انتشر في الآونة فيديو كليب للمنشد عمر صعيدي بتقليعة عجيبة، مرفوق بتعليقات تستغرب شكله الخارجي وأنه لا يتناسب مع صورة “المنشد الإسلامي”.
لا أخفيكم .. منذ مدة وأنا أتأمل ظاهرة الإنشاد “الإسلامي” الحديثة، أجد كثيرًا منها يفتقر لمقومات الفن، بل كثير مما يسمى الأناشيد ليس من الفن الراقي في شيء، لكن أتحفظ في ذكر ذلك لأن هناك من سيسِمه أنه مسألة “ذوق” فقط! ويظل الانحدار الفني آفة طالت الغناء في جملته وليس ما يسمى بـ “الإنشاد” بمعزل عن ذلك.
هنا يجب التساؤل ما هي معايير الإسلامية في الغناء؟ وما الإسلامي في الأناشيد الإسلامية؟ ثم ما هي المعايير الفنية فيه أيضًا؟ ولماذا حملت بصمة الإسلامية دون غيرها من أنواع الغناء الهادف؟
كثيرًا ما ربطنا معايير الإسلامية بشروط شكلانية، قد تتفق وقد تختلف، لكن آن الأوان لإعادة تفسير المسألة وفق معايير جديدة أكثر علمية.
الإنشاد الإسلامي والفيديو كليب
صار للأناشيد الإسلامية فيديو كليبات سيرًا مع ظاهرة “الفيديو كليب”، لأنه أسرع في الانتشار والإشهار وترسيخ ثقافة الصورة.
بالنسبة لما حصل في فيديو “بنحب الحياة” لعمر صعيدي، فقد كان التحليل سطحيًا إلى حد كبير، حيث تم التوقف فقط عند المظهر الخارجي لـ “عمر صعيدي” – أُمَثل به هنا لأنه انتشر في الآونة الأخيرة وسبّب هذا التناقض عند كثير من متابعيه ومحبيه -، ولم ننظر في عدد من الزوايا التي يجب إثارتها علميًا بعيدًا عن التفسيرات الواسعة والفضفاضة.
لو تأملنا هذا الفيديو مثلاً، سيظهر لنا أن المشكلة لا تكمن فقط في التقليعة التي جاء بها، والتي استغربها الكثيرون ووجدوها تناقض صورة “المنشد الإسلامي” وتعارضها، وإنما الأمر أبعد من ذلك وأعمق، فقد تكون مجرد تجلّ من تجليات القيم التي يمثلها الفيديو كليب.
آفتنا في التعامل مع النشيد “الإسلامي” أنه يوصف “بالإسلامية” في الغالب لأنه يذاع في قناة توصف بـ “الإسلامية”، وإن كانت تلتزم بقيم الليبرالية الاقتصادية وتلتزم بمعايير السوق – وإن كان المضمون قد يرد في أي عمل فني آخر، لكن لا يوسم بالإسلامية لأن صاحبه غير معروف بالإنشاد “الديني” مثلاً وإن كان مضمون ما يقدمه لا يتعارض مع مقررات الدين – وصار ذلك كافيًا لأن ينشر المنشد الإسلامي نشيده “الإسلامي” بأي شكل كان، المهم أن ينضبط لشروط الفيديو كليب الجديد من الاستعراض والاستهلاك والفرجة ومتضمنًا لأشرس قيم الحداثة في العمق.
هكذا صار الفيديو كليب “الإسلامي” مسوقًا قويًا لثقافة الاستهلاك، ومسهمًا بارعًا في ترسخها بقوة في صورة سيارات فارهة وقيم استهلاكية جلية حتى نكون ممن “يحب الحياة”، شأن الفيديو كليبات الغنائية الأخرى الموجود اليوم في الساحة المسماة ظلمًا وزورًا بـ “الفنية”، عدا عن مسألة الإثارة مثلاً، فإن كانت آفة ظاهرة الفيديو كليب الغنائي الفساد الأخلاقي والفني، فإن آفة فيديو كليب الإنشاد “الإسلامي” الفساد القيمي.
فيمكن القول إن معظم الإنشاد الإسلامي يشترك بشكل كبير مع ما يسميه باتريك هاني “بإسلام السوق”، في بعده السلبي، ويرسخ لـ “مجتمع الفرجة” بتعبير جي دوبور، فصار إنشادًا تحركه قوى السوق، ويقدم مخيالاً لا يختلف في جوهره عن الغناء الاستهلاكي الموجود وهو إسلام مختزل واستهلاكي إلى حد كبير.
فالنقاش الجاد في هذه الظاهرة يبتدئ بتحرير إشكالية “الأسلمة”، ثم الانتقال إلى الحداثة وقيمها وعلاقتها بظاهرة “الإسلام الجديد” وتجلياته، فهذا الربط سيجعلنا ندرك أن كثيرًا من المظاهر وإن كانت إسلامية في الظاهر فهي حداثية في العمق، وتقدم قيمًا بعيدة كل البعد عن الإسلام، بل تعكس قيم السوق كقيم الاستهلاك والاستعلاء والتسليع والاستعراض بشتى أنواعه.
أعرف أن الظاهرة تحتاج لدراسات معمقة أكثر، تكشف عن تفاصيلها وتمفصلاتها بتوظيف عدد من المعارف العلمية والآليات المعرفية المتنوعة من أجل فهمها وفك شفرتها.
وأنصح في هذا المقام بقراءة كتاب “مجتمع الفرجة”société du spectacle، وكذا “إسلام السوق” لباتريك هاني من أجل فهم الكثير من المظاهر الموجودة اليوم، خصوصًا تلك التي تغلفت بغلاف الإسلامية والأسلمة.
وأختم بواقعة حدثت مع الأستاذ عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، ذكرها في سيرته “غير الذاتية غير الموضوعية”، وهي أقرب لما نحن بصدده، فجوهر الظاهر واحد، والتفسير المختزل نفسه، والآفة مستمرة للأسف؛ يقول: “كنتُ مرّة أجلس أمام التليفزيون مع بعض الإخوة الإسلاميين الذين أقاموا في الغرب ما يزيد عن عشرين عامًا، وبدأ برنامج المصارعة الحرّة وسألتهم سؤالاً افتراضيًا عمّا إذا رأى الرسول صلى الله عليه وسلم مثل هذه المصارعة فكيف سيكون موقفه؟ فإذا بهم يقولون إنه بالتأكيد لن يُوافق عليها، وحينما طلبت منهم تفسيرًا، قالوا لأنّ المصارعين لا يرتدون لباسًا شرعيًا! إنّهم لم يُدركوا المشكلة الكبرى، لقد أدركوا الاختراق الأخلاقي السطحي فقط، أمّا الاختراق العميق المُتعلّق بفلسفة هذه المصارعة غير الإنسانية فلم يدركوه”.
هذا حالنا في تفسير كثير من المظاهر الحديثة والحداثية، نكتفي بالظواهر ولا نتغلغل للجوهر، وإن خالف قيم ما ادعاه ظاهرًا، وتظل العبرة بالمعاني لا المباني.
والله أعلم..