ترجمة وتحرير نون بوست
زار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الثلاثاء 3 مارس، الولايات المتحدة الأمريكية وألقى خطاب أمام الكونغرس الأمريكي، إدارة أوباما مستاءة من قيام رئيس مجلس النواب جون بينر بدعوة نتنياهو دون استشارة البيت الأبيض واتهمت الإدارة بوينر بالمزايدة السياسية، من جهته أشار نتنياهو أنه قادم لتحذير الولايات المتحدة من التهديد الإيراني، ولكن النقاد الإسرائيليين اتهموا موقف نتنياهو أنه مسرحية سياسية تهدف لتحسين موقفه أمام الرأي العام قبيل الانتخابات العامة القادمة في إسرائيل، أما بوينر فقد نفى أن تكون له أي نية سياسية خلف دعوة نتنياهو لسماع وجهة نظره حول الملف الأمريكي – الإيراني، علمًا أن إدارة أوباما حذرت من أن الخطاب يهدد نسيج العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية.
دعونا نبدأ بالأمور الواضحة التي ذكرناها سابقًا، أولاً يجب أن نتذكر أن هذا مجرد خطاب، ونتنياهو لم يأتِ بأي جديد حول موضوع إيران، بالنظر إلى أنه سبق له وأن تحدث كثيرًا عن مواقفه حول هذا الملف، ولم يكن هذا الخطاب هو الأول من نوعه الذي يوضح اتجاهاته السياسية، ثانيًا كل من شارك في هذا الخطاب يتخذ المواقف السياسية ويزايد بها، فالحضور هم جمهور سياسي، وهذا ما يفعله السياسيون، ثالثًا فكرة أن العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية يمكن تمزيقها نتيجة لخطاب هي فكرة سخيفة، فإذا كان الخطاب هو كل ما يتطلبه الأمر لإنهاء العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية، فيمكننا القول عندها إن العلاقات بين البلدين ممزقة أساسًا.
إذا تركنا الخطابات جانبًا، وركزنا على موضوع العلاقات الحقيقية، فليس هناك شك في أن العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية تغيرت بشكل كبير منذ نهاية الحرب الباردة، وهذا التغيير – الذي توقف لفترة بعد أحدث سبتمبر – أدى إلى إبعاد المسافات وخلق توتر بين البلدين، وبهذا المنظور يكون خطاب نتنياهو مجرد عَرَض للواقع السياسي المخبأ، هذا الواقع الذي تتم تغطيته بمسرحيات سياسية تظهر العداوات الشخصية، ولكن الرؤساء ورؤساء الوزراء يتغيرون، والمهم في هذا السياق هو المصالح التي تربط الدول أو تفصلها، ويمكننا القول إن مصالح إسرائيل والولايات المتحدة تباعدت نوعًا ما، وتباعد المصالح هو الموضوع الذي يجب التركيز عليه، خاصة في ظل وجود أساطير مختلقة حول العلاقة الأمريكية – الإسرائيلية التي خلقها دعاة العلاقات بين البلدين أو معارضو العلاقات أو الأعداء الخارجيين لكلا البلدين.
بناء العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية
من المهم أن نشير إلى أن علاقات الولايات المتحدة وإسرائيل لم تكن دائمًا وثيقة، فالبداية كانت باعتراف الولايات المتحدة بدولة إسرائيل منذ تأسيسها، وحينها بقيت علاقات الدولتين باردة حتى حرب الأيام الستة “نكسة حزيران” في عام 1967.
في عام 1956 عندما عمدت إسرائيل بالتعاون مع بريطانيا وفرنسا إلى القيام بالعدوان الثلاثي على مصر، طالبت الولايات المتحدة بانسحاب إسرائيل من سيناء وقطاع غزة، وفعلاً امتثلت إسرائيل لهذا الطلب، وفي تلك الفترة لم تقدم الولايات المتحدة أي مساعدات لإسرائيل باستثناء المساعدات الغذائية المقدمة من خلال برنامج الأمم المتحدة الذي يخدم أساسًا العديد من الدول، وحينها لم تكن الولايات المتحدة تعتبر نفسها معادية لإسرائيل، كما أنها لم تعتبر علاقتها مع إسرائيل ضرورية وحاسمة.
هذه العلاقات طرأ عليها تغير إيجابي طفيف قبل حرب 1967، هذه الفترة التي كانت تتميز بالانقلابات الموالية للاتحاد السوفيتي في سوريا والعراق من قِبل الأحزاب البعثية، وردًا على هذا التهديد أنشأت الولايات المتحدة حزام صواريخ أرض – جو يمتد من السعودية إلى الأردن وإسرائيل في عام 1965، وكان الغرض منه التأسيس لنظام حربي قادر على مواجهة امتداد القوة السوفييتية في المنطقة، وهذا الحزام يُعتبر المساعدة العسكرية الأولى التي قدمتها أمريكا لإسرائيل، فحتى عام 1967 كانت إسرائيل تحصل على تسليحها بالمقام الأول من فرنسا، وأيضًا في هذه الفترة لم يكن لدى الولايات المتحدة أي اعتراض على علاقاتها مع إسرائيل، ولكنها في ذات الوقت لم تعتبرها علاقات جوهرية وحاسمة.
غيّرت حرب الأيام الستة عام 1967 من وجه العلاقات ما بين اسرائيل وأمريكا، فبعد الحرب سعت فرنسا إلى تحسين علاقاتها مع العرب، لذا توقفت عن بيع الأسلحة لإسرائيل، وشهدت الولايات المتحدة تحول مصر لتصبح قاعدة بحرية وجوية سوفيتية مثل سوريا، وهذا التحول هدد الأسطول السادس الأمريكي وباقي المصالح الأمريكية في شرق البحر المتوسط، وعلى وجه الخصوص كانت الولايات المتحدة قلقة بخصوص تركيا، كون وقوع البوسفور في أيدي السوفيت من شأنه أن يُحكم سيطرة الاتحاد السوفيتي على البحر المتوسط وجنوب أوروبا، وفي هذه المرحلة أصبحت تركيا مهددة ليس فقط من الشمال ولكن أيضًا من الجنوب “سوريا والعراق”، حينها قامت إيران – التي كانت حليف الولايات المتحدة في وقتها – بإجبار العراق للتركيز على الشرق بدلاً من الشمال، وأجبرت إسرائيل سوريا للتركيز على الجنوب، وبمجرد قطع فرنسا لعلاقتها مع إسرائيل، وتوحيد مواقفها مع السوفيت في مصر وسوريا في أعقاب حرب الأيام الستة، اضطرت الولايات المتحدة لتكوين علاقة مختلفة مع إسرائيل.
يُقال إن حرب عام 1967 ودعم الولايات المتحدة لإسرائيل في وقت لاحق لها، أثار مشاعر معاداة أمريكا لدى العرب، ولكن في الواقع هذه المقولة مبالغ بها، فمما لا شك فيه أن هذه الحرب والمساعدات اللاحقة عمقت المشاعر المعادية للولايات المتحدة بين العرب، لكنها لم تكن الحادثة التي أدت إلى تكوين هذه المشاعر أساسًا، لأن مصر انحازت نحو الاتحاد السوفيتي في عام 1956 على الرغم من أن الولايات المتحدة حينها كان موقفها مضادًا لإسرائيل وتدخلت لوقف العدوان الثلاثي، أما سوريا والعراق انحازتا نحو المعسكر السوفييتي قبل بدأ إرسال المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل، ولكن بشكل عام يمكن القول إنه بعد عام 1967، بدأ تعميق العلاقة الأمريكية الإستراتيجية مع إسرائيل، وأصبحت أمريكا مصدر إسرائيل الرئيسي للمساعدات العسكرية، وارتفع هذا الدعم خلال حرب عام 1973 التي اندلعت بين العرب وإسرائيل، حيث ارتفعت مساعدات الولايات المتحدة في الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي من حوالي 5% إلى أكثر من 20% في العام التالي للحرب.
الولايات المتحدة كانت تعتمد إستراتيجيًا على إسرائيل للحفاظ على توازن القوى في شرق البحر المتوسط، ولكن حتى خلال هذه الفترة، كان لدى أمريكا مصالح إستراتيجية متناقضة مع إسرائيل، فعلى سبيل المثال، وكجزء من سياسة تشجيع الانضمام إلى المعسكر الأمريكي بعد حرب عام 1973، توسطت الولايات المتحدة بالتفاوض على الانسحاب الإسرائيلي من سيناء رغم أن الإسرائيليين كانوا مترددين للغاية من اتخاذ هذه الخطوة، ولكن لم يكن بإمكانهم توقي القيام بها تحت الضغوط الأمريكية، وبالمثل عارض الرئيس الأمريكي رونالد ريجان الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، ولم يكن التدخل الأمريكي الأولي في لبنان ضد العناصر العربية، بل كان يهدف إلى إيقاف إسرائيل، وبشكل عام يمكن القول إن السياسة الأمريكية في تلك الفترة كانت تعتمد إستراتيجيًا في المنطقة على إسرائيل، لكن العلاقة بين الدولتين لم تكن علاقة بسيطة نهائيًا، بل كانت متداخلة ومعقدة.
متطلبات الأمن القومي لإسرائيل فاقت دائمًا مواردها، لذا كان عليها دائمًا أن تنصاع لراعٍ خارجي، وفي البداية كان الاتحاد السوفيتي يقدم لها هذه الرعاية عن طريق تشيكوسلوفاكيا، ثم تحولت الرعاية نحو فرنسا، ومن بعدها نحو الولايات المتحدة، ويمكن القول إن اسرائيل لا يمكنها أن تتحمل مغبات استعداء الولايات المتحدة – الركيزة الأساسية للأمن الوطني الإسرائيلي -، ولكنها بذات الوقت لا يمكنها ببساطة الامتثال للرغبات الأمريكية، أما بالنسبة للولايات المتحدة، كانت إسرائيل أحد الأصول المهمة لها في المنطقة، ولكنها لم تكن أبدًا الركيزة الوحيدة المهمة؛ فعلى سبيل المثال كانت أمريكا تسعى للتوفيق بين دعمها لإسرائيل ودعمها للمملكة العربية السعودية، كون إسرائيل والسعودية كانتا جزءًا من التحالف ضد المعسكر السوفيتي، ولكنهما تتمتعان بمصالح متناقضة، وهذا التناقض يظهر واضحًا من الاستياء الإسرائيلي تجاه الصفقة الأمريكية التي تتضمن بيع أنظمة إنذار وتحكم جوي للسعودية، وباختصار كانت إسرائيل في تلك المرحلة بحاجة إلى الولايات المتحدة ولكنها كانت مستاءة من القيود المفروضة عليها من قِبل واشنطن.
علاقات ما بعد الاتحاد السوفيتي
انهيار الاتحاد السوفيتي دمر الأساس الإستراتيجي للعلاقة الأميركية -الإسرائيلية، ولكن لم يكن هناك سبب ملح لإنهاء هذه العلاقات التي بدأت في هذه المرحلة بالتطور والتباعد؛ فسقوط الاتحاد السوفيتي ترك سوريا والعراق بدون راعٍ، والجيش المصري الذي تم تسليحه من الولايات المتحدة، مفصول عن إسرائيل من خلال منطقة سيناء منزوعة السلاح التي تحافظ عليها قوات حفظ سلام أمريكية رمزية، وبالتالي لم تعد مصر تشكل مصدر خطر على إسرائيل، والأردن بدورها كانت حليف رئيسي لإسرائيل أيضًا؛ لذا بدأت الولايات المتحدة تطور رؤية مختلفة لمنطقة الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط، وإسرائيل حينها لم تواجه – للمرة الأولى منذ تأسيسها – أي تهديد مباشر للهجوم عليها، وبالإضافة إلى ذلك، ازدهر الاقتصاد الإسرائيلي في تلك الفترة بشكل لم تعد معه المساعدات الأمريكية – التي بقيت ثابتة – بذات الأهمية السابقة بالنسبة لإسرائيل؛ ففي عام 2012، شكلت المساعدات الأمريكية البالغة 2.9 مليار دولار حوالي 1% فقط من الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل.
هذه الأوضاع أعطت كلا البلدين مجالاً أكبر للمناورة السياسية، كون علاقتهما الإستراتيجية لم تعد إجبارية وحصرية، حيث استمرت هذه العلاقة بحكم العادة أكثر من استمرارها بحكم المصالح المشتركة؛ فالولايات المتحدة لم تكن مستفيدة من قيام إسرائيل ببناء وتوسيع مستوطناتها في الضفة الغربية، لكن مصالحها لم تكن قوية بما فيه الكفاية للمخاطرة بتمزيق العلاقة بإجبار إسرائيل على وقف سياستها الاستيطانية، وبالمقابل وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تعد تعتمد بدرجة كبيرة على الولايات المتحدة، إلا أنها – بذات الوقت – لا تستطيع أن تخاطر برفض أمريكا لسياساتها.
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التقت المصالح الأمريكية مع المصالح الإسرائيلية مجددًا، فمن وجهة النظر الإسرائيلية، أثبتت الهجمات أن الولايات المتحدة وإسرائيل لديهما مصلحة مشتركة ضد العالم الإسلامي، أما أمريكا فتطورت استجابتها لهذه الأحداث إلى شكل أكثر تعقيدًا، خاصة بعد أن أصبح واضحًا لها أن القوات الأمريكية في أفغانستان والعراق لم تكن قادرة على إحلال السلام في هذين البلدين؛ لذا أصبحت الولايات المتحدة بحاجة إلى إستراتيجية قادرة على منع استهدافها بهجمات جهادية أخرى، وهذا تطلب منها تعاونًا استخباراتيًا ليس فقط مع الإسرائيليين ولكن أيضًا مع الدول الإسلامية المعادية لإسرائيل، وهنا عادت المشكلة القديمة التقليدية بين البلدين، كون إسرائيل ترغب أن تركز الولايات المتحدة عليها باعتبارها الشريك الرئيسي والوحيد، ولكن علاقات وتعامل الولايات المتحدة في المنطقة هي أوسع وأكثر تعقيدًا من حصرها مع إسرائيل فقط، وهذا تطلب من أمريكا استعمال نهج أكثر دقة للتعامل مع التحديات الإستراتيجية التي تواجهها.
هذا هو جذر الاختلاف بين أمريكا وإسرائيل على إيران، فمن وجهة النظر الإسرائيلية، إيران وبرنامجها النووي يشكلان تهديدًا متأصلاً في المنطقة، لهذا ترغب إسرائيل أن تنحاز الولايات المتحدة ضد إيران، ورغم أن السؤال المهم في هذه المسألة هو مدى قرب طهران من تصنيع الأسلحة النووية، إلا أن إسرائيل لا يمكنها التغاضي أو السكوت عن البرنامج النووي الإيراني -مهما كان بعيداً عن إنتاج الأسلحة النووية – لأن أيديولوجية إيران تشكل تهديدًا وجوديًا على إسرائيل.
المشكلة الإيرانية
من وجهة النظر الأمريكية، فإن السؤال الرئيسي حول إيران – على افتراض أنها تشكل تهديدًا – هو هل يمكن تدمير إيران عسكريًا؟ الإيرانيون ليسوا حمقى، فهم لاحظوا السهولة التي استطاعت فيها إسرائيل تدمير المفاعل النووي العراقي في عام 1981، لذا قاموا بدفن مفاعلهم في أعماق الأرض، وبالتالي فإن قدرة الولايات المتحدة على تدمير برنامج إيران النووي من الجو ليست مؤكدة، وهذا يقودنا للقول إن تدميره يتطلب – على أقل تقدير – عمليات خاصة على الأرض، وبصرف النظر عن كون هذا العمل العسكري أكبر من قدرات الولايات المتحدة الحالية، فإنه ليس من الواضح أيضًا مدى قدرة هذه العمليات على النجاح على الأراضي الإيرانية.
إسرائيل تدرك تمامًا هذه الصعوبات، ولو كانت تعتقد لوهلة واحدة بإمكانية نجاح الهجوم على إيران، لكانت أقدمت عليه فعلاً، المسافة بين إيران وإسرائيل كبيرة جدًا، ولكن هناك دلائل تشير إلى أن الدول القريبة من إيران والتي لها مصلحة بتدمير برنامج إيران النووي قد تسمح لإسرائيل باستخدام أراضيها، ولكن مع ذلك، إسرائيل لم تهاجم.
في ظل عدم وجود خيار عسكري ناجح، وضمن النظرة المشككة حول وضع البرنامج النووي الإيراني، أصبح الخيار الوحيد من وجهة النظر الأمريكية هو حث إيران على الحد من برنامجها النووي بحيث يقتصر على الاستخدامات المدنية فقط، الحكومة الأمريكية الحالية أدركت أن الاستمرار بفرض العقوبات على إيران – أو زيادتها – لن تنهي البرنامج الإيراني، والحل هو الوصول إلى صفقة مع إيران تحد فيه من برنامجها مقابل إنهاء العقوبات الاقتصادية؛ فمن وجهة النظر الأمريكية عدم وجود خيار عسكري ناجح يبرر اتجاهها نحو التفاوض، أما الموقف الإسرائيلي يرى أن إيران لا يمكن الوثوق بها، ويعود الأمريكيون ليؤكدوا أنه في هذه الحالة لا توجد لديهم أي خيارات أخرى.
الاختلاف الأمريكي – الإسرائيلي حول القضية الإيرانية يخفي قضية أعمق من مجرد الخلاف الظاهري، كون إسرائيل تستوعب سبب اتجاه أمريكا نحو إبرام صفقة مع إيران، ولكن ما يخيف إسرائيل حقًا هو الإستراتيجية الأمريكية الجديدة التي مفادها أن حروب الاحتلال هي خارج القدرة الأمريكية، حيث توصلت أمريكا لهذه النتيجة بعد فشلها في إحلال السلام في أفغانستان والعراق، وعلى الرغم أن أمريكا مستعدة لاستخدام القوة الجوية أو قوات برية محدودة جدًا في العراق لمحاربة تنظيم داعش، إلا أنها مع ذلك لا تنظر في موضوع جلب قوات برية حاسمة إلى العراق كخيار مطروح للنقاش أصلاً.
إستراتيجية الولايات المتحدة المعقدة
بناء على ما تقدم، فإن الولايات المتحدة لديها إستراتيجية مزدوجة جديدة، الطبقة الأولى من هذه الإستراتيجية تتمثل بالحفاظ على المسافة التي تفصل أمريكا عن كبرى الانفجارات في المنطقة، فهي تقدّم الدعم ضمن هذه المسائل ولكنه واضحة بعدم قدرتها على تحمل المسؤولية كاملة لمعالجة هذه الأحداث، ومع تدهور الأوضاع على الأرض، تتوقع الولايات المتحدة أن تُجبِر هذه الصراعات القوى الإقليمية على تحمل المسؤولية في نهاية المطاف؛ فمثلاً في حالة سوريا والعراق، تتوقع أمريكا أن تعمل تركيا على تحمل المسؤولية كون هذا الصراع يجري على حدودها، وفي حال أرسلت تركيا قواتها الخاصة إلى هذه المناطق، فإن الولايات المتحدة ستدعمها بقوة محدودة، وبشكل عام تستعمل أمريكا هذه الديناميكية مع الأردن ودول مجلس التعاون الخليجي، حيث تتوقع أمريكا أن تتحمل المملكة العربية السعودية مسؤولية المصالح العربية السنية في مواجهة عملاء إيران في المنطقة، ولكن الأهم من كافة ما تقدم، هو أن التقارب الأمريكي – الإيراني يعمل بخلاف مصلحة تنظيم الدولة الإسلامية، كون هذا التنظيم عدو لأمريكا وإيران على حد سواء، وأنا لست متأكد من أننا يمكن أن نسمي ما يحدث “تعاون”، ولكن يوجد بالتأكيد تحركات متوازية ما بين إيران والولايات المتحدة في هذه المسألة.
الطبقة الثانية من هذه الإستراتيجية تتمثل بخلق توازن للقوى في المنطقة، فصحيح أن الولايات المتحدة تسعى لأن تتحمل القوى الإقليمية مسؤولية القضايا التي تهدد مصالحها أكثر مما تهدد المصالح الأمريكية، ولكن في الوقت نفسه، لا تريد لأي دولة أن تسيطر لوحدها على المنطقة، لذلك، فإن مصلحة أمريكا تتمثل بوجود قوى متعددة توازن بعضها بعضًا، وهناك حاليًا أربعة أمثلة على هذه القوى وهي تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية وإسرائيل، بعض هذه القوى متعاونة مع بعضها الآخر، وبعضها يعادي الآخر، والبعض يغيّر من إستراتيجياته مع مرور الوقت، بمعنى أكثر تخصيصًا، الولايات المتحدة تريد التخلص من الأسلحة الإيرانية، ولكنها لا تريد تحطيم قوة إيران، وهذه النهج هو جزء من نمط جديد من المسؤولية والتوزان الإقليمي.
هذا النهج الجديد هو لب المشكلة الإسرائيلية، فعلى الرغم من أن إسرائيل كانت دائما بيدقًا في إستراتيجية الولايات المتحدة، ولكنها كانت البيدق الأول والأساسي، ولكن ضمن هذه الإستراتيجية الأمريكية الناشئة، والتي تتضمن وضع إسرائيل مع عدة لاعبين إقليميين يوازنون بعضهم بعضًا، بالتوازي مع قيام الولايات المتحدة باتخاذ إجراءات – بحدها الأدنى – للحفاظ على هذا التوازن، تجد إسرائيل نفسها في علاقة معقدة مع ثلاث دول وهي غير متأكدة من قدرتها على إدارة الأمور بنفسها، وبقيام أمريكا بزج إيران ضمن هذا المزيج، تكون قد أقحمت ما تعتبره إسرائيل عنصرًا لا يمكن التنبؤ به، ليس بسبب القضية النووية الإيرانية فحسب، ولكن أيضًا بسبب النفوذ الإيراني المتنامي في سوريا ولبنان، والذي يفرض على إسرائيل تكاليف وتهديدات تسعى لتجنبها.
إذن الخلاف الأمريكي – الإسرائيلي ليس له علاقة بشخصية باراك أوباما وبنيامين نتنياهو، فالولايات المتحدة – من خلال تجاربها – أصبحت مقتنعة أنها لا تستطيع إحلال السلام عن طريق استعمال القوة الحاسمة، وتعريف الجنون هو القيام بذات التصرف مرارًا وتكرارًا وتوقع حصول نتيجة مختلفة، المعادلة أصبحت لدى الولايات المتحدة متمثلة بالآتي: إذا لم تكن الولايات المتحدة مشتركة بالصراع على الأرض، يصبح متحتمًا على القوى الإقليمية أن تتعامل مع هذه الصراعات بنفسها، وإذا قامت هذه القوى الإقليمية بتحمل المسؤولية التي يجب أن تتحملها، ينبغي أن توازن هذه القوى بعضها بعضًا، دون أن تهمين قوة إقليمية واحدة لوحدها على المشهد.
إسرائيل لا تريد أن تنظر لها الولايات المتحدة على أنها قوة واحدة من بين قوى متعددة، وسعت إلى فرض هذه النظرة من خلال التركيز على قضية إيران النووية، رغم أنها على يقين أنه لا يوجد مجال لتدمير المنشآت النووية الإيرانية، كما أنها مقتنعة أن العقوبات لن تجبر الإيرانيين على التخلي عن برنامجهم النووي، وما تخشاه إسرائيل هو التفاهم الأمريكي – الإيراني ونظام العلاقات الذي لن يكون دعم الولايات المتحدة لها من خلاله تلقائيًا.
بناء عليه، إلقاء الخطاب، واستحكام الخلاف بين أوباما ونتنياهو، وتغير الساسة الذين يعتلون دفة القيادة، هي أمور واقعة وصحيحة، ولكنها غير مهمة، كون الأمر المهم هو أن الولايات المتحدة- بغض النظر عن شخصية الرئيس – ستطبق إستراتيجية جديدة في المنطقة، وهذا هو خيارها الوحيد البديل عن محاولة احتلال سوريا والعراق، وإسرائيل – بغض النظر عن شخصية رئيس الوزراء – لا تريد أن تكون جزءًا من هذا النظام الذي تحتفظ فيه الولايات المتحدة بعلاقات مع جميع اللاعبين الإقليميين والذين من ضمنهم إسرائيل، ولكنها لا تملك الثقل الكافي لمنع هذه الإستراتيجية، والولايات المتحدة ليس لها بديل سوى أن تمضي قدمًا بها.
الموضوع لا يتعلق بأوباما ونتنياهو، وكلاهما يعرفان ذلك، الموضوع يتمثل بإعادة تشكيل المنطقة التي لا تستطيع الولايات المتحدة إخضاعها أو تركها، وبشكل مختصر إن جوهر إستراتيجية القوة العظمى يتمثل بخلق توازن للقوى تكون فيه القوى اللاعبة مجبرة على لعب دور لا تريده، وهي ليست إستراتيجية مثالية، ولكنها الحل الوحيد لدى الولايات المتحدة، وإسرائيل ليست وحدها التي لا ترغب بهذا الدور، بل تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية لا يرغبونه أيضًا، ولكن الجغرافيا السياسية لا تبالي بالرغبات، إنها تفهم فقط المقتضيات والقيود.
المصدر: ستراتفور