ترجمة وتحرير نون بوست
يتوافد المتقدمون للعمل كل يوم إلى مقر شركة سهيل، إحدى الشركات المصرية العديدة المنتشرة في حي الدقي متوسط المستوى، والتي تعمل على توظيف المصريين خارج البلاد، حيث يسعى الرجال في الغالب للحصول على وظائف في المملكة العربية السعودية أو الكويت أو حتى أوروبا، ولكن أيًا منهم لا يسعى – حاليًا – للعمل في ليبيا.
“آخر طلب توظيف وصلنا للعمل في ليبيا كان قبل حوالي الشهرين”، قال أحمد، أحد موظفي الشركة التي تعمل على توظيف المصريين العاطلين عن العمل في الأماكن التي يفترض أن تكون أفضل من مصر، وأضاف “قبل هذا التاريخ كان لدينا عشرات الطلبات كل أسبوع تطلب الحصول على عمل في ليبيا”.
جاء التوقف المفاجئ لأعمال شركة سهيل في ليبيا المضطربة إثر الأخبار المسربة التي أشارت إلى اختطاف عمال مصريين من قِبل تنظيم الدولة الإسلامية هناك، وبعدها قام التنظيم المجرم في 15 فبراير الماضي بإصدار مقطع فيديو يوضح إعدام 21 مصريًا قبطيًا بطريقة وحشية.
ومنذ ذلك الحين، جهدت الحكومة المصرية لإعادة المواطنين من جارتها الغربية التي مزقتها الحرب، وفعلاً عاد الآلاف من المصريين بسلام إلى ديارهم، كما منعت السلطات المصرية مواطنيها من الذهاب إلى الدولة الجارة، إبان تدهور الأحداث الأخير، ولكن مع ذلك، وحتى بعد موجة الاختطاف الجديدة المزعومة للعمال المصريين في ليبيا، مازال الكثير من المصريين هناك يرفضون العودة إلى الوطن.
مع ازدياد معدلات البطالة في مصر لتصل إلى 13.1% في أحدث الأرقام الرسمية، ومع ارتفاع معدلات التضخم لتصل حتى حوالي 10%، يفضل آلاف المصريين البقاء في ليبيا حيث يبلغ متوسط دخل الفرد حوالي أربعة أضعاف ما قد يجنيه في مصر، لهذا السبب وبالإضافة إلى وفرة فرص العمل، بقيت البلاد المنتجة للنفط وجهة جذابة لأولئك الذين يبحثون عن فرص للعمل، على الرغم من غرق البلاد المتزايد في الفوضى العارمة التي تعمها منذ بدأت ثورة عام 2011 ضد الزعيم الديكتاتوري معمر القذافي.
الخبز أم الحياة؟
رغم كل العنف الدائر في البلاد، يرفض العامل المصري محمد عبد الجواد مغادرة ليبيا، حيث يقول “أمامي أحد خيارين، الأول أن أحقق مدخولاً جيدًا حتى يتم قتلي، وهو أمر قد لا يحدث، والآخر أن أعيش بسلام ولكن بدون عمل، وعندها لن أتمكن من تحصيل خبز قوتي اليومي؛ لذا ما بين الحياة والخبز؟ أنا اختار الخبز”.
عبد الجواد (27 عامًا) الذي يعمل دهانًا وصل لأول مرة إلى ليبيا في عام 2013، وعلى الرغم من أنه يعيش في مدينة سرت الساحلية، وهي المدينة التي تم فيها اختطاف المصريين الذين تم قتلهم، إلا إنه يرفض المغادرة.
تنظيم الدولة الإسلامية الذي استولى على بقع واسعة من العراق وسوريا، هو أحد التنظيمات المسلحة العديدة التي وجدت لها موطئ قدم في ليبيا، وذلك عقب الأزمة التي بدأت عندما طالبت القبائل المسلحة التي ساعدت في إسقاط القذافي بالمزيد من القوة وبحصص أكبر من نفط البلاد، وعندها تضخم التمرد ليتحول إلى حرب أهلية، خاضت فيها حكومتان متعارضتان معارك ضارية للاستيلاء على السلطة وسط حالة من استشراء العنف وتفاقم التطرف.
الحكومة الإسلامية – التي تتخذ العاصمة طرابلس كمقر لها – والفصائل المسلحة التي تتبعها، اتهموا مصر بدعم الجنرال المنشق المسؤول عن الحرب الشرسة ضد المتطرفين المتشددين الجنرال خليفة حفتر، وهو حليف للحكومة الليبية المعترف بها دوليًا في طبرق، وهذا الموقف جعل مصر هدفًا للهجمات من قبل الجماعات المتشددة مثل الدولة الإسلامية؛ ففي نوفمبر من العام الماضي استهدف انفجار السفارة المصرية في ليبيا محدثًا أضررًا طفيفة، وبعد ذلك، وفي 21 شباط استهدفت انفجارات متعددة المواطنين المصريين في ليبيا، مما أسفر عن مقتل 6 مصريين وجرح 36 مصريًا آخر، وأعلن تنظيم الدولة الإسلامية مسؤوليته عن هذا الهجوم، حيث صرّح أنه جاء انتقامًا للغارات الجوية المصرية التي استهدفت معقل الجماعة في مدينة درنة بشرق ليبيا بعد بث فيديو قتل المواطنين الأقباط المصريين.
المزيد من المال نتيجة للحرب
يوضح عبد الجواد أن هناك فرص عمل لا تعد ولا تحصى للمصريين الباقين في ليبيا، وأن الحرب قد خلقت المزيد من هذه الفرص، حيث يقول “عند وصولي إلى ليبيا لأول مرة، كان سعر طلاء المتر الواحد دينارين ليبيين “11.7 جنيه مصري”، أما الآن فإن السعر تضاعف إلى أربعة دنانير، وهذا يعني أن العامل يستطيع أن يحصل على إجازة بدون عمل لمدة عام كامل مقابل دهان منزل واحد فقط”، ويضيف “الآن، وفي ظل الدمار الحالي العديد من المنازل بحاجة إلى إعادة بناء أو إصلاح وبالنظر إلى قلة الأيدي العاملة المتاحة للقيام بهذا العمل، من ذا الذي يترك كل هذا ويهرب؟”.
إن حرية التنقل عبر الحدود المصرية الليبية التي ضمنتها الاتفاقات الموقعة في عام 1991 في أعقاب الأزمة السياسية التي حصلت في تلك الفترة بين الجارين المصري والليبي، ساعدت الآلاف من المصريين، ومعظمهم من المزارعين والعمال ذوي المهارات المتدنية، للتنقل بين الحدود بحرية ذهابًا وإيابًا، اعتمادًا على احتياجاتهم، كون دخول المصريين إلى ليبيا يحتاج فقط إلى بطاقة هوية شخصية صالحة، كما أن انخفاض الرقابة والقيود على المعبر الحدودي ما بين مصر وليبيا شجع على زيادة الهجرة غير الشرعية من مصر؛ مما أدى إلى صعوبة تحديد الأرقام الدقيقة للمصريين الذين عبروا الحدود إلى ليبيا، حيث تشير الأرقام الرسمية أن العدد الحالي للمصريين في ليبيا يتراوح بين 1.5 مليون و250.000 مصري.
الإخلاء
طوال السنوات الأربع السابقة التي عانت فيها ليبيا من فوضى واضطرابات عارمة، عملت مصر على تكثيف إجراءات إجلاء مواطنيها الراغبين بالعودة، إما عن طريق معبر السلوم البري، أو عن طريق تونس الجار الغربي لليبيا، كما عمدت مصر – وغيرها من الدول – إلى سحب بعثاتها الدبلوماسية من طرابلس خلال الصيف الماضي، وفي 31 يوليو تم إنشاء جسر جوي طارئ يصل بين مطار جربة الدولي في تونس ومطار القاهرة الدولي، ووفقًا للتقارير عاد أكثر من 40.000 عامل مصري إلى الديار عبر تونس في عام 2014، كما تشير التقارير أنه في أعقاب فيديو ذبح المصريين، عاد الآلاف من العمال إلى مصر، ولكن المكالمات الهاتفية التي حاولنا فيها التأكد من هذه الأرقام من المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية المصرية لم يتم الرد عليها.
من جهته قال المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية بدر عبد العاطي في تصريح لميدل إيست آي: “يُطلب من المصريين أخذ الحيطة والحذر في جميع الأوقات، والبقاء في المناطق الآمنة، وفقط أولئك الذين يواجهون تهديدًا حقيقيًا على حياتهم يُطلب منهم مغادرة البلاد”.
بالنسبة للعديد من الأقباط، كان فيديو قتل الأقباط المصريين رسالة واضحة لهم للهرب من ليبيا، وأشار ملك شكري، الذي كان شقيقه يوسف من بين القتلى المسيحيين في الفيديو، أن جميع الأقباط الذين يعرفهم قد عادوا بالفعل، علمًا بأن 13 شخصًا من الذين أظهر الفيديو ذبحهم هم من قريته العور في المنيا بصعيد مصر.
يشير شكري أن شقيقه يوسف حاول أن يعود إلى مصر إلا أنه لم يستطع، وأضاف أن ما حدث في ليبيا جعل جميع المصريين – وخاصة المسيحيين – يسعون للخروج من ليبيا بشتى الطرق والوسائل، ويتفق عبد الجواد مع ما قاله شكري، واصفًا كيف يستيقظ في كثير من الأحيان صباحًا على استعراضات عسكرية تتضمن مرور عشرات مركبات الدفع الرباعي التي تحمل عددًا لا يحصى من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية الملثمين، أو وصول قوافل من المقاتلين الذين ينتمون إلى فجر ليبيا، وهو فصيل مسلح آخر في ليبيا، وأضاف قائلاً: “لقد غادر جميع العمال المسيحيين من هنا، لكن بالنسبة لنا، طالما أن موقف المقاتلين لم يتغير، نحن باقون”.
تشير التقارير أن الأقباط المصريين تركوا حتى العاصمة طرابلس التي تعد هادئة نسبيًا، والمسيطر عليها من قِبل حركة فجر ليبيا منذ أغسطس 2014، كما يشير محمد فوزي، الذي يعمل أمين مخزن في طرابلس، أن الكنيسة القريبة من منزله في طرابلس أغلقت أبوابها.
مصر ليست أفضل حالاً
فوزي أيضًا يرفض ترك عمله في ليبيا، على الرغم من أن حركة فجر ليبيا أمهلت المصريين 48 ساعة للمغادرة من أجل سلامتهم الشخصية، مشيرًا إلى أن راتبه في ليبيا أكثر بحوالي 10 أضعاف مما قد يحصل عليه في مصر، وأضاف أن الوضع الأمني المتدهور في مصر هو سبب آخر لا يحفزه على العودة.
أوضح فوزي أن مقاتلي فجر ليبيا يتحققون من أوراق المصريين، وفقط في حال كانت هذه الأوراق غير نظامية يمكن أن يقع العامل المصري في ورطة، وأضاف أن التجول في ليبيا بدون رفقة شخص ليبي هو عملية غير آمنة.
يعارض فوزي الضربات الجوية المصرية ضد الميليشيات في ليبيا، حيث يقول “الحكومة انحازت نحو أحد الجانبين في حرب ليست من شأنها، والحكومة بذلك تعرض معيشة وحياة المصريين للخطر”، وأضاف “أنا لن أكذب وأقول أنني لست خائفًا، ولكن دعنا نواجه الأمر، الوضع الأمني في مصر ليس أفضل حالاً”.
ويضيف فوزي أنه من المشجعين المتشددين لفريق الزمالك المصري، وكان يمكن أن يكون واحدًا من الـ22 مصريًا الذين لقوا حتفهم في التدافع الذي حصل أمام استاد الدفاع الجوي بداية الشهر المنصرم، والذي اتهمت فيه قوات الأمن المصرية بتورطها في وفاة هؤلاء المصريين.
يبرر فوزي موقفه بقوله “إذا مت هنا ستكرمني حكومتي، وسأعامل معاملة الشهيد، أما أولئك الذين لقوا حتفهم أمام الملعب فأُطلق عليهم اسم البلطجية واتهموا بالخيانة”، وأوضح أن خوف والدته على سلامته قد يكون السبب الوحيد الذي قد يدفعه للعودة إلى دياره، لكنه أضاف بسرعة: “لو كنت أحد مشجعي الزمالك الذين ماتوا أمام الاستاد، لن تتعامل أمي فقط مع حادثة موتي، ولكن أيضًا مع سمعتي التي كان سيتم تلطيخها ظلمًا، كان من الممكن أن أكون أحد هؤلاء الشباب الذين لقوا حتفهم في الوطن”.
المصدر: ميدل إيست آي