريق الوحيد لتحقيق أهدافه.