المقامات فن عربيّ أصيل، يقوم على إنشاء حكايات متخيّلة، بطلها واسع الحيلة سريع البديهة، متقد الذكاء ذَرِب اللسان، يعتمد الكُديَة* طريقة لكسب الأموال، وينقل حكايات بطلها راوية يلازمه، تدور بينهما حوارات نثرية وسجالات شعرية، يُظهر من خلالها المؤلف ذائقته الأدبية، وتبحره في اللغة، وتمكّنه من صنوف البلاغة والبديع والبيان، وقدرته على قَرْض الشعر وسجْع النثر.
ظهر فن المقامات أواخر القرن الرابع الهجري، فكان “سبّاق الغايات، وصاحب الآيات”، بديع الزمان الهمَذاني، ثم نسج على منواله، بديع زمانه، وشيخ العربية في آنه، أبو محمد القاسم الحريري البصري مقاماته المسمّاة بـ “المقامات الأدبية”، زاخرة بـ “جِدّ القول وهزْله، ورقيق اللفظ وجزْله، وغُرَر البيان ودُرَره، ومُلَح الأدب ونوادره، موشّحةً بالآيات، ومحاسن الكنايات، مرصعة بالأمثال العربية، واللطائف الأدبية، والأحاجي النحْوية، والفتاوى اللّغوية، والرسائل المبتكرة، والخطب المحبرة، والمواعظ المبكية، والأضاحيك الملهية، أملاها جميعًا على لسان أبي زيد السَّروجي، وأسند روايتها إلى الحارث بن همام البصري”، بإشارة – على الأصح – من الوزير جلال الدين وزير المسترشد: “مَن إشارته حُكْم، وطاعتُه غنْم” -، وذاك بعد أن قرأ المقامة الحراميّة فأُعجبَ بها، وألحّ عليه بمثيلاتها، “ولمّا لم يُسعِف بالإقالة، ولا أعفى من المقالة، لبى الحريري دعوتَه تلبيَة المطيع، وبذل في مُطاوَعته جُهد المستطيع”، فأوفاها خمسين مقالة كاملة.
ما الحجّ سيرُكَ تأويبًا وإدلاجا … ولا اعتيامُك أجمالاً وأحداجا
حظيت مقامات الحريري بشهرة قل نظيرها، فطارت كل مطار، وتغنى بها راكب الفلك وحادي القطار، وتلقفها أهل الأدب بعنايتهم واهتمامهم، فما بين راوٍ وناقد، ومترجم وشارح، ومتمثل ومستشهِد، إلى أن تجلى الجمال في عليائه، وأجلب الإبداع بخيلِه وخُيَلائه، متجسدًا بمنمنمات الواسطي، سِحرًا يثير الإعجاب، ويأخذ بالألباب، إذ مازج خطُّ الناسخ ريشة الفنان، فأبدع نسخة من المقامات بخط يده موشحة بمنمنمات تبعث في الحكايات الحياة، بألوانها الزاهية، وتفاصيلها الحية، ولاتزال هذه المخطوطة النفيسة محفوظة في مكتبة باريس الوطنية ، شاهدةً على مستوى الفن ورحابة الإبداع الذي وصلته الحضارة الإسلامية في تلك الأيام.
منمنمات الواسطي
التزم الحريري في مقاماته أن لا يورِد من الشعر إلاّ نظمه، سوى عدة أبيات على أصابع الكف عدها، وما عدا ذلك فخاطره أبو عُذْرِها، ومقتَضِب حُلوها ومرها، فأبدع أيّما إبداع، وأتحفنا بـ “خل ادكار الأربع” و”أيا من يدعي الفهم”، وغيرهما من القصائد والأشعار.
مما لا شك فيه أن المقامات يجمع فيما بينها نسق عام لا يخفى على القارئ، إذ يعتمد نصها الأدبي بشكل أساسي على الجمل القصيرة المسجوعة، وإيراد لكلمات عن مخيلة القارئ بعيدة، واعتماد أسلوب ما قُصدِ “من الإحماض فيه، إلا تنشيط قارئيه، وتكثير سواد طالبيه”، على أن بعض المقامات حوَت من البدائع ما يميزها، وينفرد به عن غيرها.
أورد الحريري في مقاماته أساليب فريدة؛ فقد امتازت المقامتان القطيعية والطيبية بالألغاز، اُختصت الأولى بالنحْوية منها، والثانية بالألغاز الفقهية، وكذلك الحال في المقامة النجرانية ذات الألغاز اللّغوية، في حين زخرت المقامتان الملطية والشتوية بالأحاجي والأعاجيب الشعرية، أما التبريزية فحفلت بكثرة الأمثال المودعة فيها، والفرضية – كما يشير اسمها إليها – فهي قائمة على قضية ميراث من علم الفرائض لكنها ملغوزة نظمًا، والساويّة كانت ” أيا من يدعي الفهم” عقدَ واسطتها.
لقد منح الله الحريري قدرة هائلة على تطويع اللغة بين يديه، وموهبة في التلاعب بالمعاني قبل الألفاظ، تشهد بذلك القلوب والفهوم والألحاظ؛ ففي المقامة السمرقندية أوردَ خطبة كاملة مهملة الحروف “نخبة بلا سقَط، وعروسًا بغير نُقَط”، وكذا الحال نفسه في الواسطية “خطبة لم تفتق رتْق سمع، ولا خُطب بمثلها في جمع”، ولما “فرغ من خطبته البديعة النظام، العريّة من الإعجام”، جاء بالمراغية خطبة كاملة بكلمة معجمة وأخرى مهملة، افتتحها بقوله: “الكرم ثبّت الله جيش سُعودِك يَزين، واللّؤمُ غَضّ الدّهرُ جفْنَ حَسودِك يَشين…”.
ثم قدّم للمقامة القهقرية بالمغربية؛ إذ أورد في المغربية “ما لا يستحيل بالانعكاس”، وهوما تقرؤه من اليمين إلى اليسار كقراءتك من اليسار إلى اليمين، مبتدئًا بما هو من كلمتين “ساكِب كاس” ، “كبّرْ رجاءَ أجر ربّك” … وهكذا حتى “نظم السّمط السباعي” فجاء بها نثرًا، ثم أورد عقِبها خمسة أبيات كاملة “لا تستحيل بالانعكاس”، هذا كله جاء مقدمة لما بعده في المقامة القهقريّة، في رسالة محبّرة من مائتي لفظة “أرضها سماؤها، وصُبْحها مساؤها، نُسجت على مِنوالين، وتجلّت في لونين، وصلّت إلى جهتين، وبدَتْ ذات وجهين، إن بزغت من مشرقها، فناهيك برونقها، وإن طلعَت من مغربها، فَيا لِعجبها!”، رسالة تقرؤها حتى إذا بلغت آخرها رجعت القهقرى كلمة كلمة، لتكمِل ما قرأت، وتتم ما ابتدأت، وتلك عندها 400 لفظة كاملة، افتتاحها “الإنسانُ صنيعةُ الإحسان، …”، أمّا ختامها – يا لختامها – “واتّقاء الشُنْعة، ينشرُ السُّمعةَ، وقُبح الجفاء، ينافي الوفاء، وجوهر الأحرار، عند الأسرار”، ثم قال: “هذه مئتا لفظة، تحتوي على أدبٍ وعِظة، فمَن ساقها هذا المساق، فلا مراء ولا شقاق، ومنْ رامَ عكسَ قالَبها، وأن يردّها على عقِبِها، فليقل: الأسرارُ عندَ الأحرار، وجوهر الوفاء، ينافي الجفاء، وقبحُ السُّمعة، ينشرُ الشُنعَةَ، ثمّ على هذا المسحَب فليَسحَبْها ولا يَرهبْها، حتى تكون خاتمة فِقَرِها، وآخِرةُ دُرَرِها: وربُّ الإحسان صنيعَة الإنسان”.
لم يقل إبداع الحريري شعرًا عن إبداعه نثرًا؛ ففي المقامة الشعرية أورد أبياتًا سداسية الأجزاء، ثمّ “حذف منها جُزأين، ونقَص من أوزانها وزنين”، فصارَتْ مجمع البحرين، ونالت كلتا الحسنيين.
يا خاطِبَ الدّنيا الدنيّةِ إنّها … شرَكُ الرّدى وقَرارَةُ الأكدارِ
دارٌ متى ما أضْحكتْ في يومِها … أبْكَتْ غدًا بُعْدًا لها من دارِ
*******
يا خاطِبَ الدّنيا الدنيّـــ … ــةِ إنّها شرَكُ الرّدى
دارٌ متى ما أضْحكتْ … في يومِها أبْكَتْ غدا
وهكذا في باقي الأبيات.
ولنا وقفةٌ هنا مع المقامة الحلبيّة – الطويلة نسبيًّا – إذ نُظمت فيها أبيات كلماتُها مهملة عارية عن النقط سمّاها “العواطل”، ثم أبيات أخرى حروف كلماتها معجمة منقوطة سمّاها “العرائس”، ثم الأبيات “الأخياف” كلمة معجمة تتبعها أخرى مهملة وهكذا دواليك، ثم الأبيات “المتائيم” التي يتجانس في البيت الواحدِ منها كلُّ لفظين متجاورين تجانسًا خطيًّا، ثم “المُطرَفَين” المشتبهَي كلمات الطرفين، ثم ذكَر الكلمات التي تُشكِل من ذوات السين، ثمّ ما يُكتب بالصاد وقد يلتبس بالسين، ثمّ ما يكتب بهما – أي بالسين والصاد معًا -، وختم بتمييز الظاء من الضاد؛ لأنّ الكلمات التي فيها حرف الظاء عزيزة نادرة في اللغة العربية إذا ما قورن بغيره من الحروف، وكل ما سبق نظمًا من إبداع الحريري رحمه الله، واكتفي بالإشارة – وربّ إشارةٍ عُدّت كلاما … ولفظٍ لا يُعدّ من الكلام – عن التمثيل، خوفًا من التطويل، وعملاً بقول أهل الحكمة: “التمثيل ليس من دأب أهل التحصيل”، ومن رامَ الاستزادة والإطناب، فدونَه قراءة الكتاب.
بعد هذا التَّطواف في ذلكم الإبداع المدهش، إلا أن الباحث لا يمكنه أن يلحظ منهجًا واضحًا للحريري في ترتيبه لمقاماته، بل الأظهر أنّها جاءت هكذا بلا ترتيب أو تراتبية فيما بينها، فكل مقامة منفصلة عن غيرها، غير مرتبطة بسباقها ولحاقها، وهذا ليس بدْعًا في مقامات الحريري فقط، بل ينطبق على مقامات بديع الزمان أيضًا وغيرها من كتب الأدب كالأماليّ وغيرها، وما ذُكر من افتتاح الحريري لكتابه بذكر المقامة الصنعانية كونَ صنعاء أول مدينة بُنيت بعد الطوفان تمحّل لا دليل عليه، وتكلّف يدحضه استقراء باقي المقامات التي وردت اعتباطًا بلا ترتيب، اللهم إلّا ما يرد نادرًا من ارتباط بين مقامة وأخرى تالية لها، كارتباط المقامة “الرمليّة” بالمقامة “الطيبية”، كون أحداث الأولى وقعت في مكة المكرمة والثانية في المدينة المنورة، مع استثناء المقامة الأخيرة “البصريّة” – إلى حيث الحريري ينتسب -، والتي أعلن فيها السروجي توبته، ووعظ الناس بقصيدته الخالدة “خلّي ادّكار الأربُع” ، ثم ودّع فيها الحارث بن همام بطلنا أبا زيد السروجي مستنصِحًا: “أوصِني أيّها العبد الناصح، فقال: اجعل الموت نُصب عينك، وهذا فراق بيني وبينك، فودعته وعبراتي يتحدرن من المآقي، وزفراتي يتصعدن من التراقي، وكانت هذه خاتمة التلاقي”، فللّه درّه من إمام هُمام، لم تسمحْ بمثلِه الأيّام.
هيهات أن يأتي الزمان بمثله … إنّ الزمان بمثله لبخيل
——————————–
* الكُدية : الشحاذة والتسوّل.