في الثالث من آذار/ مارس 1924، وبعد نقاش قصير نسبياً، على اعتبار عظم المسألة المطروحة، أصدر المجلس الوطني الكبير، برلمان الجمهورية التركية الوليدة، قراره بوضع نهاية لمؤسسة الخلافة وطرد آخر الخلفاء خارج البلاد.
جاء القرار بعد ست سنوات من اعتراف الدولة العثمانية بالهزيمة في الحرب الأولى، وعامين على انتصار المقاومة التركية بقيادة مصطفى كمال في حرب الاستقلال.
في أحد وجوهه، كان القرار نتيجة طبيعية لحدثي الهزيمة في حرب والانتصار في أخرى. ولكنه، على الأقل من حيث حمولته الرمزية، مثل أيضاً منعطفاً هائلاً في تاريخ الشعوب المسلمة، التي لم تعرف نظاماً آخر للمرجعية والسيادة السياسية طوال قرون. أما بالنسبة لتركيا نفسها، فقد كان القرار مقدمة لصعود النموذج الكمالي في الحكم والاجتماع ـ السياسي، الذي أصبح مثلاً يحتذى به في عدد ملموس من الدول العربية والإسلامية المجاورة. طوال التسعين عاماً الماضية، لم يتوقف الجدل حول قرار إلغاء الخلافة، ولا حول ما يعنيه النموذج الكمالي في تركيا وجوارها؛ ولا يبدو أن هذا الجدل في طريقه لأن يحسم قريباً.
التصور الذي ساد طوال عقود لمصير الخلافة في الأدبيات الإسلامية التقليدية، العربية والتركية على السواء، أن مصطفى كمال ومجموعة الضباط المحيطين به حملوا معهم مشروعاً انقلابياً على الخلافة والسلطنة العثمانية، سارعوا إلى تنفيذه عندما أتيحت لهم الفرصة بعد الانتصار في حرب الاستقلال؛ أو أن إلغاء الخلافة لم يكن سوى استجابة للضغوط البريطانية على قادة حرب الاستقلال أثناء مباحثات لوزان، التي وضعت نهاية لحرب تركيا مع الحلفاء واليونانيين، وضمنت استقلال تركيا في حدودها الحالية. الحقيقة، أن كلا التصورين لا سند له في الوقائع التاريخية، ولا في وثائق تلك المرحلة، التي أصبحت متاحة للباحثين في أغلبيتها العظمى.
ليس ثمة شك أن مصطفى كمال، كما مجموعة الضباط من رفاقه، الذين قادوا حرب الاستقلال خلال السنوات بين 1919 ـ 1922، تخرجوا في معاهد التعليم العسكري العثماني الحديث، وتشربوا أثناء سنوات تعليمهم وبعدها ليس فقط تقاليد العسكرية الأوروبية، ولكن أيضاً المفاهيم والثقافة الأوروبية الحديثة. ولكن تلك الخلفية ليست كافية لتفسير إلغاء السلطنة والخلافة، ولا جملة السياسات التي تعهدها الحكم الجمهوري بعد ذلك، وتركت أثراً عميقاً وبعيد المدى في الحياة والاجتماع ـ السياسي التركي. كان مصطفى كمال ضابطاً عثمانياً، كرس حياته العسكرية حتى نهاية الحرب الأولى للدفاع عن السلطنة وولاياتها، التركية والكردية والعربية. تطوع مصطفى كمال في 1911 لتنظيم وقيادة المقاومة الليبية للاحتلال الإيطالي، وقاتل بتميز بعد ذلك في جبهات غاليبولي والحرب مع روسيا، وكان آخر قادة الجيش العثماني في فلسطين وسوريا، حيث تحمل أعباء الانسحاب بأقل الخسائر أمام تقدم حملة أللنبي في بلاد الشام. عارض كمال هدنة مدروس في تشرين الأول/ أكتوبر 1918، التي وضعت نهاية للمشاركة العثمانية في الحرب الأولى، واعتبرها مهينة للسلطنة. وعندما عين لقيادة القطاع العسكري الشمالي في الأناضول في 1919، تسلم مهمته من السلطان نفسه. خلال الشهور التالية، قاد جهود تنظيم القوى العسكرية والسياسية والأهلية في الأناضول لمقاومة الاحتلال اليوناني في إزمير، وقوات الحلفاء التي بسطت نفوذها على قطاعات مختلفة من البلاد. والمؤكد أن المقاومة أعلنت باسم السلطان/ الخليفة، وظلت قيادة المقاومة تمنح نياشين الأداء العسكري العثمانية وتحتفل بعيد ميلاد السلطان حتى الشهور الأخيرة لحرب الاستقلال.
بيد أن العلاقة بين قيادة المقاومة في أنقرة وحكومة اسطنبول توترت بصورة ملحوظة بعد الاحتلال البريطاني للعاصمة العثمانية في ربيع 1920، وقيام المحتلين بحل البرلمان العثماني، ومن ثم تشكيل داماد فريد للحكومة العثمانية تحت الاحتلال. خلال الشهور القليلة التالية، ونظراً لمجاراة السلطان ورئيس حكومته للبريطانيين، سيما بعد توقيع اتفاقية سيفر المذلة في آب/ أغسطس 1920، تحول التوتر إلى حرب شعواء، تعهدتها حكومة داماد فريد على قيادة المقاومة في الأناضول والبرلمان البديل الذي ولد في أنقرة بعد حل برلمان اسطنبول. في بعض مناطق الأناضول، شكلت مجموعات عسكرية موالية لاسطنبول باسم السلطان، شنت هجمات متتالية على القوات التابعة للمقاومة، بحيث أصبحت الأناضول ساحة للحرب ضد الاحتلال الأجنبي، من جهة، وساحة لما يشبه الحرب الأهلية، من جهة أخرى. تحقق انتصار المقاومة في الأناضول في آب/ أغسطس 1922، ولم يكن لدى البريطانيين والفرنسيين والإيطاليين، بعد سنوات الحرب الأولى المرهقة، من رغبة أو طاقة لخوض حرب أخرى في تركيا. ولذا، قبل الحلفاء إلغاء معاهدة سيفر، ودعوا حكومتي اسطنبول وأنقرة إلى مباحثات جديدة في لوزان. لمحاصرة مخاطر التمثيل المزدوج، قام برلمان أنقرة، الذي اعتبر نفسه التجسيد الشرعي للشعب في ما تبقى من الدولة العثمانية، بإلغاء السلطنة، وإعلان أنقرة مركز الحكم الوحيد، مع الحفاظ على الخلافة، على أن تكون اسطنبول مقراً لها. غادر السلطان/ الخليفة محمد الخامس اسطنبول إلى المنفى، وانتخب برلمان أنقرة عبد المجيد الثاني خليفة وحسب.
أعلنت الجمهورية بعد توقيع معاهدة لوزان، وبدا واضحاً أن تركيا انتقلت من النظام السلطاني/ الإمبراطوري/ الإسلامي ـ الأممي إلى نظام الدولة الحديثة بمعناها القومي. احتضان الجمهورية خلافة إسلامية، بكل مدلولاتها الأممية، كان وصفة لتوتر مديد. ولكن المشكلة لم تقتصر على ما تستبطنه مؤسسة الخلافة من سلطة ونفوذ وحسب، بل أيضاً من اعتبارات ميزان القوة الجديد في المشرق. ما حرصت عليه تركيا الجمهورية لم يكن تجنب الطموحات الإسلامية العابرة للحدود فقط، بل أيضاً طموحات الجامعة التركية، التي روج لها كثيرون آنذاك، واستبطنت وحدة الشعوب التركية كافة، داخل الجمهورية وخارجها. كان مصطفى كمال، بعد حربين طاحنتين، يدرك أن الجمهورية ولدت في ظل توازن قوى عالمي ومشرقي جديد ولا تستطيع تحمل أعباء الجامعة الإسلامية أو التركية. ولكن ما أطلق التحرك في النهاية لإلغاء الخلافة كان تزامن تطورين مثيرين لقلق قادة الجمهورية: الأول، وتعلق بزيارة وفد إسلامي هندي للخليفة ونشر الوفد رسالة موجهة لرئيس الحكومة التركية، يدعوه للحفاظ على الخلافة وحمايتها؛ والثاني، وتعلق بالانقسام المتفاقم بين قادة حرب الاستقلال بين معسكر يقوده مصطفى كمال، ويضم رئيس الحكومة عصمت إينونو وقائد الأركان فوزي تشاكماك ووزير الداخلية كاظم أوزلاب، ومعسكر يقوده ضباط كبار ذوو تاريخ عسكري مجيد، مثل كاظم كارابكير، وعلي فؤاد، ورفعت بيلي، ورئيس البرلمان حسين رؤوف، الذين بدأوا الاعتراض على توجهات مصطفى كمال التحكمية والتسلطية. وبعد زيارة قام بها كارابكير للخليفة في اسطنبول، بدا أن المعارضين يسعون إلى استدعاء النفوذ المعنوي للخليفة في المواجهة مع مصطفى كمال.
بحسم الصراع الداخلي، أخذت ملامح النموذج الكمالي في التبلور شيئاً فشيئاً. فبالرغم من عدائهم للاستعمار الغربي، وإيمانهم باستقلال تركيا، أراد الضباط التحديثيون من قادة الجمهورية إقامة دولة حديثة، تستلهم عناصر القوة الغربية، ومتحررة من أعباء الماضي. ولخشيتهم المتأصلة من عوامل الانقسام والتشظي التي كسرت ظهر السلطنة في حقبتها المتأخرة، وإدراكهم أن الشعب هو خليط من أعراق وثقافات مختلفة، سعى القادة الجدد إلى صهر الشعب، بأتراكه وأكراده وعربه وشركسييه وكريته، إلخ، في هوية تركية، قومية، متصورة. وهذا ما تجلى في المشروع العلماني الراديكالي، من جهة، والمشروع التتريكي، الذي لم يقل راديكالية، من جهة أخرى، اللذين عمل الحكام الجدد بلا هوادة على فرضهما بقوة الدولة على المجتمع. خلال العقود القليلة التالية، أصبح النموذج الكمالي مصدر إلهام لضباط طموحين وزعماء وقادة في إيران وأفغانستان والعراق ومصر وتونس، وغيرها. اليوم، وبعد مرور مئة عام على الحرب الأولى وتسعين عاماً على ولادة الجمهورية التركية، لم يعد ثمة شك في الحصاد المر والتكاليف الباهظة لمحاولات استلهام النموذج والصراع الاجتماعي ـ السياسي الذي أطلقه. هزم النموذج في إيران وأفغانستان، وهو في طريقه إلى الانحسار في تركيا ذاتها؛ أما في العالم العربي، فلم يزل الصراع محتدماً.