بعد تعرض الإسلاميين في تركيا للاضهاد والإقصاء السافر من قِبل الدولة وتعرضهم للنبذ والانتقاد من قِبل فئات كبيرة من المجتمع التركي بسبب تعصبهم الإسلامي ومحاولاتهم لإحداث تغيير ريديكالي في تركيا العلمانية بين عشية وضحاها، خاصة ما قام به المرحوم نجم الدين أربكان المؤسس للحركة والإسلامية وحزبها في تركيا والذي فور تسلمه الحكومة عام 1996 قام بزيارة إيران وبعد ذلك ليبيا وبعض من الدول الإسلامية أيضًا، في نفس الفترة دعى إلى ليلة القدس في مدينة قونيا أكبر المدن في تركيا وأكثرها تقربًا للدين الإسلامي.
قيام أربكان بتغيير القبلة التركية من الغرب إلى الشرق بشكل مفاجئ ودون تدرج، وأيضًا قيامه بالدعوة لليلة القدس في قونيا وحشده لأكثر من مليون تركي في مهرجان إسلامي بالنسبة لنا ظاهر الأمر عادي جدًا، ولكن إنه لأمر عجيب جدًا بالنسبة لدولة تركيا العلمانية التي تعد نفسها غربية وحديثة ومفصولة عن الدين.
شعرت أركان الدولة وخاصة الجيش في تلك الفترة أن مبدأ العلمانية التي تأسست عليها الدولة التركية دخل مرحلة الخطر، وزينت وسائل الإعلام العلمانية القوية لهم ذلك؛ لذا على الفور قام الجيش بتاريخ 28 نوفمبر 1997 بقلب حكومة أربكان ومنع أربكان وحزبه من المشاركة السياسية، وأصدرت المحاكم الموالية للعسكر في تلك الفترة عدة قوانين تحد من الحرية للمعالم الإسلامية من حجاب ولحية .. إلخ، إنها تجربة مرسي قصيرة البصيرة بعينها.
قصر البصيرة والتعصب ونفي الأخر جعل مجموعة من حزب أربكان الإسلامي (رفاه) يؤسسون حركة جديدة داخل الحزب تسمي حركة المجدود التي تحمل في طياتها أساليب جديدة، مثل قبول الآخر أي الديمقراطية، التأني والتدرج في العمل، العمل على تغيير الواقع ضمن إطار العلمانية وليس بالخروج عليها، واستخدام البراغماتية؛ أي الابتعاد قليلاً عن بعض المبادئ من أجل تحقيق الغاية إن لزم الأمر، هذه الأساليب كانت مرفوضة تمامًا في دستور حزب الرفاه بقيادة أربكان.
بعد تأسيس هذه الحركة عمل مؤسسوها في شكل مؤسسة اجتماعية لأن الحزب كان محظور في حينها وكانت بعض الشخصيات منها أيضًا محظورة مثل رجب طيب أردوغان الذي تلفظ ببعض أبيات شعر وصفت في حينها “تفريقية ومحرضة”، عملت هذه المؤسسة على إيجاد قاعدة شعبية عامة لها بين صفوف الإسلاميين والمحافظين وبين صفوف الغير المحافظين “الديقراطيون الذي يعطون الفرصة لمن يأتي من خلال صندوق الاقتراع مهما كانت هويته”، وهكذا عملت هذه الحركة بقيادة عبدالله جول وبولنت أرانتش ورجب طيب أردوغان وغيرهم، كان أساس العمل لدى الحركة هو العقل المشترك؛ بمعنى المحافظة على قيادة هذه الحركة بشكل مؤسساتي مشترك، ولكن هذا لن يحدث؟! قررت هذه الحركة بعد حصولها على قاعدة شعبية موالية وكبيرة تأسيس حزب العدالة والتنمية بتاريخ 21 أغسطس 2001 بقيادة رجب طيب أردوغان، كما قررت دخول الانتخابات وحازت على نسبة 34%، على الرغم من كون هذه الانتخابات هي الأولى التي تخوضها، ولكن تأسيس الحركة لجبهة شعبية موالية قوية قبل دخول الانتخابات أعطى لها الفرصة في تحصيل تلك النسبة.
بعد الفوز بالانتخابات لم يستطع رجب طيب أردوغان دخول المجلس لوجود حظر سياسي علي شخصه؛ لذا تولى عبدالله جول رئاسة الوزراء في تلك الفترة، ولكن بعد عام بعد رفع الحظر السياسي على أردوغان استطاع أردوغان دخول المجلس وتم اختياره كرئيس للوزراء، بعد دخول أردوغان للمجلس وحصوله على موقع رئاسة الوزراء أصبح حزب العدالة والتنمية تحت ظله ومرتبط باسمه، واستطاع أردوغان بشخصيته الكرازماتية وصوته المجيش للعواطف والعازف باحترافية حسب الحال، إلى جانب قدرته القوية على استخدام الكلمات بانتقاء ودقة واستخدامه لوسائل الإعلام وحنكته السياسية وقدرته الموفقة على إدارة الأمور بذكاء، أن يكون مسيطرًا على حزب العدالة والتنمية من خلال جذب شركائه وشعبه حول شخصه وأصبح هو القائد الفذ أو الأسطورة العظيمة.
نظرية الرمز العظيم تنفي وتمحو نظرية المنشأة أو المؤسسة أو الحزب الرائد؛ فنظرية الرمز العظيم مدة صلاحيتها تنتهي وتندثر بذهاب واندثار الرمز أو الأسطورة.،انتبه الكثير من رموز ورواد وأكاديميي حزب العدالة والتنمية لهذه النقطة؛ لذا قاموا بعد انتهاء فترة قيادة أردوغان للحزب بتطوير فكرهم للانطلاق نحو فكرة العمل المؤسساتي للتقرب من آلية البقاء والاستمرارية والحصول على فرصة التطوير والنجاح الذاتي حتى لو كان أردوغان غير موجود، لحماية بقاء الحزب والمحافظة على قاعدته الشعبية.
بعد اجتماعات موسعة قررت رموز حزب العدالة والتنمية أو بالأحري قرر أردوغان التنحي بعد نفاذ فترته الرئيسية (ينص الدستور الداخلي لحزب العدالة والتنمية أنه يحق للشخص أن يقود الحزب ويترشح فقط لثلاث جولات) داخل الحزب وترشحه للرئاسة، بعد تنحي أردوغان عن قيادة الحزب والحكومة وقع الاختيار التوافقي على أحمد داود أوغلو لقيادة الحزب والحكومة، في بداية تولي أحمد داود أوغلو لرئاسة الوزاء بدأ له ظهور إعلامي واسع ومهم وبارز، والكل تبشر بتحول حزب العدالة والتنمية من حزب مرتبط بشخص إلى حزب مرتبط بفكر وعمل مؤسساتي، لكن هذا التبشر لم يدم طويلاً، حيث قام أردوغان بعد الغياب لفترة وجيزة بالظهور القوي في الإعلام مرة أخرى وقام بتنظيم عدة جولات دولية كان من الأصح أن يقوم بها أحمد داود أغلو كونه رئيس الوزراء ويملك صلاحيات أكثر من الرئيس حسب دستور النظام السياسي الموجود في تركيا، لكن أردوغان لم يأبه بهذا القانون وخاض جولات عديدة عبر العالم زار بها الكثير من الدول ووقع اتفاقيات اقتصادية وسياسية لا يملك التوقيع عليها إلا بعد إطلاع رئيس الوزراء والحكومة التركية عليها، لكن أردوغان تعدى هذا القانون ومارس عمله كما هو يريد وليس كما ينص القانون.
وعلى الصعيد الداخلي أيضًا قام أردوغان بعدة لقاءات تلفزيونية مدح فيها النظام الرئاسي وفوائده وحث الشعب على دعمه في قضية تغيير النظام السياسي الموجود في تركيا من نظام برلماني إلى نظام رئاس، أيضًا حسب القانون التركي لا يجوز للرئيس تحريض الشعب على فكرة معينة بل يجب عليه التعامل الموضوعي مع الأنظمة والأجهزة والعملية السياسية الموجودة في البلاد.
كل خروقات أردوغان هذه تؤكد رغبته في المحافظة على استمرار ظله على الساحة السياسية بشكل قوي، لنقل يحق لأردوغان ذلك؛ فهو نقل تركيا نقلة نوعية وقوية، لكن بعد انتهاء فترة رئاسته ماذا سيحل بحزب العدالة والتنمية المرتبط باسمه؟ سيكون حاله حال كثير من أحزاب ومؤسسات ارتبط اسمها باسم مديرها أو قائدها، حيث اندثرت هذه الأحزاب وأصبحت في خبر كان بمجرد ذهاب القائد عنها، حاولت القيادات الأخرى لحزب العدالة والتنمية إنشاء عمل مؤسساتي داخل الحزب واستهدفوا وجود أردوغان بالرئاسة ليساعدهم في ربط الناس بالحزب وقائده الجديد وتدريج الناس على التعلق بحزب العدالة كحزب وليس حزب العدالة كشخص، ولكن تعنت أردوغان بالسيطرة على الحالة السياسية كما تعود جعلت هذه الخطط تفشل، قد ينجح أردوغان في أن يحول النظام السياسى في تركيا إلى نظام رئاسي، ولكن فشله في إنقاذ حزب العدالة من الضياع بعد انتهاء فترة رئاسته – الذي يحق له دخولها مرة واحدة فقط – لا محال منه.