صدر تقرير توقعات العقد Decade Forecast الذي تصدره شركة ستراتفور كل خمس سنوات لتتكهن بما ستؤول إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية في شتى أنحاء العالم خلال السنوات المقبلة، وهو تقريرها الخامس منذ صدور أول تقرير عام 1996، وكان التقرير السابق الصادر عام 2010 قد تنّبأ بالكثير مما جرى خلال الأعوام الخمسة الماضية، أبرزها تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني وتزايد الاضطرابات في شرق أوروبا وتفاقم الأزمة المالية الأوروبية وبداية احتواء الولايات المتحدة لإيران.
هنا، نقدم أبرز ما جاء في تقرير 2015 فيما يخص الولايات المتحدة الأمريكية.
لاتزال الولايات المتحدة تمثل حوالي رُبع الاقتصاد العالمي، وهي القوة الأولى بلا منازع في سيطرتها على محيطات العالم، والبلد الوحيد الذي يمتلك قوة عسكرية قادرة على الانتشار بين القارات، لاسيما وهو مطمئن لسلامته نسبيًا نظرًا لعُزلته التي وهبتها إياه الجغرافيا بالمحيطين الأطلنطي شرقًا والهادي غربًا.
منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى اليوم، بدأت الولايات المتحدة صعودها الاقتصادي والسياسي، وهو صعود أصبح مع الوقت في القلب من النظام العالمي، لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية، وسيظل مستمرًا خلال العقد المقبل طبقًا لتقرير ستراتفور.
ما هي أسباب استمرار تفوق القوة الأمريكية رُغم تضاؤل حصتها من الاقتصاد العالمي نظرًا لصعود آخرين كالصين والهند، وتراجع نفوذها وشعبيتها في مناطق مثل الشرق الأوسط؟
العُزلة الإستراتيجية
العُزلة هي أحد أبرز المميزات التي تتمتع بها الولايات المتحدة، ليس على صعيد الجغرافيا فقط، بل واقتصاديًا أيضًا، إذ يصدّر الأمريكيون 9% فقط من ناتجهم القومي للخارج، وهي نسبة يذهب حوالي نصفها إلى كندا والمكسيك الأعضاء في اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية NAFTA، مما يعني أن 5% فقط من اقتصادها معرّض للاهتزاز جراء تقلبات السوق العالمية، هو وضع على العكس من ألمانيا مثلًا، والتي تصدر أكثر من نصف ناتجها القومي وتعتمد على استقرار الاقتصاد الأوروبي والعالمي.
بالإضافة إلى ذلك، أصبحت الولايات المتحدة أكثر استقلالًا فيما يخص الطاقة، فعلى النقيض مما كان عليه الحال في سبعينيات القرن الماضي، حين وقعت أزمة النفط العربية وأثرت على الاقتصاد الأمريكي، أصبحت الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة منتجًا كبيرًا للطاقة بعد ثورة شيل، والتي وضعت الإنتاج الأمريكي من الغاز والنفط رأسًا برأس مع نظيريه الروسي والسعودي (على التوالي)، وإن كان الاقتصادان الروسي والسعودي يعتمدان على تصدير هذه الثروة بشكل حيوي، ويتأثران بقوة إذا ما تقلبّت أسعارها، كما رأينا مؤخرًا، فإن الولايات المتحدة تستهلك معظم ما تنتجه في الداخل، وهو ما يجعلها أقل تأثرًا مرة أخرى بتقلبات السوق العالمية.
رُغم عزلتها تلك، وبسبب سوقها الكبير والمحوري للاقتصاد العالمي، وحرية رأس المال الكبير والصغير التي تتمتع بها، ومع غياب الارتباط بين أي مفاهيم عرقية بماهية الدولة كما الحال في أوروبا، كانت الولايات المتحدة، ولاتزال، مغنطيسًا يشد رأس المال والمهاجرين من شتى أنحاء العالم، وهو اتجاه في تزايد مؤخرًا نظرًا للأزمة التي تعصف بالاقتصادين الأوروبي والروسي، وأيضًا بسبب ارتفاع التكاليف الاقتصادية في الصين وانخفاضها في أمريكا، كما يشير التقرير في جزئه الثالث، مما يدفع بالكثيرين في هذه البلدان إلى تحويل أموالهم أو مشاريعهم إلى السوق الأمريكي.
بالنظر لتلك العزلة الاقتصادية الأمريكية المتزايدة، وإن كانت لاتزال مركزية للنظام العالمي، فإن التقرير يتوقع انخراطًا أمريكيًا أقل في الصراعات السياسية حول العالم، وتدخلات عسكرية محدودة وقليلة ستختارها واشنطن بعناية، على العكس من السنوات الماضية، وهو نمط نشهد بوادره الآن في الشرق الأوسط وشرق أوروبا، إذ عزفت الولايات المتحدة عن أي تدخل مباشر ضد داعش أو النظام السوري أو الحوثيين أو غيرهم ممن قد يهددون حلفاءها في المنطقة، كما تظل رافضة لأي تدخل في أوكرانيا، وبالكاد تلوّح بتزويد الجيش الأوكراني بالسلاح.
فك الاشتباك لا الارتباط
على مدار القرن الماضي كان القلق الأمريكي الرئيسي هو ظهور قوة واحدة تهيمن على أوروبا، وهو سيناريو يمكن حدوثه إذا ما حدثت مواءمة بين الألمان والروس، أو غزا واحدٌ منهما الآخر، فرأس المال والتكنولوجيا الألمانية مع الثروة البشرية والطبيعية الروسية، وفي تلك المساحات الشاسعة بشرق ووسط وشمال القارة، قادران على تسيير دفة أوروبا بسهولة وتشكيل قوة أطلسية، وبالتالي تهديد المصالح الأمريكية في المستقبل، وهو سيناريو لم يحدث حتى الآن نظرًا لنجاح الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية في خلق تحالفات في وقت مبكر من نشوب أي صراع، مثلما جرى في الحربين العالميتين والحرب الباردة.
هذا السيناريو غير مرجّح الآن رغم مخاوف الكثيرين من التعاون الاقتصادي الوثيق بين ألمانيا وروسيا نظرًا للخلافات السياسية بينهما، والتزام ألمانيا بالتحالف العسكري مع الولايات المتحدة مع عدم وجود بديل آخر للدفاع عنها، واعتماد ألمانيا في قوتها الاقتصادية على الاتحاد الأوروبي، وهو المشروع الذي تعاديه روسيا وتحاول تفريق صفوفه ومنع تمدده في الشرق منذ سنوات.
بالنسبة لروسيا، والتي قد تشكل خطرًا بمحاولات هيمنتها منفردة على القارة الأوربية، فإن الولايات المتحدة ستحاول في الفترة المقبلة احتواءها عبر تحالفات سياسية وعسكرية مع دول أوروبية في شرق وشمال وجنوب القارة تتم بالأساس من خلال العلاقات الثنائية، وستكون مع دول البلطيق وبلغاريا وبولندا ورومانيا، وكذلك مع تركيا، وهي القوة العسكرية الوحيدة حاليًا داخل حلف الناتو القادرة على الاضطلاع بدور مهم في موازنة روسيا، لاسيما وموقعها وثقافتها وتاريخها يسمح لها بتشكيل تحالفات تحد من الخطر الروسي أيضًا مع دول القوقاز وأسيا الوسطى (أذربيجان، تركمنستان، أوزبكستان، كازاخستان)، وهي ميزة لا تمتلكها بولندا أو الدول الأوروبية الأخرى، وسيكون سهلًا في هذا السياق أن تعطي الولايات المتحدة للأتراك العون العسكري اللازم في أي وقت، ماداموا قد أعفوها من الانخراط المباشر.
في المُجمَل، ستتجه الولايات المتحدة في السنوات المقبلة، أو هي في طريقها بالفعل، إلى فك الاشتباك العسكري والسياسي المباشر في شتى أنحاء العالم، مع استمرار ارتباطها عبر التحالفات السياسية، والدعم العسكري لقوى موجودة بدلًا منها على الأرض، وبالطبع تعزيز التعاون الاقتصادي مع مختلف الأطراف، وستركّز واشنطن جزءًا كبيرًا من جهودها في احتواء العملاق الصيني قدر الإمكان في إطار إعادة الترتيب الحتمي للموازين في المحيط الهادي، أيضًا دون دخول أي صراع مباشر، لاسيما وأن الصراع في تلك المنطقة سيهدد الاقتصاد العالمي إذ تمثل منطقة أسيا والهادي الآن حوالي نصف الاقتصاد العالمي، وهي واحدة من أبرز أسباب التفات واشنطن إليها.
بوادر أزمة داخلية
المشكلة الوحيدة التي قد تواجه الولايات المتحدة طبقًا للتقرير هي مشكلة اجتماعية اقتصادية، ومن المتوقع أن تتفاقم بعد 2025، وهي جزء من دورة طبيعية يمر بها الأمريكيون كل خمسين سنة على مدار تاريخهم المعاصر، وتنتهي عادة بأزمة اقتصادية أو اجتماعية، وكانت الدورة الأولى قد بدأت عام 1932 بانتخاب الرئيس فرانكلين روزفِلت وانتهت برئاسة جيمي كارتر، حيث كانت هنالك حاجة إلى خلق طلب في السوق الأمريكي من مصانع خاملة نوعًا ما اتسمت بضعف الإنتاج، ومع النجاح في تغيير ذلك وصلت السوق في النهاية إلى مرحلة من الاستهلاك المُفرِط في السبعينيات، مع تراجع في الاستثمار وتضخّم.
بدخول الرئيس رونالد ريجان، وُضِعت أساسات لإعادة هيكلة الصناعة الأمريكية عبر تغييرات في منظومة الضرائب، ووضع رواد الأعمال والموظفين من ساكني الضواحي في مركز المنظومة الاقتصادية، بدلًا من العمالة الصناعية الكلاسيكية، لتبدأ دورة جديدة، وهي دورة يتوقع التقرير أن تنتهي بعد حوالي 15 عامًا، والأزمة المنذرة بنهايتها، والتي توجد مؤشرات لها الآن، هي أزمة الطبقة الوسطى الأمريكية، والتي ستعاني من فقدان القدرة على التمتع بنفس مستوى المعيشة الحالي المتوقع.
أدت إصلاحات سنوات ريجان في ثمانينيات القرن الماضي إلى تراجع نمط الموظف المُعيَّن بعقود طويلة وزيادات سنوية في راتبه مع تمتّعه بمميزات متعددة، نظرًا لتأثير ذلك على إنتاجية الشركات وتنافسيتها، ليحل محله نظام تعيين قصير المدى تتمتع فيه الشركات بسهولة في تغيير موظفيها وبالتالي هيكلتها، وتباعًا مرونة في الاستجابة لتقلبات السوق عبر الاندماج مع غيرها أو الانقسام إلى أكثر من شركة؛ وهو ما أدى إلى تراجع الأمن الوظيفي وغياب تراكم الدخل الخاص بالطبقة الوسطى كما كان يحدث سابقًا، وهو ما يعني فعليًا تفسّخ الطبقة الوسطى إلى قسمين؛ قسم ينجح في الصعود إلى أعلى، وقسم يهبط إلى أسفل.
يُعَد متوسط دخل البيت الواحدة في الولايات المتحدة حوالي 40.000 أو 50.000 دولار سنويًا، وهو ما يتيح لمعظم المنتمين للطبقة الوسطى شراء منزل متوسط خارج المدن الكبيرة، باستثناء الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، وهي حوالي 25% منها الآن، والتي لا يُتاح لها ذلك، أولًا بسبب ارتفاع معدّل البيوت ذات العائل الواحد في العقدين الأخيرين، وهو ما يعني فعليًا انقسام أسر كثيرة بين منزلين مع تضاعف الكثير من نفقات المعيشة، وثانيًا بسبب إصلاحات الثمانينيات.
لم تظهر نتائج هذه الأزمة بعد إلى السطح بشكل واضح، مثلما يحدث الآن مع الأزمة الأوروبية، والتي تعاني منها القارة العجوز لأسباب على النقيض من النموذج الأمريكي؛ غياب قدرة الشركات على مواكبة ديناميات السوق بكفاءة نظرًا لاهتمام النموذج الأوروبي بشكل مُفرِط بتأمين العمالة وتعزيز المميزات التي تتمتع بها، وغياب ثقافة رأس المال الحر الصغير والمُخاطِر، وهو ما جعل آثار الأزمة المالية لعام 2008 محسوسة بشكل أكبر بين أفيال السوق الأوربية، في حين نجحت الولايات المتحدة في الخروج من الأزمة سريعًا.
بغض النظر عن الخلافات النظرية حول جدوى أي من النموذجين، فإن مرونة الشركات الأمريكية التي نأت بها عن مصير أوروبا، تجعلها عُرضة لأزمة اجتماعية من نوع آخر تعاني منها كل المجتمعات الرأسمالية الصِرفة، وهي تراكم الثروات في أعلى السلم الاجتماعي، وانقسام الطبقات فعليًا إلى عُليا ودُنيا مع غياب الطبقة الوسطى، وهي ربما الأزمة الوحيدة التي قد تهدد دور الولايات المتحدة في العالم أكثر من المخاطر الخارجية التي تواجهها، إذ إنها تضرب في قلب نموذجها الاقتصادي الذي أعطاها على مدار قرن مركزية في النظام العالمي.
عدا ذلك، وعلى الصعيد الإستراتيجي والعسكري والسياسي، تظل الولايات المتحدة هي القوة الأولى في العام، وستبقى على أقل تقدير حتى 2025.